حوار مع الفيلسوف والمؤرخ تزفيتان تودوروف تحوُّلات الضَّحيَّة


فئة :  حوارات

حوار مع الفيلسوف والمؤرخ تزفيتان تودوروف تحوُّلات الضَّحيَّة

حوار مع الفيلسوف والمؤرخ تزفيتان تودوروف

تحوُّلات الضَّحيَّة

أجرى الحوار: داني بوستل

ترجمة: تيسير أبو عودة 


داني بوستل: من أكثر مفكري القرن العشرين الذين أثاروا إعجابك ريموند آرون. ومن سمات آرون التعريفيَّة حماسه الكبير للمعارك الفكريَّة والجدل السياسي. وفي هذا السياق يخطر ببال المرء، على سبيل المثال، كتاب "أفيون المفكّرين"، الذي يهاجم فيه رومانسيَّة الأنتجلنتسيا الفرنسيَّة مع الحزب الشيوعي، ولكن هذا لا يمتُّ لأسلوبك بصلة، فأنت لم تهمل كتاب أفيون المفكّرين فحسب، بل يندر أن تذكر أحداً من مجايليك الذين يخالفونك في آرائهم السياسيَّة والفلسفيَّة. ليس هنالك تشابك مباشر مع أمثال باديو وباليبار وجاك رانسيير وبودريار، وأنا أتسأءل: لمَ لا، وأنت مدافع متحمّس عن الديمقراطيَّة الليبراليَّة؟ لمَ لم تنبر لنقد مناهض لليبراليَّة في الفكر الفرنسي المعاصر، فأنت ناقد إنسانويّ؟ لمَ لم تنشر مقالات عن الفكر المناهض للإنسانويَّة في النظريَّة الأوروبيَّة المعاصرة؟ أنا لا أقترح هنا أنَّه من الواجب عليك القيام بأيٍّ من هذه الأمور، لكنَّ الفضول يدفعني لمعرفة إهمالك لمثل هذا التشابك الفكري السياسي، آخذين بعين الاعتبار علاقتك بشخص مثل آرون. هل الأمر منوط فقط بالمزاج العام لديك، أم المسألة مرهونة بمبدأ ما؟

ـ تودوروف: يقودني السؤال الذي طرحته عن غياب الحماسة الجدليَّة في أعمالي لاتجاهين، وهما ليسا منفصلين بالضرورة عن بعضهما بعضاً: أستطيع أن أتساءل عن الأسباب التي أمتلكها لتبرير هذا الاختيار أو عن المسبّبات التي قادت لمثل هذا الخيار، ربَّما دون أن أدركها. وفيما يخصُّ الاتجاه الأوَّل؛ فإنَّني أرى موقفي هذا نتيجة لمبدأ الأولويَّات والوسائل التي توسَّلت بها. وفي الحقيقة فإنَّني ضدّ المماحكات الفكريَّة في كتبي، فهي حركات فكريَّة وأنساق للتفكير أكثر من كونها مرهونة بأفراد بعينهم. ففي كتاب "اجتياح أمريكا" وكتاب "عن التنوُّع البشري" قمت في آن واحد بتحليل ومحاربة العنصريَّة ورهاب الأجانب والقوميَّة والتشنُّج في علاقاتنا مع الآخرين. وفي كتاب "مواجهة التطرُّف" وكتاب "الأمل والذاكرة"، قمت بالشيء نفسه فيما يتعلق بالآيدولوجيَّات الشموليَّة. وبالمقارنة مع هذه الجدليَّات الجوهريَّة، بدت لي فكرة التصارع مع أقراني المفكّرين من الذين جايلوني فكرة سخيفة. وأنا هنا لا أحاول تجاهل أفكار الآخرين بصورة منهجيَّة، ولكنَّني أعمّم هذه الأفكار، لأنَّني أعتقد أنَّ هنالك أناساً آخرين يشاطرونهم الرأي. ومن المهمّ بمكان مجابهة الفكرة وليس الأشخاص. إنَّ مجابهة التأويلات المختلفة يشكّل مصدر تحفيز لي في أعمالي، ولكنَّني أشعر أنَّ الأولويَّة يجب أن تُعطى في نهاية المطاف للكليَّات، وليس للجزئيَّات التي لا يمكن أن يختزلها تعريف.

أعتقد كذلك أنَّ أكثر الأعمال أهميَّة، والتي من الممكن أن تنتجها، هي تلك الأعمال التي تمثّل التحدّي الأكبر لك. تبدو لي دائماً فكرة استسهال التنفيذ علامة الإخفاق في فهم جوهر الأشياء، فعلى العكس من هذا، فإنَّ مجابهة الصعوبات الجديدة لها أثر تحفيزي لديَّ. وبهذه الطريقة أفسّر لنفسي ذلك التردُّد في التركيز على الموضوع نفسه لفترة زمنيَّة طويلة، ورغبتي، بعد العمل في ميدان واحد لفترة طويلة، في اجتراح مواضيع جديدة في سياق مشابه. إنَّني أجد الأمر أحياناً محيّراً جدَّاً في المقابل عند التفكير في تنوُّع ميادين المعرفة التي أخوض غمارها: البويطيقيَّة والبلاغة والسيميولوجيَّة ونظريَّة التأويل، وتاريخ الأدب والرسم، وتاريخ الأفكار والمذاهب، والفلسفة الأخلاقيَّة والسياسيَّة. أعتقد أنَّ مثل هذا البناء الإيجابي المحض أكثر صعوبة من نقد الخصومة. يبدو هذا الأمر صحيحاً على وجه الخصوص في المواجهات المكتوبة (حتى عندما يكون الشكل الوحيد الذي تتفوّق فيه الجدالات الفكريَّة على تأثير الخطابات) وعندما تكون مادة النقد ليست موجودة لكي تتناقض معك أو لكي تسخّف من الشخص الآخر لتثلج صدرك ولو لماماً. إنَّ تأكيد مفهومك عن العالم دون الالتفات لمفاهيم الناس الآخرين هو الفكرة التي تبدو لي أكثر أهميَّة وأكثر صعوبة في الوقت نفسه. أضف إلى هذا أنَّ المواجهات الفكريَّة الأكثر ثراء وجدوى هي ليست تلك التي تكون فيها على نقيض تام مع الشخص الآخر. فلو اخترنا عبارة ممجوجة كالحوار، مثلاً، فإنَّه يتموضع بين الاقتتال والانسجام المثالي، فلو اندمجت أصوات مختلفة مع بعضها بعضاً، أو تصارعت هذه الآراء، فإنَّ فكرة تنوُّعها تصبح عبثيَّة. لقد تعلّمت أكثر ما تعلمت من الكتّاب الذين أترك بيني وبينهم مسافة سلام قبل أن يلقوا بي في مهبّ المجهول. فلو كنت متفقاً بنسبة ثلاثة أرباع وغير متفق بنسبة الرّبع، حتماً سيكون عدم اتفاقك نقطة البدء الأكثر حماسة والفكرة الأكثر اختلافاً. أمَّا عندما تكون الأشياء المشتركة بين الطرفين كثيرة، فعندها لن تكون راغباً في الخوض في أيَّة مواجهة فكريَّة وجهاً لوجه أيَّاً كانت.

ملاحظة أخيرة: لقد بدأت أستنتج تدريجياً أنَّ مسألة فصل الأشخاص عن أفكارهم أمر فيه الكثير من الضرر. ولا أقصد هنا عندما جرت محاولات كثيرة في السابق فيما يخصُّ التاريخ الأدبي لفهم العمل الأدبي من خلال صاحب العمل، ولكن يبدو لي أنَّ السيرة الذاتيَّة للكاتب هي أيضاً تعبير صارخ وبليغ مواز للعمل نفسه. ولهذا السبب فعندما أكتب عن المفكّرين والكتَّاب، أحاول قدر الممكن أن أترك مسافة كافية لحيواتهم الشخصيَّة وأفكارهم على حدٍّ سواء. لقد اتبعت هذا المنهج في كتابي عن كونستانت "بينيامين كونستانت: شغف الديمقراطيَّة"، كما قمت بالشيء نفسه في تمثيلاتي المقتضبة عن ريموند آرون وإدوارد سعيد ومؤخراً في استعراضي لوايلد وريلكه وسويتاليفا، وهي شخصيَّات تحدَّثت عنها في أحد كتبي الأخيرة: "مغامرو المطلق".

أمَّا في الوقت الحالي، فإذا بدت فكرة رفض طروحات سيرة المؤلف أمراً ممكناً في صورتها الجدليَّة، فإنَّ الفكرة تبدو بلا معنى عندما نتعامل مع سيرة الحياة لهذا الكاتب. كيف يمكن لك أن تعارض سيرة حياة؟

وأودُّ أن أضيف هنا أنَّني لا أطمح هذه الأيام كما كنت أفعل سابقاً لإنتاج نصٍّ يتمُّ اختزاله في طروحاته الخاصَّة به، إنَّني أحاول أن أثري النصَّ بمزيد من القصص، سواء كانت لأناس آخرين أو لي، وكما نعلم، فإنَّ القصص تذكي التأويل كثيراً، فهي تخلو من التفنيد. فكتب مثل "التراجيديا الفرنسيَّة، وهشاشة الخير، وسيرتي الذاتيَّة الفكريَّة" كلّها تندرج تحت جنس فكري يخلو من التمثلات الجدليَّة، فهي لا يمكن أن تختزل في مواضيع الطروحات الجدليَّة.

