من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة


فئة :  قراءات في كتب

من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة

 من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة*


الكتاب: وائل حلاّق، الدولة المستحيلة (الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقيّ)، ترجمة عمرو عثمان، مراجعة ثائر ديب، قطر، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ط2، 2015.

البحث التالي قراءة في كتاب، قرأ بدوره الحداثة والتاريخ الإسلاميّ، فهو إذن قراءة على قراءة. وهو بالتالي محكوم في رؤيته ومنهجه، بوعي قارّ بأنّه تأويل لتأويل. وهو أيضا لطبيعة هذا الوعي فيه يدرك أنّ ما من حقائق يدركها، إنّما حسبه، ومطلوبه أن ينتج التأويل. يستجيب هذا الإدراك لشروط المعرفة بالإنسان وتعبيراته، بوصفها فهما لا تفسيرا، ففي كلّ فهم هناك فهم قبليّ، كما يستجيب إليها بوصفها تأويلا متجدّدا ينطلق من إنصات لطلبات الذات المؤوّلة.

ويتحدّد في ضوء هذا منهج القراءة، في وعيه بإيديولوجيّته الموجّهة محاصرة لهذه الإيديولوجيّة، تنجز في منهج القراءة، وفي الحرص على تمكين المطلب الإيديولوجيّ الموجّه من شروط موضعته (objectivation) المعرفيّة.

مطلبنا الإيديولوجيّ في هذه القراءة هو البحث عن حلول لمشروع الدولة في العالم الإسلاميّ، نراها في ظلّ قبليّاتنا المعرفيّة والإيديولوجيّة الرّاهنة، أنسنة عامّة لمعنى الحياة عندنا، وفهم هذه الأنسنة انفتاحا على تعريف إنسانيّ للحياة، ينطلق من تعريف متجدّد للإنسان.

أمّا منهجنا في القراءة الذي نحاصر به إيديولوجيّتنا الضروريّة، ونعلن به رقابتنا عليها فهو منهج النقد النظريّ أو النسقيّ الذي يعتمد النمذجة حلاّ للإيديولوجيا ينسجم مع طبيعة القراءة التأويليّة.

ومن هذا المنظور نعتبر كتاب وائل حلاّق مشروعا في الدولة في المجال الإسلاميّ، يقدّم لها حلاّ أخلاقيّا، وهو يستلهم إلى حدّ بعيد المشروع الأخلاقيّ التخليقي للدولة الحديثة الذي صاغه من بين الفلاسفة الأخلاقيّين ما بعد الحداثيّين، أمثال ألادير ماكنتاير(Alasdair Macintyre)، وشارل لارمور(Charles Larmore)، وشارلز تايلور(Charles Taylor).

كلّ مشروع فكري يريد إنتاج المعرفة، وتقديم حلول الواقع على أساسها، هو بالضرورة نسق فرضي استنتاجي، يقوم على مقدّمات فكريّة، نظريّة، وعمليّة، تمثّل منطلقاته النظريّة العامّة أو قبليّاته الفكريّة التي يصدر عنها، وأفكاره الإيديولوجيّة العمليّة التي يدافع عنها، وأدواته النظريّة التي يمارس بواسطتها تفكيره، وأدواته الإيديولوجيّة العمليّة التي يتصوّرها وسائل لتحقيق أفكاره، ونتيجة يتوقّع تحقّقها، هي في الواقع الهدف الإيديولوجي الذي يصاغ من أجله هذا المشروع.

ومن ثمّ فإنّ نقد هذا المشروع في الدولة، لا يمكن أن يكون مثمرا معرفيّا، ما لم يهتمّ به من هذه النواحي، أي ما لم ينظر إلى أفكاره الجزئيّة في إطار هذه المكوّنات للنسق المعرفي. ويعيّن هذا، فضلا عن منظورنا النمذجيّ، مراحل قراءته في مرحلتين أساسيّتين، أوّلهما تبيّن إطارها النسقيّ الذي يعطي للأفكار الجزئيّة مدلولها، ويدرجها في تمشّ معرفيّ، يكون موضوع التقويم. وثانيها ممارسة التقويم من الجهات الأساسيّة المكوّنة للنسق النظريّ.

و على هذا الأساس فإنّ قراءة كتاب وائل حلاّق بوصفه مشروعا فكريّا، تكون قراءة نسقيّة، تعتمد المنهج السابق في القراءة. ولهذا فهي تحاول تبيّن خطاطته النظريّة العمليّة، قبل أن تتولّى تقييمها من جوابنها الرئيسيّة.

أ- الخطاطة النظريّة للمشروع

متى حاولنا رسم خطاطة مشروع وائل حلاّق للدولة، في كتابه هذا، جاز لنا القول إنّه نسق فرضيّ استنتاجيّ، يقوم على مقدّمات نظريّات تمثّل قبليّاته الفكريّة المؤطّرة لأفكاره فيه، ويلخّصها إيمانه شبه الأفلاطوني بوجود موضوعي ميتافيزيقي للحقيقة والقيمة. وهو إيمان ينسحب على تصوّره لواقع الحياة الإنسانيّة، لاسيّما في قطاعها السياسي، فيحدّد مقدّمته الإيديولوجيّة في هذا الكتاب، بوصفها إحلالا للقيمة في عالم السياسة، يعتبره الحلّ الوحيد لأزمة الدولة الحديثة، ويتصوّره في ربط الدولة الإسلاميّة المطلوبة بالشريعة. إنّ الشريعة وقد عدّت الأداة العمليّة لمشروعه، تترجم عنده في المستوى الواقعيّ بمجموعة من الأدوات العمليّة الإجرائيّة هي خليط بين ممارسات قانونيّة، وتعبّديّة، ومبادئ في تحقيق ارتباط القانوني بالشرعيّ الأخلاقيّ. ومادامت صناعة المعرفة تفترض صناعة المفاهيم، فإنّ وائل حلاّق يستعين في بلورة أفكاره بعدّة مفاهيميّة، تتأسّس على مفهومين أساسيّين، هما مفهومي النموذج، والنطاق المركزيّ. ويمثّل هذان المفهومان أداتي صورنة تصاغ في ضوئهما مجموعة من التعريفات، للدولة، والشريعة، والقانون، والأخلاق، كما يصاغ على أساسهما، تعريف الحكم الإسلاميّ، والدولة الحديثة.