ولهذا فأنت ترى أنَّني أجد مبرراً في عدم خوضي في المماحكات الفكريَّة مع نظرائي المفكّرين فيما يخصُّ كلّ ضروب الخلافات الفكريَّة. لكنَّني لست متأكّداً من أنَّ مثل هذه الخلافات الفكريَّة لم تكن كافية لتفسير الخيار الوجودي. ويبدو أنَّ مثل هذه القرارات قد تشكَّلت من خلال أحداث تاريخيَّة حدثت في الماضي، وبصورة خاصَّة، في سنوات الطفولة والمراهقة التي أثثّت بداياتي. أستطيع أن أستشعر أسلوبي في هذا الاتجاه بصورة غير مؤكَّدة. ثمَّة الكثير من الأشياء لست متأكّداً منها في هذا الصدد. ولكن حتماً كانت سنة 1944 و1963 ذات أهميَّة جوهريَّة في سيرتي الذاتيَّة، إذ كنت أعيش تحت سطوة الحكم الشيوعي البلغاري. أمَّا في الوقت الرَّاهن، فإنَّني أؤمن، على سبيل المثال، أنَّ اهتمامي المبكر بمسائل الشكل والبنية، والذي دفعني لترجمة لنصوص الشكلانيين الروس (سنة 1965) ثمَّ لكتابة كتب مثل "الفانتازيا وبويطيقيَّة النثر"، كان متصلاً بشكل وثيق بحقيقة جوهريَّة؛ وهي أنَّ الأفكار الجدليَّة كانت مستحيلة في الدولة الشموليَّة. فكلُّ شخص يريد أن يقول شيئاً عن الأدب لديه خيار يتيم، وهو خدمة الأجندات والدعاية الرسميَّة والتركيز فقط على المظاهر الشكليَّة للنصوص.

رغم أنَّني لست متأكّداً، يبدو محتملاً أنَّ تجنّبي للممحاكات الفكريَّة، ورفضي الخوض في مواجهات فكريَّة مباشرة، كان أمراً متعلقاً بالماضي الشمولي. لقد تعلمنا من نظام الحكم أنَّ أيَّ شخص يناهض الموقف الرسمي فسيكون عرضة لأن يخسر امتيازاته الاجتماعيَّة وعمله، وحقّه في العيش في مدينة معيَّنة والدراسة في جامعة معيَّنة، وفي بعض الأحايين يخسر حرّيته أو حياته. إنَّ نتائج التعبير عن موقف عدائي كانت في غاية الخطورة، وإنَّ الغالبيَّة من الناس كانوا يشعرون بأنَّه من الأفضل لهم عدم المحاولة. وبصراحة أكثر، فقد تمَّ تخويفنا من الجهر بأفكارنا، ممَّا ولَّد لدينا إحساساً بالتأقلم والإذعان والتنازل، أكثر من خلق روح التنافس والمواجهة الفكرَّية. من يدري؟ ربَّما كانت هذه أحد مصادر عدم اهتمامي في الخوض في سباق المماحكات والسجالات الفكريَّة التي كان الكثير من المفكّرين، ولا سيَّما من الفرنسيين، معتادين عليها جدَّاً.

إنَّ هاتين الوسيلتين ليستا حكراً على الإجابة عن السؤال نفسه. ربَّما تنبجس الآراء الواعية من مصادر غير واعية، ولكنَّ هذا لا يعني أن تختزل مثل هذه الآراء أو المصادر في هاتين الوسيلتين.

داني بوستل: لديَّ فضول لمعرفة آرائك حول أحداث الشغب في نوفمبر (2005) في فرنسا. هنالك عدد من التفسيرات والتأويلات التي قدّمت، وكان الدافع الجوهري هو الإسلام، والعنصريَّة، والاضطهاد الطبقي، والأزمة الدّينيَّة والعرقيَّة، وصراع الحضارات، وعودة الكبت الاستعماري، وتمظهرات ثقافة الطبقة المسحوقة عالميَّاً، وغيرها من الدوافع. ثمَّة جدل كبير حول عبارات إلين فينكيلكروت، التي مفادها أنَّ القضيَّة تتلخَّص في وجود تيَّار المحافظين وحالة عدم الرضا المصاحبة له. ما تصوُّرك لهذه الظاهرة؟ وما العواقب المتوقعة؟

ـ تودوروف: في البداية، عليَّ أن أقول: إنَّني لا أمتلك معلومات مباشرة عن هذه الأحداث. لا شكَّ أنَّ أحداث العنف لم تصل إلى مراكز المدن، ولهذا فهي لم تخترق باريس، وهي مركز وعمق لمنطقة مترامية الأطراف. لقد كان العنف مقتصراً جغرافيَّاً على المشاريع الإسكانيَّة في ضواحي بانلوس الباريسيَّة. إذن جلّ ما أعرفه كان مصدره التلفاز والصحف. وقد تشكَّلت آرائي من خلال التواصل مع الوسطاء لهذه الأحداث، من الصحفيين وموظفي العمل الاجتماعي والمدرّسين المحلّيين، والموظفين القانونيين وأفراد الشرطة. فمصدر معلوماتي الأوَّلي كان متعلّقاً بخطاب العنف في نوفمبر، وليس أحداث العنف ذاتها. ولا بدَّ من ذكر هذا لتأطير حدود ملاحظاتي.

ومن خلال هذه الخطابات، أودُّ أن أشير إلى ملاحظتين متناقضتين، وهما تأويلان هامشيَّان بالمناسبة، واللذان أعطيا مصداقيَّة أكثر، خصوصاً كلّما تعمَّقنا في المشهد الواقعي لأحداث العنف. لكن ماذا لو لم يكن لهذين التصوُّرين علاقة بالحقائق التي تمَّ رصدها؟ كان أحد هذين التصوُّرين، الذي سمعت به للمرَّة الأولى في زيارة لي لجامعة كولومبيا في نيويورك في ديسمبر عام 2005، ومفاده أنَّ هذا العنف كان ثورة مشروعة لشعب مضطهد ومظلوم من قبل المستعمر، وحكومة عنصريَّة كانت محمومة بالإسلاموفوبيا. أمَّا التصور الآخر، فقد قرأته في الصحافة الأمريكيَّة، التي اعتبرت هذه الأحداث بمثابة هجوم على فرنسا وعلى قيمها، وكبرنامج مناهض للجمهوريين، والذي تمَّ موضعته في سياق التهديد الإسلامي الإرهابي للغرب. ثمَّة أناس انساقوا وراء هذه التفسيرات في فرنسا، أيضاً، وبشكل رئيس أولئك الذين لم يكونوا على اتصال مع ضواحي بانيلوس المتضرّرين. وهذان الموقفان يعبّران عن أحكام مناقضة لبعضها بعضاً، لكنَّهما يشتركان في أمر واحد وهو أنَّنا نتعامل مع صراع سياسي، يبدو أنَّ أساسه عرقي وديني. وأنا شخصيَّاً، أخشى أنَّ هذين التصوُّرين هما محض فانتازيا لمؤلفين وهواجس واعية وغير واعية وآمال أكثر ممَّا هي واقع يرصد حقائق بعينها.

ولكن ما طبيعة هذه الحقيقة بالضبط؟ دعنا نبدأ ببعض الحقائق الجوهريَّة التي لا مراء فيها. ففي شهر كانون الثاني، أعلن النائب العام الحكومي لمدينة باريس أنَّ 63% من المعتقلين في أحداث الشغب هم من الأقليَّات، 87% هم فرنسيو الجنسيَّة، و50% ليس لديهم سجل اعتقال سابق، و50% لم يلتحقوا بالنظام المدرسي سابقاً. أمَّا فيما يخصُّ الدافع وراء ما قاموا به، فقد صرَّح النائب العام بأنَّه "لا وجود لادّعاءات تأثير الهويَّة أو أيَّة دلالات سياسيَّة أو تحريض ديني أو الاستيلاء على الممتلكات". وفي الحقيقة، وفي خضمّ هذه الأحداث، كانت الأصوات الإسلاميَّة الوحيدة المسموعة هي التي تنتمي لأفراد متديّنين كانوا يحثون الشباب على العودة إلى بيوتهم. وحتى رئيسة جبهة اليمين الوطنيَّة، جين لي بين، والتي كانت دوماً متحمّسة لإذكاء الصراع الثقافي والعرقي، كانت مجبرة على الاعتراف بهذه الحقيقة. لقد أعلن النائب العام أنَّه لم يكن متفقاً أبداً مع أولئك الذين يرون الأسباب الدينيَّة أو العرقيَّة سبباً لأحداث العنف، والتي وصفها بأنَّها أشبه "باللعبة التي لم تحمل الطابع الثوري أبداً". يبدو واضحاً أنَّ فكرة صراع الحضارات لا تحدث إلّا في عقول الذين يؤمنون بهذا الصراع لا أكثر.

كيف لنا إذن أن نصف ما حدث في كانون الثاني في فرنسا؟ وما الدروس المستقاة من هذه الأحداث؟ علينا أن نفرّق في البداية بين العوامل المباشرة التي أذكت أحداث العنف، وبين العوامل غير المباشرة التي كان لها أثر على هذه الأحداث على المدى الطويل. كلُّ هذه الدوافع كانت حاضرة بقوَّة، ولكنَّها لم تسفر عن النتائج نفسها، ولم تكن تدعو إلى ردود الفعل نفسها.

لقد أشعل فتيل هذه الأزمة موت شابَّين مراهقين، إذ تمَّ صعقهما بالكهرباء أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة (وسواء كانت الشرطة تطاردهم أم لا، فهذا أمر ثانوي بالنسبة إلى موتهما). ثمَّ قام وزير الداخليَّة بعد هذا بإعلانه أنَّه ينوي تنظيف المشاريع الإسكانيَّة من هؤلاء المنحطّين السفلة، ممَّا زاد الطين بلّة. لقد كانت ردَّة فعل الأشخاص الذين شعروا بأنَّهم مستهدفون في تصريحات الوزير فوريَّةً. وفي استعراض للقوَّة كان يستهدف الوزير والشعب، اشتبك هؤلاء الأشخاص مع الشرطة لعدة أسابيع، ولكن دون تجاوز حدود معيَّنة، إذ لم تسجّل حالات وفاة من الطرفين (رغم أنَّ شخصاً توفي من خارج نطاق الاشتباك مع الشرطة، ثمَّ تحوَّل مشهد استعراض القوَّة إلى صراع مزايدات صبيانيَّة، فصارت المسألة متعلقة بمن يستطيع أن يشعل نيراناً أكثر من الآخر، ومن يستطيع أن يحرق عدداً أكبر من السيَّارات، أو يتحدَّى الشرطة بصورة أكثر قوة ولمدَّة أطول. وقد تبع هذه الصراعات تصريح للتلفاز بأنَّ عدد السيارات التي أحرقت هو 140 سيارة، ممَّا زاد الطين بلّة مرَّة أخرى. من يا ترى سيجني ثمار هذه الفوضى؟ يصاب أحدنا بالذهول وهو يراقب مواجهات استعراض العضلات الصبيانيَّة التي يقوم بها مجموعة من الصبية الذين يحاولون الحصول على الاعتراف بوجودهم والاحترام وجذب الاهتمام من قبل أقرانهم، (ويبدو أنَّ الأمر نفسه ينسحب على الوزير فيما بعد). ومن الواضح أنَّ الفتيات لم يشتركن في هذه المواجهات العنيفة. أمَّا بخصوص الصبية، فأكثر من ثلثي الشباب كانت تترواح أعمارهم بين الثانية عشرة والثامنة عشرة، وقد كانت أعمال العنف التي قاموا بها جزءاً من استعراض العضلات الصبياني لا أكثر.

ويبدو أنَّ أشكال العنف التي طفت على السطح جديرة بالملاحظة. فهي لم تكن تعبّر عن حاجات عرقيَّة أو دينيَّة أو سياسيَّة. فعصابات هؤلاء الصبية الشباب لم تقتحم باريس حيث يعيش الأثرياء، ولم يهاجموا قاعات المدينة أو أيَّة بنايات مؤسَّساتيَّة. وبالكاد اجتازوا حدود مشاريعهم السكنيَّة. فبدل أن يصبُّوا جام غضبهم على رموز الجمهوريين الفرنسين، قاموا بذلك ضدَّ جيرانهم الذين يمثلونهم في كلّ جوانب الحياة باستثناء العمر، وقاموا بمهاجمة نظام البنى الاجتماعيَّة الذي من المفترض أنَّه يجلب لهم المصلحة. وقد قاموا بحرق السيارات في الشوارع، وأماكن اصطفاف هذه السيارات، تلك التي تعود لجيرانهم وأعمامهم وأقاربهم. وحاولوا تدمير المرافق الرياضيَّة وقاعات الاجتماعات الأخرى التي يستخدمونها كذلك الأمر. ثم أضرموا النيران في مراكز العناية النهاريَّة والمدارس التي يدرس فيها أخوتهم وأخواتهم، وأحرقوا أيضاً خدمات التوظيف الحكومي التي وجدت لخدمتهم أصلاً. كلّ هذه الأفعال هي دليل صارخ على فكرة التدمير الذاتي (حتى لو لم يلاحظ ممثلوهم هذا الأمر). لقد أحرقوا الحافلات (المتهالكة والقديمة جدَّاً)، والتي تربط مشاريعهم السكنيَّة بالعالم الخارجي، ولهذا فهم وعائلاتهم ضحايا هذه الأحداث أيضاً، وليس الناس الذين يسكنون في المقاطعات الثريَّة.

وهذه ليست المرَّة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا السلوك من التدمير الذاتي، ونحن نعرف اليوم مدى تأثير الدوافع والمسبّبات على الفرد والجماعات. إنَّ أولئك الأطفال الذين تمَّ وصم ذواتهم بصورة سلبيَّة هشّة، قد تبنَّوا هذه الصورة الذاتيَّة بصوة أبعد ممَّا كنّا نظن، وكأنّي بأحدهم يقول: "ها أنا ذا أكثر وضاعة ممَّا تظنّون. فهم لا يشعرون بأنَّهم مدينون بأيَّة صورة لهذا المجتمع الذي نبذهم، وها هم أولاء الآن يرفضونه بدورهم، بل يجدون المتعة في تدميره". قبل حوالي مئة وثلاثين عاماً، كانت بعض شخصيَّات دوستيفيسكي تقول: "إذا لم أتمكَّن من النجاح يوماً، فليذهب كلُّ هذا العالم إلى الهاوية". إنَّها عبارات عدميَّة بلا شك، وليست عبارات دينيَّة. إنَّ الهويَّة التي يحاول هؤلاء الصبية أن يتمثلوها ليست هويَّة عرقيَّة أصلاً. إنَّ جُلَّ اهتمامهم يكمن في تركيزهم على منطقتهم السكنيّة، والقيمة القصوى التي يدافعون عنها هي السيطرة على هذه المنطقة أمام خطر هجمات الشرطة المحليَّة. أمَّا القانون السائد، فهو قانون الأقوى، والهدف الوحيد الذي يقتاتون عليه هو الرضا الآني لبعض الرغبات البسيطة. إنَّ هذه الكراهية لهذا العالم الخارجي وسننه وقوانينه الكامنة في قطاع اجتماعي منتظم، تعكس كراهية مكبوتة للذات وحالة من الاكتئاب المزمن.

أودُّ أن أستشهد ببعض العبارات للروائي الفرنسي العظيم جيري، والتي يتحدَّث من خلالها عن اندلاع أحداث عنف حدثت قبل حوالي ثلاثين عاماً سنة 1975: "يشعر المراهق بعدم الأهميَّة أمام تغوُّل وتوحُّش يقهره في مجتمع غريب. إنَّه يشعر بالانكسار والعبوديَّة بسبب هذا المجتمع. فذاته، التي سحقت بشعور اللَّا أهمية والتحدي اللَّا منتهي في كلّ شأن من شؤون الحياة، قد تحوَّلت إلى "ذات" جمعيَّة؛ فالجماعة هي التي استبدلت الفرد بذاتها واختزلت وحدتها، التي تشكَّلت من خلالها مبادرة الجريمة، والتي لم يعد الفرد فيها قادراً على العودة بعدها إلى نقطة البدء، ثمَّ تصبح بعد ذلك تمظهراً لفكرة الانتماء".

نستطيع أن نرى من خلال هذا السلوك مدى أهميَّة مسألة النشأة والبناء للأطفال في مقتبل أعمارهم، فيما لو أرادوا أن ينعموا بحياة بشريَّة مكتملة. وعلى عكس ذلك، فإنَّ ما تمَّ اقتراحه دون أدنى تفكير من قبل بعض منظّري ما بعد الحداثة، والجماعات المرتحلة، والمرونة، واللَّا انتماء، لم تكن بالضرورة فكرة مجدية. فالعائلات والمجتمعات ذات الأصول والعادات قد تكون قمعيَّة، ولكنَّ غيابها قد يؤدّي إلى نتائج سلبيَّة جدَّاً. فهؤلاء الصبية قد سلبوا حقهم، في مرحلة الطفولة، في التضامن والتكافل الاجتماعي، والذي يعتبر أمراً ضروريَّاً لبناء شخصياتهم. والكثير منهم قد ولد في كنف عائلات بلا آباء، أو مع آباء قد تعرَّضوا للإهانة والازدراء في طفولتهم. وهؤلاء الأطفال ليس لديهم نموذج أخلاقي يستطيعون من خلاله تمثّل قوانين المجتمع، بسبب انشغال أمهاتهم في العمل، أو بسبب حرمانهم هم من التكافل والتضامن الاجتماعي. ومن اليوم الأوَّل في المدرسة يشعرون بالنبذ، فلديهم مشاكل لغويَّة، ولا يستطيعون أن يجدوا الأجواء الملائمة لهم للعمل بواجباتهم بهدوء في البيت. فعائلاتهم قد هاجرت إلى فرنسا، ولكنَّهم هم أنفسهم، سواء كانوا يمثلون الجيل الأوَّل أو الثاني، يعانون من البُعد عن أرض الجذور، وليس لديهم هويَّة بديلة عن تلك التي يحاولون بناءها في فرنسا. وعندما يصلون سنَّ العمل، لا يجدون أحداً متحمّساً لتوظيفهم، فليس لديهم مهارات محدَّدة، وقدراتهم لا تعتبر موثوقة في هذا الشأن. وبهذه الصورة من البطالة المتفشيَّة، فإنَّ مشاريع السكن قد تغوَّلت على المشهد فيما يقارب 50%، ممَّا دفع بهؤلاء الصبية للتورط في صفقات مؤقتة لبيع الحشيش وجرائم تافهة من أجل فكرة البقاء.