ففيما يخصّ المقدّمات النظريّة الفكريّة، أو الماقبليّات الفكريّة، فيمكن القول إنّها رؤيته للكون، وللإنسان، وهذه وإن كانت تتّضح أكثر في الفصل السابع في تصوّره الأخلاقي الذي يفسّر فهمه للإنسان، فإنّها مبثوثة في كامل الكتاب، ويمكن اختزالها في إيمان وائل حلاّق بمفهوم الحاكميّة، بمعناه المشترك عند دعاة الإسلام السياسيّ، من منظّريه الإيديولجيّين (البنّا، والمودودي، وقطب) إلى تمثيلاته الخصوصيّة الوطنيّة (عبد السلام ياسين، يوسف القرضاوي، راشد الغنّوشي، حسن الترابي..)، أي بوصفه تفسيرا للكون، يقرّ بسيادة اللّه عليه، وما يفترضه ذلك من تبعات هذه السيادة العمليّة في تعريف الإنسان، وفي تصوّر كلّ قطاعات حياته: الأخلاقيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة. إنّ نتيجة هذا الإيمان تتجلّى إيمانا بوحدة الوجود (ص 280 من الكتاب) يعني عند حلاّق، الإقرار بوحدة الحقيقة والقيمة، أي بوحدة ما هو كائن وما يجب أن يكون، أي بأنّ الحقيقة ثابتة لها وجود موضوعيّ، وأنّ القيم التي تبنى عليها محدّدة سلفا إذن. ينطبق هذا عند حلاّق على العالم والإنسان، ويؤدّي إلى أنّ معناهما محدّد سلفا، فالعالم في ذاته حامل للأسباب وللقيمة، وهو بأسبابه ومعاييره الكونيّة ملزم للعقل بالعمل بها. من هنا يكون عمل العقل استكشاف الأسباب السابقة عليه، والاستجابة لمطالبها الأخلاقيّة القيميّة التي تفرضها عليه. يعني هذا من منظور التذييت أنّ مضمون الذات والذاتيّة ناجز، وليسا مسارا مستمرّا في التاريخ. يقول حلاّق في هذا المعنى: "إنّ بنية نظام الأركان - يقصد أركان الإسلام الخمسة- وعمله يحدّدان سلفا كلاّ من الذات والذاتيّة" (الكتاب، ص 282). أمّا مقرّ استكشاف هذا النظام السببيّ الأخلاقيّ المعرّف للذاتيّة أي الذي يمدّها بنظام الأسباب وبالأخلاق الكونيّة، فهو القرآن. فالقرآن كما يقول حلاّق ينشغل بكشف الخصائص النموذجيّة لهذا النّظام، وهو الذي يوضّح لنا هذا النظام الأخلاقيّ الكونيّ الذي يملي على عقولنا التزامها الأخلاقيّ (الكتاب، ص 292).

ويتّصل التصوّر السابق لمفهوم الحاكميّة بدلالته السياسيّة، بما أنّه يمثّل الإطار النظري الذي يؤطّر تصوّره للدولة، إذ يمدّه بمصدر السيادة فيها، ومصدر القانون، فكلاهما مقرّه الذات الإلهيّة، الواقفة وراء كلّ نظام الأسباب المسيّر للعالم والإنسان، والقيم الكونيّة التي تشدّه إليها. ("فالعيش في العالم هو عيش في مملكة اللّه"، (الكتاب، ص 280)، و"إذا كان اللّه صاحب السيادة الوحيد... فإنّ أيّ نظام يضبط السلوك الإنسانيّ يجب أن يهتمّ بالمعايير العامّة والقواعد والأحكام التقنيّة المستمدّة من المبادئ الأخلاقيّة العليا التي تمليها، وهذا بالنسبة إلى المسلمين في الماضي والحاضر هو المعنى الحقيقي والأسمى لحكم القانون" (الكتاب، ص 279). ولذا "لا يمكن للحكم الإسلاميّ أن يرضى بسيادة أو إرادة سياديّة غير سيادة اللّه" (الكتاب، ص 278).

بهذه المقدّمة النظريّة الكبرى يصوغ وائل حلاّق مصادرته الإيديولوجيّة، أو مقدّمته الفكريّة الإيديولوجيّة في هذا الكتاب، أي هدفه منه، بوصفه تأكيدا لاستحالة استمرار الحكم الإسلامي في العالم الحديث، ففي هذا المعنى يقول: "بيد أنّ النتائج الكليّة لهذه النقطة وما تطرحه الفصل السابقة واضحة: إذا أخذنا كلّ العوامل في الاعتبار، فإنّ الحكم الإسلاميّ لا يستطيع الاستمرار بحكم الظروف السائدة في العالم الحديث" (الكتاب، ص 26)، هذا هدف إجرائيّ صريح، أماّ الهدف الإيديولوجي الضمني، فهو أنّ هذا الكتاب يعرض مشروعا لتخليق الدولة الحديثة الناقصة بالدين، باعتبار هذا المشروع حلاّ بديلا عن الدولة الحديثة لمشكلة السلطة بالنسبة إلى المسلمين الذين صاروا يعيشون بها منذ القرن التاسع عشر، ففي هذا السياق يدخل قوله إنّ "الاستقلال الأخلاقيّ يمثّل أكبر المطالب المرجوّة" (الكتاب، ص 287) من الحياة، ومن السياسيّ تحديدا .

وعلى أساس هذه المقدّمات النظريّة أيضا يصوغ أطروحته ومضامين مختلف نمذجاته المعياريّة المنهجيّة (تعريفه للدولة، للقانون، للأخلاق، للشريعة)، أو عمليّات المفهمة للواقعين والتاريخين الغربي الحديث، والإسلاميّ القديم، في شكل سرديّات تعريفيّة لهما، تمثّل عماد تمشّيه الحجاجي الاستدلالي المعتمد في هذا الكتاب.

فالمقدّمة الفكريّة الإيديولوجيّة، أو المصادرة الإيديولوجيّة، هي أنّ الشريعة تمثّل الحلّ الأخلاقي لمشكلة الدولة في الفكر العربيّ المعاصر، وفي الفكر الإنسانيّ عامّة. (يقول: "ينبغي التأكيد بصورة مطلقة أنّ أطروحة هذا الكتاب تنبني على المقدّمة الآتية: ربّما تكون إعادة الصياغة المبدعة للشريعة والحكم الإسلاميّين أكثر الطرق الملائمة والبنّاءة لإعادة تشكيل المشروع الحديث الذي هو بحاجّة ماسّة إلى إعادة البناء والتكوين على أسس أخلاقيّة." الكتاب، ص 23، الهامش 15). وهذه المصادرة هي التي تحدّد أطروحة الكتاب، المختزلة في عنوانه تحت عبارة "الدولة المستحيلة"، وتوجّه عمليّة الاستدلال عليها في كلّ فصوله. أمّا محتوى هذه الأطروحة، فيدرك في صياغاتها التالية:

-   "أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: إنّ مفهوم "الدولة الإسلاميّة" مستحيل التحقّق، وينطوي على تناقض داخليّ، وذلك بحسب أيّ تعريف سائد لما تمثّله الدولة الحديثة" (الكتاب، ص 19)

-   "أطروحة هذا الكتاب، كما ألمحنا، توضّح أنّ أيّ تعريف لدولة إسلاميّة حديثة، متناقض ذاتيّا بصورة جوهريّة" (الكتاب، ص 23)

-   "و أطروحة هذا الكتاب هي أنّ ذلك التناقض الذاتيّ الأصيل في مفهوم الدولة الإسلاميّة يقوم في الأساس على مأزق الحداثة الأخلاقيّ" (الكتاب، ص 24)

-   "سنحاجج (في الفصل السادس) بأنّ الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوّة، يكفيان لجعل أيّ صورة من الحكم الإسلاميّ إمّا أمرا مستحيل التحقّق، أو غير قابل للاستمرار على المدى البعيد" (الكتاب، ص 26).

وتمكّن نظرة تأليفيّة بين المقدّمة الإيديولوجيّة (الهدف)، والأطروحة، من تفهّم المسار المزدوج لسيرورة الحجاج المعتمد في هذا الكتاب، فلئن كان الحجاج يسير في اتّجاه تأكيد التخارج بين شكل الحكم النموذجي في الإسلام، وشكله الدولتي الحديث، من جهة علاقتهما بالأخلاق، ومن ثمّ تأكيد استمرار نظام الحكم الإسلامي في مثل هذه الظروف، فإنّه يسير أيضا في اتّجاه تأكيد أنّ الحلّ الأخلاقيّ لهذه الدولة موجود في نموذج الحكم الإسلاميّ، في الشريعة. ومن هنا تمثّل الشريعة جوهر البناء الدولتي المطلوب، أو أداته العمليّة، فهي أداة تأسيس الدولة وهي أداة بناء الذاتيّة، وبناء الاقتصاد الإسلاميّ، لأنّها الضامن الوحيد لارتباطها الأخلاقي المفقود في الدولة الحديثة.