يبدو أنَّنا لا نستطيع التقليل من أهميَّة أثر الصور التي يروّجها مجتمعنا بصورة مهولة. فالأطفال الذين يتركون وحدهم أمام التلفاز، والذي أعتبره مربّي الفقراء، يشاهدون ويتشربَّون مشاهد كثيرة عن العنف الجسدي والجنسي. فالغرباء الذين يقلّدونهم ليسوا أئمَّة من القاهرة أو مغنيي الراب في لوس أنجلوس. والنماذج التي تشكّل مصدر إلهام لهم تتمثل في ما يشاهدونه في التلفاز، والتي تحتوي على صور تلفزيونيَّة كثيرة يتشرَّبها هؤلاء الصبية؛ ممَّا جعلهم لا يميّزون بين الحقيقة والخيال. فهؤلاء الأطفال يتصرَّفون، في كثير من الأحايين، تماماً كصور كاريكتوريَّة، لكنَّها صور كاريكتوريَّة تخصُّ مجتمعنا نحن. في كلّ مكان يذهبون إليه، يجدون الكثير من الإعلانات التي تحثّهم على شراء أشياء جديدة، لكنَّهم لا يملكون الوسائل لشرائها. ربَّما يكون الثراء أمراً ملحوظاً في كلّ مكان، لكنَّ هؤلاء الأطفال يعتمدون على دخل ضئيل، يتمُّ تقسيمه إلى أجزاء كثيرة، وعلى مشاريع تفتقر لكلّ شيء، فهي عالقة بين مشاريع سكك الحديد والطرق الخارجيَّة السريعة، والتي تفتقر لشوارع معبدة والمحال، وتفتقر أيضاً للمرافق الأخرى. وفي تعليق له حول استفزاز المجتمع يقول جيري: "إنَّ هؤلاء الأطفال هم عرضة لتشرُّب مثل هذه الدعايات، ولكنَّهم دوماً محرومون من الوسائل للقيام بواجبهم. ممَّا أدَّى للانفجار الحقيقي." (لقد كان جيري على حق عندما أشار في ذلك الوقت لأحداث الشغب في المقاطعات الداخليَّة للأمريكان السود في الولايات المتَّحدة).

ويبدو جليَّاً أنَّ العدوان الذكوري، والعدميَّة المدمّرة للذات، ومشاعر السخط لدى الشباب بسبب الشعور باللَّا انتماء والنبذ هي الدافع المباشر لأحداث العنف الأخيرة. ولكن هل يمكن تفسير هذه الأحداث بالمقابل؟ ربَّما علينا أن نتجاوز أحداث نوفمبر لعام 2005. ونستطيع أن نبدأ ببعض الملاحظات، في محاولة منَّا لاستحضار بعض عناصر السؤال الجوهريَّة: ثمَّة صبية هاجر آباؤهم من آسيا (الصين، وفيتنام، والهند)، وقد نجحوا بالانخراط في المجتمع الفرنسي بصورة أفضل من أولئك الذي قدم أسلافهم من شمال أفريقيا والقارَّة السوداء. ربَّما كانت دوافع كثيرة وراء هذا الأمر، وباستثناء شبه جزيرة الهند الصينيَّة، كان أحد هذه الدوافع هو تغوُّل الاستعمار الفرنسي في قارة أفريقيا. إنَّ هذه التجربة التي استمرَّت قرابة قرن، قد تركت جروحاً غائرة لم نشفَ منها بعد. فالمستعمَر سابقاً يتمثل صورة الدونيَّة؛ ومن ثمَّ يرفض هذه الصورة من خلال العنف، أمَّا المستعمرون السابقون فهم يستعيدون دوماً شعوراً ما بالتفوَّق والاستعلاء والرضا تجاه المستعمر ومن هنا يتولّد السلوك العنصري والعدائي من قبل ممثلي الحكومة (الذي يمثله رجال الشرطة) ومن الأفراد المدنيين (كأصحاب الممتلكات ومدراء الأعمال). ومن هنا أيضاً تتولّد الممارسات العدوانيَّة والموسومة بتدمير الذات من قبل الأطفال أو الأحفاد للمستعمرين سابقاً.

وإحدى الخصائص الأخرى لهذه الشريحة من السكان مرهونة ببنية العائلة ومكانة المرأة في الأسرة الإسلاميَّة. وعلى النقيض من الاعتقاد الشائع، ليس هنالك علاقة ضروريَّة بين الإسلام وبين تبعيَّة النساء. وفي عمل ريادي للأنثرولوجيَّة الفرنسيَّة جيرمان تيليون، والموسوم بعنوان "حريم أبناء العمومة" توضح فيه الكاتبة أنَّنا في خضم الحديث عن بنية اجتماعيَّة جاءت قبل الإسلام، والتي تمتدُّ جغرافيَّاً وتاريخيَّاً إلى العالم الوثني والثقافة المسيحيَّة لصقلية وكورسيكا الحديثة. وبالرّغم من هذا، فإنَّ جزءاً من السكَّان المهاجرين الذين يطبّقون الإسلام قد أصبحوا عرضة للصدمة الثقافيَّة في مواجهتهم لأنماط الحياة الغربيَّة. لا شكَّ أنَّ النساء يضطهدن في كلّ تقاليد الشعوب، ولكنَّ الكثير من نساء المسلمين يتمُّ اختزالهن في بيوتهن من قبل أزواجهن. والكثير من الشباب الذين لديهم صلات وثيقة مع منظومة العادات والتقاليد عادة يقسمون النساء إلى قسمين: البكارى والعاهرات، ولهذا يحرصون كثيراً على مراقبة أخواتهم بشتَّى الوسائل. لقد ولَّد هذا التقليد أنماطاً جديدة من الإحباط.

ثمَّة فرق كارثي بين تمثيلات المرأة من منظورين جوهريين مختلفين: فالصورة الأولى هي صورة المرأة التي يتمثلها شباب جيتو ضواحي الأطراف لمدينة باريس، حيث يتمُّ اختزال العلاقات من خلال تصعيد استعراض الفتوَّة الجسديَّة والعنف. وهذه الصورة النمطيَّة تكاد تكون مماثلة للمناطق الفقيرة في كلّ مكان، من لوس أنجلوس مروراً بأكبر المناطق في باريس، ولا علاقة للأمر بدين بعينه. والدافع وراء هذا النمط هو عدم وجود قيمة جوهريَّة يتمثلها الناس؛ فقوَّة البطش قد حلّت محلَّ قوَّة القانون. ولدينا صورة ثانية مصدرها التراث الإسلامي، وهي متصلة بنمط الحياة لمجتمعات ريفيَّة قديمة وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع ظروف معيشية حداثيَّة كتلك التي في أوروبا وأفريقيا وآسيا. إنَّ مثل هذا الاختزال والتسطيح، في تمثيل المرأة "كاستراحة للمحاربين" من جهة، أو كنساء أسيرات ومحجَّبات من ناحية أخرى، هو الذي أنتج مثل هذه الصورة النمطيَّة المؤثرة. وهذا أيضاً هو الذي دفع بكثير من النساء من هذه المرجعيَّة الثقافيَّة نفسها إلى الإعلان جهاراً أنَّهن "لسن عاهرات ولسن خاضعات"، حسب الشعارات التي تمَّ الترويج لها من خلال الحراك النشط في ضواحي باريس النائية.

وبما أنَّ جذور هذه التحدّيات ضاربة في التاريخ، فمن الصعب إيجاد حلول متاحة لها. لم يعد هذا العالم نتاجاً لمجتمعات متجانسة ومنعزلة عن بعضها بعضاً. لقد وجد الكثير من النساء والرجال أنفسهم منبتّين عن أوطانهم الأصليَّة، ومنخرطين في بيئات أجنبيَّة وعدائيَّة لهم، حيث يتوجَّب عليهم التعايش معها جنباً إلى جنب مع بعضهم بعضاً. لقد أصبح الاحتكاك الثقافي أمراً لا بدَّ منه. ولكنَّ فرنسا ليست معتادة على التحوُّلات التدريجيَّة، فقد استبدلت حقباً زمنيَّة من الفكر المحافظ بالتقلبات الراديكاليَّة. ورغم هذا كله، فنحن ندرك أيَّ اتجاه يجب أن نسلكه لمواجهة هذه التحدّيات؛ كلّ ما يجب علينا القيام به هو خلق نسيج اجتماعي يتيح لهذه الفئة من السكَّان الذين يعيشون في هذا البلد التمتع بقدر من الثقة والاعتراف من خلال التوسّل بالنشاطات والممارسات السلميَّة. ولتحقيق هذا الهدف، تبدو مسألة إشهار الحقّ في وجه السلطان أمراً حتميَّاً. وهذا لا يعني السقوط في فخ الفانتازيا، ولا حتى الهروب من مجابهة الحقائق وجهاً لوجه. إنَّ الخطاب السياسي التصحيحي هو المسؤول عن الكثير من النفاق والجهل المتفشي. على المرء أن يكون حذراً من مهاجمة الشخص الخطأ والدفاع عن الأعداء بدلاً من الدفاع عن المعذَّبين في الأرض من الفقراء والمسحوقين. ثمَّة مخاطرة عندما نتوارى خلف قناع الهروب من الخطاب السياسي، لأنَّنا عندها سنقع في وحل الخطاب السياسي التسطيحي والمضلل، وسنعود بخفَّي حنين.

داني بوستل: بما أنَّ الإسلام ليس سبباً في أحداث الشغب التي حدثت في نوفمبر، لكنَّه دافع جوهري في الاحتجاجات، والسخط العالمي ضدّ رسومات الكرتون الدانماركيَّة. إذن مرَّة أخرى، وفي خضم حالة الاضطرابات التي تحدث في فرنسا، فقد شهدنا عدداً كبيراً من الآراء والجدل حول هذه الأحداث. ما انطباعك، أوَّلاً، عن هذه الأحداث ذاتها، وثانياً، عن الجدل الذي يدور حولها؟

ـ تودوروف: في الحقيقة، نحن هذه المرَّة أمام صراع له جذور ثقافيَّة، إذ يلعب الإسلام فيه دوراً لا يمكن إنكاره. لقد أثار موضوع رسوم الكرتون عدداً من الأسئلة التي تحتاج نوعاً من المعاينة سؤالاً تلو الآخر. وأنا هنا لا ألمّح لتكون إجاباتي اختزاليَّة. دعنا نبدأ بتذكير أنفسنا بما حدث على أرض الواقع فعليَّاً. لقد نشرت رسومات النَّبي محمَّد في نهاية شهر سبتمبر 2005 في صحيفة دانماركيَّة يوميَّة بنيَّة إثبات حريَّة بلا حدود للصحافة في الدانمارك. ولا بدَّ لنا أن ننتبه لأهمّيَّة السياق هنا: فقد كانت حكومة الائتلاف الدانماركيَّة بحاجة لدعم حزب الشعب الدانماركي المشهور، والذي يمكن اختصار برنامجه بموقفه المعادي للمهاجرين، خصوصاً تجاه المهاجرين القادمين من الدول الإسلاميَّة. لقد شعر قادة المجتمعات الإسلاميَّة بالإهانة بسبب رسومات الكرتون، فقاموا بجمع 17 ألف توقيع وقاموا بتسليم عريضة لرئيس الوزراء. ثمَّ توجَّهوا لسفراء البلدان الإسلاميَّة في الدانمارك، وطالبوهم أن يتحدثوا لرئيس الوزراء نيابة عنهم، لكنَّه رفض مقابلتهم، مبرّراً موقفه بأنَّه لا يستطيع أن يورّط نفسه في القوانين التي تكفل حريَّة الصحافة في الدانمارك. ثمَّ قام قادة المجتمعات الإسلاميَّة بالتوجُّه للسلطات الدينيَّة في البلدان الإسلامية، الذين حرَّضوا ونظَّموا عدداً من المظاهرات المناهضة للرسوم. وأثناء هذه المظاهرات، تمَّ إحراق وتدمير الأعلام والمباني التي تعود لكثير من الدول الأوروبيَّة. وقد أدَّت حملات القمع التي شنَّتها الشرطة إلى موت عشرات المتظاهرين في العديد من البلدان في آسيا وأفريقيا.

والملاحظة الأولى التي أودُّ أن أوضحها فيما يخصُّ النتائج غير المتوقَّعة لهذه الأحداث، أنَّها بيّنت أمراً في غاية الأهميَّة، وهو أنَّنا كلنا نعيش في الدائرة نفسها، وربَّما يغريني القول إنَّنا نعيش في القرية نفسها في الوقت الراهن. من كان يتخيَّل أنَّ مادَّة ما يتمُّ نشرها في صحيفة مغمورة في كوبنهاجن قد تكون محرّضاً لأحداث شغب في نيجيريا؟ إنَّ انتشار الأخبار الفوري، والصورة التلفزيونيَّة المباشرة، بالتحديد، والتي يتمُّ تلقيها بصورة فوريَّة من قبل الجمهور، قد غيَّرت علاقاتنا مع العالم الخارجي، وسلوك البشر بصورة راديكاليَّة موغلة في التأثير. ولا شكَّ أنَّ لأفعالنا آثاراً كثيرة، أكثر ممَّا نتخيَّل، وقد آن الآوان لكي ندرك ونتمثل هذه الظاهرة الجديدة بكلّ تفاصيلها.

لنبدأ بمعاينة هذه الظاهرة من خلال الرؤية الدانماركيّة، وبصورة أوسع من خلال الرؤية الأوروبيَّة. لا شكَّ أنَّ مبدأ حريَّة التعبير، مع أخذ مسألة غياب الرقابة الحكوميَّة عمَّا تنشره الصحافة بعين الاعتبار، هو أحد أعمدة الديمقراطيَّة الليبراليَّة.

إنَّ هذه الظاهرة ليست الوحيدة في المعمورة. ويتمُّ دائماً تضييق الخناق على الحريَّة من خلال مبادىء جوهريَّة مشابهة. فعلى سبيل المثال، لو رجعنا إلى أدبيَّات التشريع في العديد من البلدان، وقلنا جهاراً نهاراً إنَّ كلّ اليهود هم مصرفيون قد علا شأنهم وتسلقوا على ظهور الشعوب، وإنَّ العرب لصوص، والسود متحرشون جنسيَّاً، ولديهم دافعيَّة مستمرَّة للاغتصاب، فهذا القول حتماً مخالف للقانون، تماماً كمسألة تحريم تمجيد الإرهاب والنازيَّة والاغتصاب. وفي شهر شباط عام 2006 حكم على المؤرخ التجديدي ديفيد أرفينج بالسجن لمدة ثلاث سنوات في النمسا، ولم يسمح بإطلاق سراحه قبل انتهاء مدَّة السجن، بسبب تشكيكه بوجود زنازين الإعدام بواسطة الغاز في معسكر أوشفيتز النازي. وبالإضافة لهذا قام الأساقفة الفرنسيون بمنع نشر إعلان اعتبر مستفزَّاً لمشاعر المسيحيين.

ومثل بقيَّة القيود المفروضة على حريَّة الفرد قولاً وفعلاً، فإنَّ هذه القيود تستند بصورة جوهريَّة إلى الحاجة الملحَّة لحماية الرفاه والاستقرار الاجتماعي لضمان كرامة المواطنين، وهو مطلب أساسي يتمُّ تشريعه من خلال مبدأ المساواة. وبين حقّ التصرُّف والفعل نفسه ثمَّة مسافة يحقُّ للمرء أن يخترقها فقط عندما يأخذ بالحسبان نتائج الفعل في سياق معيَّن. فعندما ندَّد الأوروبيُّون بتصريح الرئيس الإيراني، الذي أعلن حقَّ إيران في تطوير برنامجها النووي، فإنَّهم قد اعترضوا على هذا التصريح، لأنَّهم ينظرون فيما وراء "حق" إيران أن تقوم بما ترغب به، أو أن تقوم بما قام به الآخرون، لأنَّ الأمر برمَّته يؤثّر على السلام العالمي، وهم قلقون لأنَّ المشروع النووي الإيراني أمر خطير في هذا السياق. ولهذا، كما قال البعض فيما يخصُّ حادثة رسوم الكرتون، على المرء ألَّا يلقي بأعواد ثقاب مشتعلة بجوار برميل بارود، حتى ولو لم يكن هنالك قانون يمنع هذا الفعل. يبدو لي أنَّ ما قامت به الصحيفة الدانماركيَّة كان ضربا من الحماقة، (عدم الإدراك أنَّ نشر رسومات الكرتون في السياق الراهن قد يؤدّي إلى نتائج كارثيَّة)، وأيضاً كان فعلاً مستفزَّاً (ممَّا أوقع بالمجتمع المسلم لكي تبدو ردَّة فعله كمجتمع ظلامي وغير متسامح، ممَّا يعزز من فكرة إقصائه من المجتمع الدانماركي). أمَّا فيما يخصُّ ردَّة فعل الحكومة الدانماركيَّة، فقد كانت ردَّة فعل متسرّعة. كان بإمكان الحكومة أن تمنح مساحة من الحريَّة السياسيَّة دون التوسُّل بالإجراءات القانونيَّة (مثل منع الإساءة للدّين كما كان يطالب بعض الإسلاميين). لقد كان الأجدر بالحكومة الدانماركية مقابلة هؤلاء الأفراد، وتوضيح الصيغة القانونيَّة لاحتجاجاتهم على الأقل لإظهار الاهتمام والاحترام لهم، لأنَّ عدداً كبيراً منهم قد شعر بالإهانة بسبب نشر رسومات الكرتون. لا بدَّ من التمييز بين الدوافع المتعدّدة للاحتجاج: فالاحتجاج ضدّ أيّ تمثيل لصورة النَّبي محمَّد هو مطلب ديني محض لم يستطع الإعلام الأوروبي أن يأخذه بعين الاعتبار، ومن ناحية أخرى، فإنَّ تصوير النَّبي محمَّد كشخص يضع على رأسه قنبلة على شكل عمامة هو ليس مجرَّد إساءة للدّين، بل لكلّ المسلمين، والمعنى الضمني لهذه الإساءة هو أنَّ كلَّ المسلمين إرهابيون. ولو أخذت الحكومة هذه الأمور بعين الاعتبار، دون التنازل عن مبادئها، فإنَّها حتماً ستحقن الدماء وستقلل من الاحتقان الجماهيري في الدانمارك.