أمّا التبعات العمليّة لهذه المقدّمات النظريّة، أي الأدوات التي تنجز بها ترجمة الشريعة بوصفها أخلاقيّة في المستوى السياسيّ، فهي أداوت خليط من أداوت جهازيّة دولتيّة قانونيّة، ذات أسس أخلاقيّة دينيّة، وممارسات اجتماعيّة واقتصاديّة، عمليّة ذات ارتباط أخلاقيّ دينيّ مبنيّة على نظريّة المقاصد، وممارسات دينيّة تعبّديّة دورها تأسيس الذاتيّة، أي مفهوم الفرد المكوّن للمجتمع، وللطبقة السياسيّة الحاكمة، على أسس أخلاقيّة دينيّة تمثّلها أركان الإسلام الخمسة. وهي في أحيان أخرى توحي من بعض تعريفات الشريعة التي تطابقها مع اجتهادات الفقهاء القدامى، بأنّها مجمل الأعمال الفقهيّة القديمة.

من هذه الأدوات ما يتحدّث عنه حلاّق في الصفحة الخمسين بعد المائتين من كتابه، في قوله: "لنفترض بقصد النقاش أنّ نظاما إسلاميّا قد تحقّق بالكامل. ولنفترض أنّ الشروط الدنيا لهذا التحقيق قد استوفيت بما في ذلك الأمور الآتية، من دون اقتصار عليها: 1- تأسيس سيادة إلهيّة تترجم فيها قوانين اللّه الأخلاقيّة الكونيّة باعتبارها نظاما من المبادئ الأخلاقيّة إلى قواعد قانونيّة عمليّة، 2- فصل صارم للسلطات تكون فيه السلطة التشريعيّة -باعتبارها مكتشفة القواعد القانونيّة العمليّة المذكورة- مستقلّة بالكامل، وتمثّل بصورة حقيقيّة مصدر كلّ القوانين في البلد، 3- السلطتان التشريعيّة والقضائيّة منسوجتان من نسيج أخلاقيّ لحمته وسداه خليط متكامل من الحقيقة والقيمة ومن "ما هو كائن" و"ما ينبغي أن يكون"، 4- سلطة تنفيذيّة يقتصر عملها على وضع الإرادة السياديّة موضع التنفيذ، ويسمح لها بإصدار لوائح إداريّة مؤقّتة وضيّقة النطاق تتّسق مع تلك الإرادة، 5- وضع تكون فيه "القواعد القانونيّة" العمليّة القائمة على الأخلاق في خدمة المجتمع، وتدعم المجتمع كمجتمع وتخدم مصالحه ككيان مؤسّس أخلاقيّا (يشمل هذا جرعة شافية من المساواتيّة، ونظام عدالة اجتماعيّة قائم على القرآن)، 6- مؤسّسات تعليميّة على كلّ المستويات، يصمّمها ويديرها مجتمع مدنيّ مستقلّ بالكامل وتشكّله جدليّة الشروط الخمسة السابقة، 7- نظام تعليميّ ابتدائيّ وعال يطرح أسئلة عن معنى الحياة الفاضلة ويجيب عنها، ولا يتناول العلوم والإنسانيّات إلاّ بقدر ما تتطلّب الحياة الفاضلة الأخلاقيّة (فلا يجري التعامل مع العقل على أنّه أداة)، 8- تحوّل مفهوم المواطن بنجاح إلى مفهوم المجتمع الأخلاقيّ النموذجيّ الذي يرتبط كلّ فرد فيه بالآخرين بعلاقة أخلاقيّة متبادلة (هنا يختفي مفهوم السياسيّ بمعناه لدى شميث (Schmitt) ومعه مفهوم تضحية المواطن)، 9- ممارسة أفراد الأمّة المسلمة فنّ الاهتمام بالنفس ناظرين إلى أنفسهم، جماعات وفرادى، على أنّهم امتداد للكون الأخلاقيّ".

ومن هذه الأدوات أيضا مجمل أركان الإسلام، كالشهادتين والصوم والصلاة والزكاة، وقد تحوّلت إلى عناصر أساسيّة أدلوجيّة، حسب عبارة العروي، تضع أسس الالتزام الطوعي لما يصدر عن الحكم الإسلاميّ من قوانين، وتضمن عمل الشريعة في المجتمع، فـ "أن يكون المرء خيّرا، هو مفهوم محدّد يمكن رصده في الأركان الخمسة للدين..(و) كلّ شيء آخر ثانوي وتابع لها...يجب أن يوافق أوامر الأركان وإرادتها الكليّة." (الكتاب، ص281-282). ولذلك "فإنّ الشريعة لا يمكن فهمها ولا يمكن أن تعمل في أيّ سياق اجتماعيّ من دون تبعاتها الأخلاقيّة، فالشريعة من دون مجتمع أخلاقيّ (يفترض أفرادا مؤسّسين أخلاقيّا) ليست شريعة. وترجع أصول الأخلاق –القانونيّة والاجتماعيّة وغيرها- بدرجة كبيرة إلى القوّة العمليّة للأركان الخمسة، إذ تؤسّس هذه الأعمال الأدائيّة الأخلاق التي تفعّل الخضوع الطوعي لسلطة القانون" (الكتاب، ص 220).

لكن كيف تجري الترجمة الواقعيّة لهذه الشروط الأخلاقيّة؟

لا جواب على ذلك عند حلاّق، قصارى ما يذكره عن كيفيّة ترجمة أخلاق الشريعة عمليّا، يتمثّل في باب الاقتصاد، أو في سرديّته المدحيّة لعمل الفقهاء والمفتين، والقضاة القدامى. فما دامت العولمة، كوننة لقيم السيطرة الدولتيّة بواسطة الاقتصاد، فإنّ بديلها الإسلاميّ يكون اقتصادا يرتبط بأخلاقيّة الشريعة، عبر تأويلها مقاصديّا، أي حسب الكليّات الخمس للشريعة. فهذه الكليّات "اختصر (فيها) التأثير الكليّ للشريعة..(و) أنتجت بدورها الشريعة نفسها بكلّ ما هي عليه..(و) أصبحت خصائص نموذجيّة تحدّد الشريعة كنظام قانونيّ وثقافيّ. ويمكن القول إنّ هذه الكليّات تمثّل معنى الإسلام" (الكتاب، ص 262-263) وكذلك ما دام الفقهاء والقضاة القدامى قد جسّدوا بصورة نموذجيّة في أعمالهم الفقهيّة والقضائيّة روح الشريعة، فهذه الأعمال تصبح قدوة لنا في التشريع. إنّ السرديّة التي يشكّلها حلاّق لقصّة عمل الشريعة في المجتمع الإسلامي القديم، في الفصل الثالث من كتابه، بداية من الصفحة الخامسة بعد المائة، تجعل الفقهاء والقضاة والمفتين القدامى تجسيدا جميلا لعمل الشريعة الأخلاقيّ، لذلك تطابق عنده مفهوم الشريعة في إحدى تعريفاته المتعدّدة، مع عمل هؤلاء الفقهاء والمفتين والقضاة، فـ "لهذا السبب فإنّ أغلب أحكام الشريعة وقواعدها هي إلى حدّ بعيد منتوج الاجتهاد"، (الكتاب، ص 123).

أمّا المقدمات النظريّة المنهجيّة للكتاب، أي المفهمة التي تستخدم أداة للتحليل -ما دام المنهج أوّل أسس إنتاج المعرفة، إلى جانب ضبط الموضوع- فموضعها الفصلان الأوّل والثاني، حيث يجري تعريف الحكم الإسلاميّ "النموذجيّ"، وتعريف الدولة الحديثة "النموذجيّة". وهذه المفهمة تنجز على أساس تصوّر معيّن لمفهوميّ النموذج والنطاق المركزيّ. فهذان التصوّران، سيصاغ في ضوئهما، تعريف الدولة، ومفهوم الشريعة، ومفهوم القانون، ومفهوم الأخلاق، ومفهوم الدولة الحديثة بالاستتباع، ومفهوم الحكم الإسلاميّ. كما تصاغ بهما السرديّتان الأساسيّتان في هذا الكتاب: سرديّة الدولة الحديثة، وسرديّة الحكم الإسلاميّ.

ما معنى النموذج، والنطاق المركزيّ عند حلاّق؟

ليس معنى النموذج عند حلاّق تعريبا لعبارة model، وهي التي تعني صورنة تجريديّة فرضيّة لظاهرة ما تتبّع فيها نوا بضها المركزيّة، بعد تخليصها من عناصر إحداثيّاتها المحايثة. هو رسم فرضيّ لخطاطة ظاهرة ما، يتثبّت من صلاحيّته بالنتائج التي يوصل إليها في تحليلها، مع احتفاظه بصورته الفرضيّة، علامة على اعترافه بإيديولوجيّته، وحرصه على محاصرة هذه الإيديولوجيّة. ولهذا السبب فإنّه يستبدل مفهوم الحقيقة بمفهوم الصلاحيّة النظريّة، في حدود النموذج المقترح. هذا المعنى الذي تأسّس عليه منهج النمذجة، أو نظريّتها مع لودفيغ فون برتلانفي (Ludwig von Bertalanffy) (ت 1972)، وجون لوي لومنواني(Jean Louis Le Moigne)، وإدغار موران(Edgar Morin)، يبدو غائبا من مدلول النموذج عند حلاّق.

ورغم الأهميّة الوظيفيّة لهذا المفهوم، فلا نعثر في كتاب حلاّق على تعريف مباشر للعبارة، إنّما يجري تعريفها، من خلال مفهوم ثان هو مفهوم النطاق المركزيّ (الكتاب، ص41)، أو من خلال أمثلة ممثّلة لحالات تاريخيّة نموذجيّة، كحالة التنوير الأوروبيّ بوصفها نموذجا (الكتاب، ص 40، 41، 42، 42)، فيبدو مفهوم النموذج حينا، دالاّ على معنى الخطّ القيمي الموجّه للتاريخ، أو المنطق الضمني لفترة تاريخيّة ما، أي بمعنى الأدلوجة بالمعنى الضيّق في تعريف عبد اللّه العروي للدولة، وإن لم يشر حلاّق في نمذجته للدولة إلى العروي مطلقا (الكتاب، ص 42)، ويبدو حينا آخر ذا دلالة على ما وقع فعلا في التاريخ، فهنا يقول حلاّق في تحديده لنموذج الدولة الحديثة: "إنّ المحكّ بالنسبة إلينا هو الدولة الحقيقيّة، القائمة، النموذجيّة، وليس أيّ دولة طوباويّة أو مستقبليّة" (الكتاب، ص 60). وبالمحصّلة يبقى مفهوم النموذج متقلّبا بين الوقائعيّة، والصوريّة.

بهذا المعنى للنموذج عرّف حلاّق الدولة، وكان هذا التعريف أساسيّا في تحديد "الحكم الإسلاميّ النموذجيّ"، ومفهوم "الدولة الحديثة النموذجيّة"، وفي اقتراحه للأوّل بديلا عن الثاني، تماما كما كان مفهوم النموذج أساسيّا في تعريف الشريعة، وفي اقتراحها حلاّ أخلاقيّا لأزمة الدولة الحديثة الأخلاقيّة. تنضاف إلى ذلك سلسلة من التعريفات الأخرى للأخلاق، والقانون، كانت بدورها محدّدة في وصف النموذجين المرفوض والمطلوب، وفي اقتراح البديل.

يأتي تعريف حلاّق للدولة في الفصل الثاني من الكتاب، وعنوانه: الدولة الحديثة (ص ص 57-84)، والملاحظ في هذا التعريف أنّه متقلّب بين تعريفها تعريفا مختلطا يشير إلى أركانها الخمسة (تاريخيّتها الأوروبيّة، مفهوم السيادة، احتكارها التشريع، قيامها على جهاز بيروقراطي، تدخّلها الثقافي في المجتمع، (الكتاب، ص 63)، وتعريفها تعريفا كلسنيّا قانونيّا، كما في قوله: "الدولة تصبح تاريخيّا، ومن نواح بنيويّة مهمّة تجسيدا للقانون" (الكتاب، ص 86)، وتعريفها حسب نظريّة العناصر الثلاثة.

ستمثّل هذه التعريفات المختلفة للدولة، أدوات خادمة لاستدلال حلاّق على أطروحته، ولذلك، سيوظّف في كلّ خطوة من مراحل الاستدلال واحدا من هذه التعريفات، وقد تتداخل أحيانا كثيرة. سيؤدّي ذلك إلى تأسيس سرديّتين متقابلتين للحكم الإسلاميّ النموذجيّ، والدولة الحديثة النموذجيّة، تتداخل فيهما معايير مختلفة مؤسّسة لتعريف الدولة، فهي طورا سرديّات وقائعيّة، تقصّ ما يفترض حلاّق أنّه حدث في التاريخ، وطورا آخر نظريّة، تستنتج القيم الموجّهة للتاريخ. وهي من هذا الجانب تجعله يخلط بين طرق التقويم للنموذجين، إذ يقوّم نموذج الدولة الحديثة بما هو كائن، أي على أساس ما يفترض حلاّق أنّه وقع تاريخيّا فيها، لا على أساس القيم والأهداف التي سعت إليها نظريّا، أي على أساس ما يجب أن يكون، بينما بالمقابل يقوّم نموذج الحكم الإسلاميّ على أساس ما ينبغي أن يكون أي على أساس الأهداف المعلنة فيه، لا على أساس ما وقع فيه تاريخيّ، بل إنّ حلاّق سيجتهد في تأليف سرديّة تستدلّ على أنّ ما يجب أن يكون في النموذج الإسلاميّ، قد حدث بالفعل في التاريخ. إنّ استثمار المحتويين الوقائعيّ والنظري في تعريف الدولة، سيمكّن حلاّق من التعدّي على السياقات الإبستمولوجيّة للمفاهيم، فيقوّم نموذج الحكم الإسلاميّ بمفاهيم الدولة، وتنجز المقارنة بين نظامين معرفيين مختلفين، على أساس مفاهيم تتجاهل كلّيا حمولتها الحضاريّة المميّزة، ففي هذا السياق قارن بين النموذجين الإسلامي والدولتي، من جهة مبدأ فصل السلطات، والسيادة، والديمقراطيّة، كما تحدّث عن تمثيل يتحقّق بسلوك الفقهاء على أفضل صورة، بل تحدّث عن ديمقراطيّة إسلاميّة. إنّ هذه السرديّات تستثمر أحيانا أخرى تعريف نظريّة العناصر الثلاث للدولة، فتعرّف النموذجين المقارنين بالشعب، وبخصائص الشعبين، وهي في الغالب تعتمد التعريف القانوني الكلسني للدولة، وهذا رغم الجفاف الأخلاقيّ المعروف والمدان في التعريف الكلسني القانوني للدولة، إذ يمكّنه من إنجاز مقارنات بين النموذجين، على أساس القانون، تمثّل حججا أساسيّة لأطروحته بضرورة حكم الشريعة.