وليس بالضرورة أن يكون مثل هذا الأمر محاولة لمأسسة الرقابة أو تقييد حريَّة النقد، ولكنَّه ببساطة محاولة لإدراك أنَّ أفعالنا الجمعيَّة تحدث في مساحة مجرَّدة، ولكن في سياق محدَّد يجب أن يؤخذ دوماً بعين الاعتبار. ثمَّة فرق بين انتقاد آيديولوجيَّة متغوّلة في مجتمع ما، وبين نقد جماعة مهمَّشة أو مضطهَدة: الأوَّل هو فعل شجاعة، والثاني هو فعل كراهية. ثمَّة فرق بين الاستهزاء بشخص ما أو بالآخرين، وبين القيام بالفعل نفسه من خلال رسوم مصوَّرة أو من خلال فعل الكتابة. وعلاوة على هذا، فإنَّ مثل هذه المسألة فضفاضة جدَّاً، ولا بدَّ من شرح مفصَّل لها: فعناوين الصحف الرئيسة لا تتمتَّع بالمكانة نفسها التي تتمتَّع بها المنشورات العلميَّة المتخصّصة، والأمر نفسه ينسحب على الروايات بالمقارنة مع الخطاب السياسي، والرسومات بالمقارنة مع تقارير التلفاز. والإعلام في الوقت الحاضر يمارس سلطة كبيرة جدَّاً، وعلى النقيض من أشكال السلطة الأخرى، فهو لا ينبثق من إرادة الشعب. ولنيل الشرعيَّة لمثل هذه السلطة، كما يقول مونتيسكيو، لا بدَّ لهذه السلطة من فرض قيود على نفسها. أو ربَّما كما بيَّن ماكس فيبر، ليس كافياً أن نمارس الفعل باسم أخلاقيَّات الإدانة، لأنَّنا بأمسّ الحاجة لأخلاقيَّات المسؤوليَّة، وهي ذاتها المسؤوليَّة التي تعنى بالنتائج الممكنة لأفعالنا.

ولهذا فإنَّ مكانة الأوروبيين لم ترتقِ لأنَّهم لم يتخلّصوا من تبعات هذا الشأن، والصورة التي رسمها المسلمون عن أنفسهم لا تقلُّ سوءاً عن هذا. إنَّ مثل هذه المخاوف لم تكن ضربة نرد عشواء فيما يخصُّ رسومات الكرتون، ليس هنالك دين آخر غير الإسلام في الوقت الحاضر يتمُّ توظيفه لتبرير الهجمات الإرهابيَّة وجرائم القتل والاضطهاد. ولا ريب أنَّ المظاهرات ضدّ الدانمارك استندت إلى العديد من أبعاد التمايز والمقاربات التي بدت جوهريَّة للأوروبيين: بين المبادىء الدينيَّة والقوانين بين بلد وآخر، وبين إرادة الحكومة وإرادة الأفراد. إنَّ تهديدات الموت التي فضحتها المظاهرات في لندن، على سبيل المثال، جاءت تحت مُسمَّى جريمة، وكانت السلطات البريطانيَّة على حقٍّ في اتخاذها الإجراءات القانونيَّة ضدَّ هؤلاء الأشخاص. لو افترضنا أنَّ المجتمعات الغربيَّة كانت بحاجة للتذكير بأنَّ قيمها لم تعد مثار إعجاب عالميَّاً، وأنَّ لديها الكثير من الأعداء، فلا بدَّ أن نقرَّ أنَّ هذا ما حدث فعلاً.

يبدو أنَّ السهولة التي استطاعت من خلالها بعض الجماعات المتدينة والسياسيَّة تحريض الجماهير الحاشدة للانضمام إليهم، تعبّر عن حجم الإحباط والنبذ الذي تعرَّضت له فئات كثيرة من الشعب التي تعيش في هذا البلد. ولا شكَّ أنَّ حالة السخط العام تشكَّلت بسبب الظروف الاقتصاديَّة المرعبة، والبطالة المتفشيَّة، وشحّ التعليم وشحّ انتشار المعرفة. وقد زاد الطين بلّة الشعور التراكمي بالذلّ، الذي لعب الغرب دوراً أساسيَّاً في خلقه، وهو الشعور ذاته الذي أصبح دافعاً جوهريَّاً وراء أحداث العنف. ومن الجدير بالذكر أنَّ احتلال الغرب للبلدان المسلمة مثل أفغانستان والعراق، والظلم الذي تتعرَّض له فلسطين، وصور التعذيب في سجن أبو غريب وجوانتانامو، قد عزَّزت هذا الشعور بصورة لا نظير لها. ولا أدَّعي أنَّ كلَّ أمراض ومصائب بلاد المسلمين هي بفعل عوامل خارجيَّة، أو تمَّ استيرادها من الغرب، أو أنَّ هذه الدول هي مجرَّد ضحيَّة للاستعمار الجديد. فأنا أعتقد، على العكس من هذا، أنَّ هذه الدول وصلت إلى ما وصلت إليه كدول نامية بسبب قادتها، واللوم يقع عليهم أيضاً. ومن ناحية أخرى، فقد أصبح القمع والظلم الذي مارسته دول الغرب خطاباً تأصيليَّاً في البلاد المسلمة، بل أصبح من السهل على الكثيرين إيجاد كبش فداء جاهز في توصيفهم لما يحدث، ممَّا أضفى ضبابيَّة وحالة من الغموض على الأسباب الأخرى لمثل هذه الفوضى.

إنَّ مثل هذه المقاربة بين البلدان المسلمة والديمقراطيَّات الليبراليَّة قد جعلت بعض الناس يستنتجون جزافاً أنَّ المشكلة متأصّلة في العالم الإسلامي، وهي متجذّرة في الدّين الإسلامي ذاته، وفي كتاب الإسلام المقدَّس "القرآن". وبالنسبة إليَّ، لا أستطيع قبول فكرة تأصيل واختزال أكثر من مليار مسلم، فهم كباقي الشعوب يريدون أن يعيشوا في سلام؛ إنَّهم يبحثون عن سعادتهم الشخصيَّة، وليس الجهاد أو انتصار دين على آخر. إنَّ الحتميَّة الدّينيَّة لم تعد أمراً كافياً، والمذاهب الدّينيَّة نفسها قد شرعنت الكثير من التأويلات في هذا الصدد. ومن وجهة نظري، فإنَّني أعتقد أنَّ مصدر هذا التوتّر هو سياسي أكثر من كونه دينيَّاً؛ إنَّه متجذّر على سطح الأرض أكثر منه في السماء. وهذا لا يعني أنَّنا عاجزون عن فهم الحرب الجديدة بين الأديان، والتي ينعتونها بصراع الحضارات في هذا السياق. كلّ ما في الأمر هو أنَّ أقليَّة من المتطرّفين المؤثرين والمتعصبين، الذين يشكّل هويَّتهم أنت وأنا، قد ينساقون وراء هذا الخطاب بصورة عمياء.

إذن ما الدروس المكتسبة من ضجَّة رسوم الكرتون الدانماركيَّة؟ ثمَّة وجهان للمسألة: أحدهما داخلي والآخر خارجي. وفيما يخصُّ الدول الإسلاميَّة، فيجب على الدول الأوروبيَّة أن تنأى بنفسها عن تشويه النزعة السلميَّة والإنجليكانيَّة؛ فنحن لدينا الكثير من الأعداء الذين لن يتردَّدوا في استخدام القوَّة لإجبارنا على التخلّي عن قيمنا التي نتشبَّث بها. وللدفاع عن أنفسنا، لا بدَّ أن نكون مستعدّين لاستخدام القوَّة. وفي هذه اللحظة الراهنة، عندما تكون إيران على وشك إطلاق مشروعها النووي، فإنَّ مثل هذا الأمر هو إنذار حقيقي يجب ألَّا يستهان به. ولكن يجب علينا أيضاً أن نؤكّد دوماً أنَّ مبادئنا الديمقراطيَّة ليست قناعاً مزيَّفاً نتوارى خلفه لتحقيق أطماعنا الشخصيَّة فيما يخصُّ الأرض والطاقة. يتوجَّب علينا فوراً أن نغلق السجون التي يعذّب فيها الناس باسم الحصانة القانونيَّة، ولا بدَّ أن ننهي مسلسل الاحتلال العسكري بالسرعة الممكنة، وعندما نقدّم نموذجاً يُحتذى به في تطبيق العدالة والحريَّة، الأمر الذي نفتقده في الوقت الراهن، سيكون الأمر أفضل بكثير من القيام بعمليات عسكريَّة. وإذا لم نقم بهذا الأمر (ويبدو أنَّ الحكومة الأمريكيَّة لا تنوي القيام بهذا) فسنكون قد انزلقنا في وحل المصائب بأنفسنا.