من منظور تلك النمذجة أيضا صيغت تعريفات الشريعة، والقانون، والأخلاق، وصيغ بغرض المفاضلة نموذجا الحكم الإسلامي المطلوب، والدولة الحديثة المرفوضة، ودعمت السرديّتان المتخيّلتان كلّ الرفض الموجّه للدولة، وكلّ التمجيد للحكم الإسلاميّ.

ففي ما يخصّ الشريعة، فمن منظور تلك النمذجة، بقي مفهومها متوتّرا بين الوجود الوقائعي، والوجود النظريّ، فهي حينا بمعنى القيمة الموجّهة أو مصدر الحق، إرادة إلهيّة أو تعبيرا عنها، وحينا آخر وجود عمليّ، اجتهادا بشريّا في شكل قوانين عمليّة. ولهذا كانت لها عند حلاّق قصّة تاريخيّة، فـ "سرد قصّة الشريعة" (ص 112)، كما كان لها وجود نظريّ بوصفها قيما موجّهة نظريّة. وإنّ هذا التوتّر المفهوميّ للشريعة يمكن تبيّنه من خلال تعريفاتها الكثيرة المتباينة التالية، في نصّ حلاّق:

-       "هي أساسا مجموعة مبادئ أخلاقيّة مدعومة بمفاهيم قانونيّة" (الكتاب، ص 106)

-       "الإسلام يقوم أو سقط على أساس الشريعة" (ص 106)

-   "و بمنتهى البساطة والوضوح فإنّ قانون اللّه هو الشريعة، والشريعة هي الشرعة الأخلاقيّة، تمثيل لإرادته الأخلاقيّة التي هي الشاغل الأوّل والأخير" والبقيّة تفاصيل "بما في ذلك الجزء الفنيّ من القانون" (ص 110).

-   "إنّ الشريعة أي قانون اللّه وإرادته تسبق أيّ شكل، وكلّ شكل من أشكال الحكم منطقيّا وزمانيّا على حدّ سواء" (ص 110).

-       "تتكوّن الشريعة من النظام التأويليّ والمفهوميّ والنظريّ والعمليّ والتعليميّ والمؤسّسيّ الذي اصطلحنا على تسميته القانون الإسلاميّ، وهي مشروع ضخم لبناء إمبراطوريّة أخلاقيّة-قانونيّة يمكن اختصار دافعها الأساسيّ والبنيويّ في السعي المستمرّ إلى اكتشاف إرادة اللّه الأخلاقيّة" (ص 110)

-       "أغلب أحكام الشريعة وقواعدها هي إلى حدّ بعيد منتوج الاجتهاد" (ص 123)

-   "كانت الشريعة..التعبير عن سيادة اللّه، حيث تلخّص شهادة "لا إله إلاّ اللّه" المعرفة الأساس..بكون اللّه صاحب السيادة" (ص 143)

-       "لكنّ القرآن لا يصوغ القانون بالمعنى التقني، وهو ما تفعله الشريعة بكلّ تأكيد" (ص 173)

-       "الشريعة تمثّل تعبيرا عن سيادة اللّه على الأرض" (ص 209)

-   "الشريعة قانون البلاد بلا منازع...هذا القانون النموذجيّ هو الذي كان يطبّق في محاكم العالم الإسلاميّ" (ص 143-144)

-       "هي نظام خطابي ونظريّ ومؤسّسيّ وعمليّ" (ص 263)

-   "باعتبارها ممثّلة لإرادة اللّه السياديّة، تنظّم الشريعة مجال النظام الإنسانيّ بأكمله، إمّا بصورة مباشرة، أو من خلال تفويض محدّد جيّدا ومحدود" (ص 111).

بهذه النمذجة أيضا يجري تعريف الأخلاق عند حلاّق، وهو تعريف يجعلها متوتّرة بين الدلالة على القيمة، والفضيلة، وبين الدلالة على مضمون معيّن للذاتيّة، يجب أن يكون في نظره بالضرورة ميتافيزيقيّا متمحورا حول اللّه لا حول الإنسان. ليس الأخلاقيّ هنا تمحورا حول الإنسان، أي ذاتيّة لمعنى الحياة، إنّما هو ذاتيّة ذات مضمون مفارق حتما. الأخلاق في هذا الفهم هي القيم، وهي ما ينبغي أن يكون، وهو فهم يتّصل بالمقدّمات النظريّة التي شرحنا أعلاه، أي بتلك النظرة التي تعتبر أنّ الحقيقة ذات وجود موضوعيّ، وهي التي تملي الأسباب، وتملي بالاستتباع الطلبات الأخلاقيّة، فهناك قيم كونيّة محدّدة سلفا، هي ما ينبغي أن يكون، وعلى الإنسان الارتباط بها ليحقّق وجودا أخلاقيّا فاضلا. فبهذا المنطق تعتبر "ميتافيزيقا الدولة لا أخلاقيّة لأنّ الميتافيزيقا لا بدّ أن تتعالى على النطاق الضيّق للتمركز الوضعيّ حول الإنسان" (الكتاب، ص 277)، بل لأنّها تفصل بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، أي لأنّها تقيم تصوّراتها للواقع وقوانينها بصرف النظر عن القيم. وبالمنطق نفسه يمثّل الحكم الإسلاميّ النموذجيّ حكما أخلاقيّا بامتياز لأنّه يربط القوانين المسيّرة للحياة والدولة بمنبعها الأخلاقيّ الكونيّ، عبر الشريعة، وهو منبع تمثّله الحاكميّة أو السيادة الإلهيّة (الكتاب، الفصل الرابع، ص ص 147-187). ولا يخفى ما في هذا التعريف للأخلاق من ربط بينها وبين القانون، كانت له آثاره الواضحة على تعريف أخلاقيّ للقاعدة القانونيّة، في مستوى تصوّر جهاز الدولة أو الأدوات العمليّة لتحويل الشريعة إلى أساس لهذه الأخلاقيّة السياسيّة العامّة المرجوّة.

على أساس النمذجات السابقة، وفي ارتباط بمعنى النمذجة، الوقائعيّ، وبالمفهمات التي صيغت وفق مدلولها للدولة، وللشريعة، وللأخلاق وعلاقتها بالقوانين، وفي ارتباط كلّ ذلك بالمقدّمات النظريّة والإيديولوجيّة، يصبح الحكم النموذجي المطلوب، هو الحكم الإسلاميّ، والحكم النموذجي المرفوض هو دولة الحداثة. ولهذا يصوغ وائل حلاّق لهذين الحكمين سرديّة تصف خصائصهما النموذجيّة، وتكشف نتائجها على وضع الإنسان في كليهما. ولئن كانت هذه السرديّة تصاغ في شكل نمذجة للحكم الإسلامي، وللدولة الحديثة، تجري بين الفصل الأوّل والثاني من الكتاب، فإنّها تصاغ في شكل مفاضلة لصالح الحكم الإسلامي على حساب الدولة، عبر مقارنة بين وضع مبدأ فصل السلطات، في النموذجين، في الفصل الثالث، ومقارنة العلاقة فيهما بين القانون والأخلاق، في الفصل الرابع، ومقارنة أخيرة بين النظامين في مفهوم الذاتيّة ومضمونها، في الفصل الخامس.

و هي إجمالا تواجه بين نظامين متصوّرين، فالأوّل هو النموذج الإسلاميّ، و"الشريعة هي الشعار المميّز لذلك النموذج" (الكتاب، ص 44)، فقد كان لها "وضع نموذجيّ" (الكتاب، ص 45)، و"وضعها النموذجيّ، في رأينا يكمن في كونها نظاما أخلاقيّا..(و) مركزيّا..(و) المقياس الذي يجري على أساسه تقويم النطاقات الفرعيّة" (الكتاب، ص 44)، فقد حدّدت في المجالات الفكريّة بنية التعليم، واللّغة، وعلومها، وعلوم التفسير والمنطق والبلاغة ونظريّة المعرفة، وكلّ العلوم (الكتاب، ص 44). إنّ الشريعة حتى بداية القرن التاسع عشر، "كانت قانونا أخلاقيّا أنشأ "مجتمعا جيّد التنظيم" وساعد على استمراره" (الكتاب، ص 19). إنّ هذه النمذجة الاختزاليّة للتاريخ الإسلامي يدعمها وائل حلاّق بـ "سرد قصّة الشريعة" في التاريخ الإسلاميّ، في الفصل الثالث من كتابه، ببيان توجّهها السياسيّ الأخلاقيّ والاجتماعيّ، في تجسيدها العميق لمبدأ فصل السلطات، وللديمقراطيّة المثلى، وللتمثيل الشعبيّ. وذلك بسبب ارتباطها بتجسيد السيادة الإلهيّة، فهذه تجلّت استقلالا للسلطة التشريعيّة والقضائيّة عن السلطة التنفيذيّة، مارسه القضاة، والمفتون، والفقهاء، والحكّام، استقلالا ولكن تقيّدا بقيم القرآن المساواتيّة العاملة لمصلحة الناس. هذه اللّوحة الجميلة لعمل الشريعة، توشّح عنده، بصور بساطة الإجراء القانونيّ الشرعيّ، وقربه من الناس، وغياب الانفصام بين المجتمع والقانون لأنّ "الناس كانوا يعرفون ما القانون" (الكتاب، ص 118).

وإنّ أقصى مظاهر إشراق هذه السرديّة، يبلغها حلاّق في وصفه للدور التحريري الذي تمارسه الشريعة للذاتيّة من هيمنة السياسيّ، فهذه وقد كان تحديدها يجري من قبل الشريعة، كانت تحصّن بسيادة اللّه، إرساءها الروحيّ في نظرة أخلاقيّة كونيّة، وتمنع إفقارها. إنّ هذه الذات حسب هذه السرديّة، وقد كانت تجد في العبادات مبادئ المعاملات، وأسس خضوعها الطوعي للقانون، كانت تجد في الأركان الخمسة للإسلام قاعدة أخلاقيّة لأفعالها الحرّة.

مقابل هذه الاختزاليّة التمجيديّة المضاعفة لوضع الشريعة في المجتمع المسلم القديم، تصاغ سرديّة الدولة الحديثة، باستحضار عناصر نقد النظريّة القطائعيّة في العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة، لاسيما أبرز الفلاسفة الأخلاقيين ما بعد الحداثيين، كألادير ماك إنتاير، وشارلز تايلور، وشارل لارمور، ومايكل والزر (Michael Walzer)، ولكن باختزال تلك العناصر إلى مدلولها القطائعيّ دون مدلولها الاحتجاجي لصالح الإنسيّة النظريّة، احتجاجا لصالح تأكيد الذاتيّة، ومواجهة انغلاقها الحداثيّ.

ب- في نقد المشروع

يقول وائل حلاّق: "إنّ موقفنا من هذا العالم الطبيعيّ وطرائق تعاملنا معه هما مقياس وجودنا، وتقديرنا لما يعنيه أن نكون بشرا..(و)نتيجة هذا الموقف (هي) المقياس الأسمى للإنسان، لأنّها تمثّل المحكّ الأدنى الذي يمكن على أساسه قياس مسؤوليّاتنا الأخلاقيّة تجاه كلّ شيء في العالم والحكم عليه ..(إنّه)السؤال الأكثر مركزيّة الذي يبتلي ما يجب أن يكون النطاق المركزيّ للأخلاقيّ" (الكتاب، ص 285). ويضيف في موضع آخر من كتابه: "إنّ الفلسفة المتعالية (transcendentalism) التي أزعجت التجريبيّين البريطانيّين كانت لدى المسلمين بمن فيهم نخبهم الفكريّة، ضربا من الفهم الشائع أو الحسّ السليم المطلق" (الكتاب، ص 110).

تكشف هذه الأقوال عن الارتباط الإنسيّ للمشروع الأخلاقيّ السياسيّ الذي يعرضه حلاّق في كتابه، حلاّ لمشكلة الدولة الحديثة أو بديلا إسلاميّا عنها، بوصفه مشروعا في تحرير الإنسان من إنسيّة الحداثة، أي من انغلاقها الحداثي الذي أنجز بواسطة الدولة. فالمطلب الأخلاقيّ أساسيّ عنده لأنّه أساس إنسانيّة الإنسان، وهو مطلب إذ يرفض ذلك الانغلاق ويعرّيه، يقترح بديله في تأسيس مختلف للإنسيّة يجد أداته في "نموذج الحكم الإسلاميّ".

ومن هذا الوجه، يتّفق مشروعه مع زمانيّته الخاصّة، باعتباره مشروعا أخلاقيّا في نقد الحداثة، مارسته فلسفة ما بعد الحداثة، نقدا لأخلاقيّة الحداثة، ومحتوى تأسيسها الإنسانيّ. ومن هذا الوجه أيضا يمكن تعيين معقوليّته، مشروعا لتخليقها يستلهم تراثه الخاصّ الإسلاميّ، على غرار المشروع الأخلاقيّ ما بعد الحديث المستلهم لتراثه، كما فكّر فيه شارلز تايلور، وشارل لارمور، وألادير ماك إنتيار. ومن هذا الوجه أيضا يمكن فهمه إيمانا بإمكانيّة العثور على قيم كونيّة تمدّها بعناصر تخليقها، كما توقّع هابرماس(Habermas) خاصّة.

ولكن من هذا الوجه أيضا، تعلّقا بالإنسان، يمكن بيان عناصر تهافت هذا المشروع الذي يقترح. إذ يبدو أنّ ما يقع فيه هذا المشروع من مزالق هو عين ما جاءت فلسفة ما بعد الحداثة لتنقده وتحتجّ عليه في الحداثة، بل هو ما كان في جوهر التصحيح الحديث لفكر النهضة، وفي جوهر التجاوز النهضويّ الأوروبيّ للعصور الوسطى الأوروبيّة. في جميع هذه الفترات الأوروبيّة المتعاقبة، كان الإنسان من بروتاجوراس(Protagoras) إلى هيدغر(Heidegger) إلى موران، هو المطلب، وكان معناه، أو مضمون الذاتيّة، محور عمليّة صراع فترات تاريخ الفكر الأوروبيّ. إنّه دياكرونيّا تاريخ يشدّه خيط ناظم أو منطق ضمنيّ هو التعلّق بالإنسيّة النظريّة، أي رفضا لكلّ انغلاق لعمليّة التذييت (subjectivation) بمفهومها الفوكوي، أي شحنا لها بمدلول نهائي وقارّ.