ويمكن تطبيق الطريقة نفسها ذات الوجهين محليَّاً. فلا تفريط ولا تنازلات عن المبادىء: فالدّين يجب ألَّا يُقحم في السياسة، وحريَّة وتعدديَّة الإعلام يجب أن تُصان كما ينبغي، ويجب الدفاع عن حقّ وحريَّة المرأة في الاختيار والكرامة. وفي الوقت ذاته، لا بدَّ لنا أن نتجنَّب تحريض مجتمع ضدَّ الآخر، واحتقار هذه المجتمعات ومحاباة بعضها على حساب الأخرى. وعندما نجابه حالات الإقصاء بالرفض والعناد، يكون عندها أسهل علينا ممارسة التسامح مع الآخرين على أرض الواقع.

داني بوستل: هل تتَّفق مع مقولة إنَّ عدم التصويت الفرنسي على دستور الاتحاد الأوروبي، كما صرَّح الكثير من المراقبين، هو أمر مرهون بالمظاهرات وحوادث الشغب التي أقضَّت مضجع فرنسا في عام 2006؟ ما انطباعاتك وآراؤك المتعلقة بهذه الحوادث؟ وما رأيك بالتصويت الفرنسي على دستور الاتحاد الأوروبي فيما يخصّ علاقة فرنسا بالاتحاد الأوروبي؟

ـ تودوروف: في شهر شباط وآذار سنة 2006، تعرَّضت المدن الرئيسة في فرنسا لفترة من القلق بعد أحداث نوفمبر عام 2005، إثر مشروع قانوني أقرَّته الحكومة للبدء بعقود عمل جديدة. وقد كانت الغاية الأساسيَّة من عقد العمل الأوَّلي هي تسهيل تسريح الموظفين، رغم وعود الحكومة بسهولة تشغيل المواطنين. وبعد مظاهرات واسعة اجتاحت البلاد، قامت الحكومة بسحب مشروع القانون. ولكن ما الاستنتاجات التي من الممكن أن يخرج بها شخص مثلي من هذه الأحداث؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّني لست خبيراً اقتصاديَّاً، ولست باحثاً عن فرصة عمل، ولكنَّ آرائي المتعلقة بالموضوع لن تكون إفشاء للأسرار.

وبما أنَّ هذه الأحداث تصير ضمن صيرورة معيَّنة، يوماً تلو الآخر، أجدني متيقظاً لبعض التمظهرات المبالغ بها لهؤلاء المتظاهرين. والسبب الأوَّل لعدم تعاطفي هو دافع شكلي. فأنا مأخوذ بالديمقراطيَّة التي تمثل القانون، ولا أحبُّ أن أرى الحكومة ترضخ لضغوطات الشارع؛ فهذا يذكّرني بالمظاهرات الفاشيَّة في فترة الحرب، التي أدَّت في النهاية لانهيار الديمقراطيَّة. أن تشاهد مليون متظاهر في الشارع، فهذا أمر مثير للإعجاب، ولكنَّني لا أنسى أنَّ هنالك عدداً من الجماهير أكثر من هؤلاء قد صوَّتوا للبرلمان ولهذه الحكومة ولبرنامجها. فقوانين الديمقراطيَّة تقتضي أن نسلّم بنتائج الانتخابات، حتى وإن كنَّا غير راضين عنها. فالديمقراطيَّة التي تمثلنا هذا اليوم هي عرضة للضغوطات المستمرَّة، أو ما يسمّيه جاك جوليارد "الديمقراطيَّة الدائمة" في الحقب اللَّاانتخابيَّة، مثل الاستفتاء على القوانين، والتي غالباً ما يكون لها أثر فعَّال وحاسم على القرارات السياسيَّة.

أمَّا تحفظي الثاني، فهو متعلّق بالمنعطف الذي وصل إليه الجدل الدائر حول الموضوع نفسه. فمعدّل البطالة في فرنسا يترواح بين 10% إلى 25 % من فئة الشباب، وتصل النسبة إلى 50% في المناطق الفقيرة. فالبطالة ليست مجرد كارثة اقتصاديَّة؛ إنَّها سرطان يلتهم النسيج الاجتماعي لأيّ بلد كان. يجب علينا أن نحاربه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولهذا السبب لماذا لا يكون هنالك مشروع العقود الجديدة؟ لا أعلم إن كان حلَّاً اقتصاديَّاً قابلاً للنجاح، ولكنَّني أعتقد أنَّه من التطرُّف رفضه من حيث المبدأ. لا بدَّ أن نطرح سؤالاً منطقيَّاً، وهو الذي طرحته قبل عام، فإن كان ذا فائدة كان بها، وإن كان مدمّراً، فلنسقطه. لا شكَّ أنَّ كلَّ الأحزاب السياسيَّة تريد أن تقلل من نسبة البطالة، فالصراع ضدَّها يجب ألَّا يكون أداة للاقتتال والتحيّز ضدّ فريق معيَّن.

ثمَّة عدد مهول من الطلبة انخرطوا في هذه الاحتجاجات، ولكن تبقى مسألة عدم نضج هذه المظاهرات قضيَّة أخرى. وما لاحظته بجوار بيتي (كوني أسكن في الحي اللَّاتيني) أنَّ الأمر برمَّته يعبّر عن حاجة ملحَّة لدى الآخرين للمشاركة في طقوس تعتبر شبه إجباريَّة من قبل الأجيال الجديدة: كالاجتماعات، واعتصامات الطلبة، والمظاهرات، والاشتباك مع الشرطة. لقد تولّد لديَّ شعور بأنَّ هؤلاء الطلبة يهملون دراستهم أكثر من تحمُّسهم لفكرة الصراع السياسي. ولا بدَّ أن نعترف، بأنَّ الكثير من قطاعات نظام الجامعات الفرنسيَّة باتوا في حالة يرثى لها، على النقيض من أنظمة التعليم النخبويَّة. أصبحت الكثير من هذه القطاعات لا تشجّع طلبتها على الانخراط أكثر في دراستهم.

لقد تولّد لديَّ شعور بأنَّ ردة فعل الطلبة تعبّر عن فهم ضحل للقضايا الاقتصاديَّة؛ فمستوى تدريس الاقتصاد في الجامعات الفرنسيَّة ركيك نوعاً ما. يبدو أنَّ نقاد الإجراءات المقترحة قد نسوا أنَّ عقد العمل المنقوص أفضل من لا شيء، فقبل إعادة توزيع الثروة، لا بدَّ من الإنتاج. إنَّ غياب الرؤية الواقعيَّة قد تجسد بصورة جليَّة في الصراعات الاجتماعيَّة الأخرى أيضاً، وكأنَّ الناس لم يستوعبوا بعد أنَّ التزايد المطّرد في توقّعات الحياة الذي نشهده لما يقارب نصف قرن من الزمن قد جعل من زيادة ساعات العمل أمراً حتميَّاً، (فكما هو معروف هنالك خمس وثلاثون ساعة عمل خلال الأسبوع، أو سن التقاعد عند بلوغ الستين، على سبيل المثال).

وأخيراً، يبدو أنَّني لا أستطيع أن أتخلّص من سطوة الانطباع العام، وهو أنَّ الأشخاص الذين نسمعهم في خضم الصراعات الدائرة هم ليسوا الناس المعنيين بهذه الإجراءات، ولكنَّهم قطاعات مجتمعيَّة أخرى لم تكن أصلاً مهتمَّة بمثل هذه الإجراءات. لقد كان مشروع عقد التوظيف الأوَّلي معنيَّاً بمساعدة الصبية الذين ليست لديهم كفايات، وهم الصبية الذين شاركوا في مظاهرات نوفمبر. ولكنَّ معظم متظاهري الربيع كانوا من الطلبة، وعمومهم من الصفوف المتوسطة، وأعضاء في اتحادات تجاريَّة، والذين استقرُّوا في وظائف القطاع العام على وجه الخصوص، حيث تكون الوظيفة الرسميَّة مصدر أمان نسبي. والمفارقة أنَّ الصبية من المناطق المعدمة أو الفقيرة لا يكنُّون أيَّ شكل من أشكال العداء لمشاريع ومقترحات الحكومة (حسب ما سمعنا).

لكنَّني في الوقت نفسه لا أستطيع أن اختزل أطروحتي التأويليَّة فقط لمثل هذه التحفّظات. فعلاوة على الدوافع التي عبَّر عنها المتظاهرون، فرَّبما يسمع المرء أسباباً أكثر عمقاً بخصوص هذا الشأن. فالقضايا التي طرحت لم تقتصر فقط على الجانب الاقتصادي. فالذي أشعل فتيل الاحتجاجات الأوَّليَّة كان قرار رئيس الوزراء الذي حاول من خلاله فرض مشروع إصلاحه دون الأخذ برأي الاتحادات أو البرلمان. لقد بدا مثل ديكتاتور تنويري قادم من القرن الثامن عشر، فكان يعلم أو يعتقد أنَّه يعلم الخيار الأفضل لرعاياه من خلال إجبارهم بقبول قراراته، دون استشارتهم أو الأخذ برأيهم. وبهذا، فهو يعتبر الآثار الاقتصاديَّة والجدل الاجتماعي أمراً عبثيَّاً. وقد أظهرت ردود الفعل العدائيَّة المفرطة أنَّه كان مخطئاً، فالناس تتصرَّف وكأنَّ الكرامة أكثر أهميَّة من الفوائد الاقتصاديَّة. غالباً ما يتناسى السياسيون أنَّ جوهر الماديَّات والثراء، رغم فتنته التي لا تقاوم، هو وسيلة لتحقيق حياة فضلى جديرة بالعيش، وأكثر جدوى من أيّ شيء آخر. إنَّ معايير الاقتصاد المجرَّدة من معانيها، كما نعرف في الوقت الحاضر، لا تتناسب مع رفاه السكان الحقيقي، ويجب أن تخضع فعليَّاً للمعايير الاجتماعيَّة.