من وجهة النظر هذه الأساسيّة التي تشدّ تقويمنا لهذا الكتاب، رؤية للحياة، ونمطا في الوجود، ومنهجا في تقويم الفكر، وهي وجهة النظر التأويليّة، يمكن أن نقول في وائل حلاّق في هذا الكتاب، عين ما قاله ويليام ديلثاي (William Dilthey في جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill)، إنّه دغمائيّ[1]. قال ديلثاي ذلك في ميل الذي كان يحاول رسم خطاطة تطبيق للمنهج الاستقرائيّ، تقدّم لعلوم الأخلاق نموذجها في المعرفة. وتماما كما كان حلاّق يحتجّ على التجريبيّة البريطانيّة المكرّسة للنموذج الطبيعيّ الديكارتي نموذجا وحيدا للمعرفة، بما في ذلك المعرفة بالإنسان، كان ديلثاي يحتجّ أيضا على تلك التجريبيّة العاملة في منطق ميل، وخطاطته لعلوم الأخلاق بتأثير من التقليد الأنجليزي الذي أرساه دافيد هيوم (David Hume)، برسالته حول الطبيعة الإنسانيّة (Traité sur la nature Humaine).

وفي حين كان ديلثاي يحتجّ على الانغلاق الإنسيّ التجريبيّ الحديث في النسق المعرفيّ الديكارتيّ، لإحساسه المستمرّ أنّ الإنسان كائن تاريخيّ، وسيرورة مستمرّة متشكّلة باستمرار، فإنّ حلاّق كان يفعل ذلك ليقينه أنّ الإنسان كائن كونيّ، منتم إلى منظومة موضوعيّة ناجزة حدّدتها المشيئة الإلهيّة، وحدّدت مضمونه بالاستتباع.

إنّ نقد ديلثاي لدغمائيّة ميل، وقد كان رفضا لكلّ تحديد نهائيّ للذاتيّة، يقابله احتجاج حلاّق على دغمائيّة الحداثة وقاعها التجريبيّ، ومواجهتها بتحديد مختلف للذاتيّة. ومن ثمّ فإنّ مطلب الإنسيّة النظريّة هنا -أي تأسيس معنى الحياة على تأسيس منفتح باستمرار لمعنى الذاتيّة، أو انفتاحا مستمرّا لمدلول الإنسان، ومدلول الحياة المؤسّس حوله- يصبح هناك عند حلاّق مطالبة بإنسيّة إيديولوجيّة، تعني تعريفا ناجزا للإنسان، محدّدا في المنظومة الميتافيزيّة المحدّدة بدورها.

سيوجّه هذا التصوّر للإنسان كلّ المشروع الأخلاقيّ التخليقي للدولة الذي يقترحه حلاّق في كتابه هذا، من مقدّماته النظريّة. ويتجسّد في كامل مفاصله، المعرفيّة والإيديولوجيّة، أي في مقدّماته النظريّة المنهجيّة، أي في مختلف المفاهيم التي يؤسّس عليها تحليلاته، ويؤدّي إلى مضامين محرّفة للتاريخ. لهذا فإنّ هذه الدغمائيّة في المقدّمات النظريّة تتجلّى في نظرة إجماليّة لهذا المشروع كما تبرز في مفاصله الفرعيّة السابقة.

فبالنّظر إلى الدولة التي يرسم حلاّق خطاطتها، إذا ما ربطنا بين مقدّماته النظريّة في الحاكميّة، وبتصوّره للنموذج على أنّه تمثيل لما وقع فعلا، وبنمذجته للدولة التي تعرّفها في أحيان كثيرة تعريفا قانونيّا، وإلى تذبذب نمذجته للشريعة، بين كونها تعبيرا عن السيادة الإلهيّة، وكونها اجتهادا بشريّا، وكونها متجسّدة في عمل الفقهاء والقضاة والمفتين، وكونها صياغة قانونيّة للإرادة الإلهيّة، وفي ارتباط بتصوّره للعلاقة الضروريّة بين الأخلاق والقانون، يمكن القول إنّ الدغمائيّة، تبرز هنا تشريعا على نحو معيّن لدولة الحقّ الإلهيّ بكلّ ما تحتمله من استبداد الإنسان بالإنسان. وإذا نظرنا بصفة منفصلة إلى عناصر هذه المنظومة الإيديولوجيّة يمكن لنا تبيّن مظاهر هذه الدغمائيّة في تفاصيلها التالية:

أوّل هذه العناصر متّصل بالأدوات التحليليّة المنهجيّة التي صاغ على أساسها حلاّق مفاهيمه، وهي مفهوم النموذج، فليس هذا المفهوم فرضيّا استنتاجياّ كما ذكرنا سابقا، لذلك ليس مبدؤه الصلاحيّة النظريّة، تعبيرا عن وعي باختزاليّته الضروريّة، إنّما هو متّجه إلى تمثيل ما وقع فعلا، أو إلى استنتاج خطّ قيمي ضمنيّ موجّه. ستكون لهذه الضبابيّة في معنى النموذج نتائج على نمذجته التي ينجزها لبقيّة المفاهيم، تجري حسب طلبات الاستدلال وانعطافاته، وتوجّه نصّه توجيها إيديولوجيّا مناقضا للمعرفة. فبهذا المعنى للنموذج ستكون نمذجة الدولة غامضة ومختلطة بدورها، جامعة بين تعريفها قانونيّا على الطريقة الكلسنيّة، وتعريفها حسب نظريّة العناصر الثلاث. دون اهتمام بتعريفها التاريخي الذي حدّده العروي بالأدلوجة والجهاز، وهو التعريف الذي كان يفترض فيه أن يلقّح فهمه لها بوعي لتاريخيّتها يقرّبه من معناها الإنسانيّ، في دلالتها على رؤية للعالم والإنسان تبتكر أدواتها الجهازيّة المناسبة. ويبدو هنا أيضا أنّ المقدّمات النظريّة والإيديولوجيّة هي التي كانت توجّه التعريف، فالدولة تعرّف بهذه الأنحاء لتتيح له نسج السرديّات المتخيّلة في ذهنه لصورة الحكم الإسلاميّ النموذجيّ، ولصورة الدولة الحديثة، على أنّها حقائق واقعة فعلا في الواقع، دون أيّ تنسيب تؤكّده مجمل السرديّات الأخرى المتخيّلة لواقع ذينك النمطين من الحكم، في مختلف نظريّات الحكم الإسلاميّ والدولة. إنّ هذه النمذجة المختلطة للدولة، التي لا تنتبه إلى الترابط المكين بين الأدلوجة والجهاز، ستمكّن حلاّق، من نفي القيمة مطلقا عن الدولة الحديثة، وفي تلفيق ظاهر، مرفوض معرفيّا، من التعدّي على الفوراق بين السياقات الإبستمولوجيّة للمفاهيم، فيعتمد للمقارنة بين المنظومتين الغربيّة والإسلاميّة، مبادئ من الأولى أكّد أنّها تتحقّق في الثانية، ولم يتحرّج مطلقا من القول إنّ النظام الإسلاميّ يحقّق مبدأ فصل السلطات، وأنّ الفقهاء والقضاة والمفتين كانوا يقومون بوظيفة التمثيل على نحو أكمل، بل أنّ يحاجج كلسن (Kelsen)، ويقول له لو تخلّصت من قبليّاتك الحديثة لوجدت أنّ "النظام الإسلاميّ ديمقراطيّ من الطراز الأوّل" (الكتاب، ص 112). لا يتفطّن حلاّق هنا إلى كونه الأولى بمراقبة قبليّاته، إذ يبدو أنّ دولة الحداثة التي انتقد الإسلاميين في التحدّث بمقولاتها، تبتلع خطابه كما ابتلعت خطاب الإسلاميين، وتجعله لا ينتبه إلى أنّه يستخدمها معيارا للتقويم.

ولا يقلّ التوتّر الحاصل في مفهوم الشريعة عن نظيره الواقع في شأن مفهوم الدولة، ويبدو أنّ أسبابه لا تختلف. إنّه من منظور إيمان حلاّق بأسبقيّة القيم على الوجود البشريّ، أي بوجود موضوعي للقيمة، ينفي أن يكون معنى الشريعة إنسانيّا، وهو من المنظور المقابل الذي طابقها بالقانون والاجتهاد البشري، يحوّلها إلى أساس قانونيّ يعرف ضرورته لوجود الدولة، وهو في جمعه بين الحالتين أو التعريفين، يقع في معارضة للدولة، بمعياريّتها، ويؤسّس دولة يمكن أن تسير في أيّ اتّجاه، بدعوى تمثيلها للإرادة الإلهيّة.

إنّ تعريفه للأخلاقي والقانوني في هذا السياق، وتأكيده أنّ لا انفصال في الفهم الإسلاميّ بينهما، يصبح مدخلا لاستكمال معارضته لنظريّة الدولة، بنظريّته في حكم الشريعة. ولئن كان ذلك يكشف وجها آخر لخضوعه اللاواعي لمعياريّة الدولة، يجعله على نحو غريب يكرّر فيه تلفيقيّة الإخوان المسلمين التي تحوّل الأركان التعبديّة في الإسلام إلى عناصر منظومة قانونيّة، فإنّه لا ينتبه إلى الفارق المؤسّسي الذي يفصل بين القانون والأخلاق، وإلى التجسيد العمليّ الذي يضمنه القانون للقيمة، فيحميها من اختلاف التأويلات. وبدل وضوح القاعدة القانونيّة، وحسمها ونجاعتها، يمتدح حلاّق مرونة الشعائر التعبّديّة، وسيولتها التي تجعلها قابلة لكلّ تأويل.

إنّ تعريفه للأخلاقيّ فضلا عن ذلك، وقد فهمه، بمعنى القيم طورا، وبمعنى الفضيلة طورا آخر، وبمعنى مضمون الذاتيّة في أحيان قليلة، في ارتباطه بمنطلقاته النظريّة الفكريّة، ينكشف في النهاية نفيا للتذييت بوصفه محورة للمعنى حول الإنسان. ومن هذا المنطلق حكم على الدولة الحديثة -في تجاهل واضح لتأسيسها الأخلاقي، حتّى في تأسيسها الهوبسي، المهيمن في تاريخها- بأنّها ذات ميتافيزيقا لا أخلاقيّة، لأنّ الميتافيزيقا لا بدّ أن تتعالى على النطاق الضيّق للتمركز الوضعيّ حول الإنسان. (الكتاب، ص 277)

ستمكّن هذه النمذجات حلاّق من أن يرسم –وفق هدفه الإيديولوجيّ- سرديّتين محتلفتين لنموذجي الحكم المواجهين، ولئن كان السؤال يطرح عليه هنا: هل المطلوب لتحقيق الغرض الأخلاقيّ منظورا إليه انفتاحا للذاتيّة، التحرّر من السرديّات المعطّلة لمسار التذييت، أم مواجهتها بسرديّات أخرى تمارس عليه نفس الإغلاق؟ فإنّ ما يعاب بشدّة في هاتين السرديّتين صورتيهما الاختزاليّتين اللاواعيتين باختزاليّتهما، فقد رسم حلاّق لواقع الحكم الإسلامي مشهدا من الانسجام الجميل بين حكم الشريعة والناس، تقابله لوحة بائسة لواقع دولة الحداثة، واستنتج من المقارنة بينهما، صورة مشرقة لعالم يعرف فيه الناس القانون لأنّهم يعيشونه، وصورة مظلمة لواقع آخر يفصل فيه بين المجتمع والقانون بفعل هيمنة السياسيّ، ولا يتفطّن حلاّق إلى أنّ تعريف الإنسان قانونيّا في كنف الدولة، أفضل لحريّته ووجوده السياسيّ من معرفته.

ولئن كان ما يعاب أيضا على هذا التصوّر للدولة، أنّها تبقى دون جهاز، مادام حلاّق يستبقي القاعدة الأخلاقيّة أداة للقانوني، وبديلا عنه، يجده في تعويل على أركان الإسلام، ومقاصده الكليّة، فإنّ ما يعاب بشدّة هو التخلّي عن شروط مأسسة السياسي، وقد كانت في الواقع حفاظا على الإنسان من تعدّي السلطة، وبدافع حرص أخلاقيّ على تلطيف الطاعة، وعلى تمثيل الإرادة الإنسانيّة في ممارسة السلطة للإنسان على نفسه بنفسه كما تشهد بذلك الصياغة القانونيّة لمفهوم الإرادة العامّة عند روسّو (Rousseau).

حينئذ تبدو لنا مظاهر هذه الدغمائيّة التي حكمنا بها على مشروع حلاّق الأخلاقي هذا في كتابه، في عمق ارتباطه بموضعة للفكر الإنسانيّ في تفسير ثنائي للوجود يفرّق بين الذات والوجود، وتجاهله الكامل للوعي ما بعد الحديث الذي حرّكته المدرسة التاريخيّة، بضرورة إعادة تأسيس السؤال الفلسفيّ على الوجود الإنسانيّ، بوصفه تجربة في الوجود، منفتحة على كلّ إمكانات الوجود الإنسانيّ. إنّ هذه الخاصيّة وهي تعني نفيا لكلّ انغلاق حول مفهوم معيّن للذات، وفتحا لمسار لا ينتهي لعمليّة تحديد معناها، تبدو غائبة عن فكر حلاّق، فينصرف عن تعريف الذات بما فيها، من منطلق تجربتها التاريخيّة الرّاهنة. فحكم الاستحالة عن الدولة الإسلاميّة يوازيه من هذه الزاوية، مبنى نصّه الحجاجي، الذي ينخرط في خطاب الردود، فبدل تعريف الذات في راهنيّتها، في فتح لمسار تذييتها المنغلق إلى حدّ الآن، ينخرط حلاّق في عمليّة الإغلاق تلك، بتكريس تعريفها السالب، قياسا إلى الآخر المختلف عنها، في حاضرها الحديث، أو في ماضيها الإسلاميّ.


* نشرت هذه المادة في مجلة "ألباب"، العدد 5، ربيع 2015، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1] Hans-Georg Gadamer, Vérité et Méthode…, Seuil, Paris, 1996, p 22