وما يدفعني لاستحضار ردود الأفعال التقليديَّة في أوروبا ضدَّ السوق الرأسماليَّة المفتوحة أنَّه (دوماً يشار إليها على أنَّها تسير بصورة مجنونة). أمَّا شخص مثلي اعتاد أن يحيا جزءاً كبيراً من حياته في بلغاريا الشيوعيّة ضمن نظام اقتصادي منظم، وليس على شاكلة السوق، فقد بدا لي هذا الخيار دوجمائيَّاً: بين عالمين مختلفين من الفقر المدقع والثراء الفاحش، فلا خيار أمامك للتردُّد. لكنَّك حتماً لن تكون راضياً عن مثل هذه الملاحظة عندما تدرك أنَّ رفاه الإنسان الحقيقي ليس أمراً مرهوناً بمعدّلات النمو ومقدار الأرباح، وليس أمراً مختزلاً في الإنسان نفسه أيضاً. وفي خضم الحفاظ على فوائد الاقتصاد التنافسي، يجب على الفعل السياسي أن يسير باتجاه تقويض آثاره السلبيَّة من خلال ممارسة الإجراءات الاجتماعيَّة الضروريَّة للصالح العام.

ولكن ما هو المستوى الذي يجب أن تطبق من خلاله مثل هذه السياسات كي تكون فعَّالة على أرض الواقع؟ والدول الأوروبيَّة ليست كبيرة بما يكفي لتغيير وضعها الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الاتحاد الأوروبي، بين الدول الصغيرة والعالم المترامي الأطراف، يقدّم تماماً السياق الصحيح لمثل هذه التمثلات. ولكنَّ المشكلة تكمن في أنَّ الاتحاد الأوروبي ليس كياناً موحَّداً بما يكفي لكي يتبنّى إجراءاتٍ مشتركةً ومتفقاً عليها بهذا الحجم. وفي واقع الأمر، فقد تراجعت وحدة كيان الاتحاد الأوروبي منذ التصويت السلبي المناهض للدستور في فرنسا وهولندا سنة 2005.

لقد تمخَّض مسلسل التصويت في فرنسا عن مفارقة جمعت النقيضين: فغالبيَّة الأصوات كانت من اليمين المتطرّف واليسار المتطرّف. لقد بدت هذه المفارقة أمراً نشازاً، فقد بدا هؤلاء النظراء المتناقضون، وهم يصطفُّون جنباً إلى جنب، كقائد تروتوسكي، أو كسكرتير للحزب الشيوعي، أو كقائد للحزب القومي، أو كرئيس لليمين المتطرّف، وهم يتظاهرون ضدَّ الدستور. فممثلو اليمين من اليمين المتطرّف ودعاة آيديولوجيَّة رهاب الأجانب لا يغيّرون مواقفهم، لكيلا يخسروا ثمار أجندتهم السياسيَّة. ولكنَّ اليسار المهيمن لليسار ليس مناهضاً بصورة مباشرة لأوروبا. لقد كان موقف هؤلاء اليساريين في الانتخابات مناهضاً للدستور، لأنَّهم أرادوا التوسُّل بمبادىء جديدة قد وقعت في معاهدات سابقة فيما يخصُّ اقتصاد السوق الحرَّة. وفي هذا السياق، ثمَّة علاقة بين مقولة "لا" في الانتخابات ضدّ الدستور والمظاهرات التي حدثت في مارس وإبريل من عام 2006. كلّ ما يحتاجه هؤلاء لقلب التصويت هو إسقاط مواد القانون المعنيَّة، وهذا أمر ممكن وسهل، فالسياسات الاقتصاديَّة لا شأن لها بدساتير الحقوق الأساسيَّة؛ فهي ذات طبيعة تشاركيَّة ولا علاقة لها بجوهر الدستور.

لقد منحتني صورة فرنسا الراهنة انطباعاً، وأعتقد أنَّني لست الوحيد الذي تولّد لديه مثل هذا الانطباع، وهو أنَّ فرنسا أصبحت بلداً موحلاً في الركود، ومهيمن عليه من قبل طبقة سياسيَّة ورؤية محافظة تفتقر للإبداع والجرأة. فالنموذج الأوروبي من المحتمل أن يحقن فرنسا بمصل جديد يبثُّ فيها روح الحياة مرَّة أخرى.

داني بوستل: لماذا تعتقد أنَّه من المفيد والمهم وجود أوروبا السياسيَّة؟

ـ تودوروف: لأنَّ الجميع سوف يجنون ثمار هذا الأمر. ومع الأخذ بعين الاعتبار وجود ما يزيد على 450 مليون مواطن، فإنَّ الاتحاد الأوروبي يستطيع التوسُّل بسياسة اقتصاديَّة لا يمكن أن تمارسها دولة في الاتحاد الأوروبي بمعزل عن الدول الأوروبيَّة الأخرى؛ فهي قادرة على التعامل مع مشاكل مصادر الطاقة، وهي مشاكل مشتركة لدى الجميع، وقادرة على تبنّي موقف متَّفق عليه تجاه قضيَّة الهجرة، وتستطيع أيضاً تطوير مراكز أبحاث متقدّمة تستند إلى منهجيَّة تشاركيَّة بين الدول الأوروبيَّة. والدول الأوروبيَّة بحاجة ملحَّة للاتحاد لمواجهة ومقاومة الأعداء المشتركين بصورة أكثر فعاليَّة. وحتى هذه اللحظة، فإنَّ الإرهابيين قد تمكَّنوا من الانتقال من دولة إلى أخرى بسهولة بالغة. ما زالت المخاطر البيئيَّة تعبر الحدود بالسلاسة نفسها، فغيوم الأشعَّة النوويَّة من مفاعل تشيرنوبل ما زالت تعبر من خلال نهر الرَّاين، وأثر الاحتباس الحراري ما زال يحتفظ بالقوة نفسها في إيطاليا بالمقارنة مع الدانمارك، ورغم هذا كله، فإنَّ الإجراءات الاحترازيَّة والوقائيَّة ما زالت تحت سيطرة الدول الأوروبيَّة.

وفي عالم بات أكثر توحُّداً واتصالاً من ذي قبل، فإنَّ أوروبا تستطيع أن تلعب دوراً أساسيَّاً لا تستطيع دولة أوروبيَّة أن تقوم به بمعزل عن الدول الأخرى، من خلال الدفاع عن مصالحها بين دول العالم المهيمنة، ومن خلال تجسيد منظومة من المبادىء التي تمثل نموذجاً يحتذى به. وبسبب التجارب الأليمة التي رسمت تاريخ الدول الأوروبيَّة في القرون الأخيرة (الاستعمار، والشموليَّة، والحروب العالميَّة)، فأوروبا كلها تطمح أن تصبح "قوَّة مركزيَّة" حاضرة بين الدول الأخرى للدفاع عن نفسها، ولكن من خلال ترسيخ هذه القيم الإنسانيَّة، وليس من خلال منظومة جيوشها. فشعوب أوروبا لم تعد تطمح لمستقبل زاهر رومانسي، ولكنَّها لا تستطيع أن تقيّد نفسها بالشؤون الروتينيَّة. ومن أجل خلق محفّز حقيقي مرَّة أخرى، فهم بحاجة إلى "مشروع عملاق"، مثل الدفاع عن القيم الأوروبيَّة وتمثيلها بالصورة المناسبة. لقد أجهض هذا المشروع التحفيزي من خلال التصويت السلبي من قبل الفرنسيين والهولنديين ضدَّ مشروع الدستور الأوروبي.

وإذا أرادت أوروبا أن تكون قويَّة، فكيف يمكن لها أن تخرج من المأزق الراهن؟ نظريَّاً، لدينا عدَّة خيارات: بإمكاننا إسقاط المعاهدة الدستوريَّة، أو اقتراح بديل عنها، أو من الممكن تبنّي النصّ الموجود لتمريره وجعله مقبولاً للجميع. يبدو أنَّ الحلَّ الأوَّل ليس عمليَّاً، ولا يحمل في طيَّاته أجندة مثاليَّة كالتي كان يمثلها قصر هبمتون، الذي تخلله انزياح مركزي عن الدستور نفسه إلى سلسلة من المشاريع الملموسة، والتي أثبتت العكس. هو حلٌّ غير عملي لأسباب سيكولوجيَّة (مثل الافتقار للحافز الجوهري الذي يجعلنا دائماً في المؤخّرة، ولهذا علينا قلب الموجة رأساً على عقب)، ولأسباب تقنيَّة أخرى. لقد شُلَّ الاتحاد الأوروبي بسبب المعاهدات الحاليَّة، التي لا تناسب تكتلاً يضمُّ ما يزيد على خمس وعشرين دولة من الأعضاء. وقد تعاملت مسودة المعاهدة مع هذه المشكلة من خلال شروط عديدة فيما يخصُّ أغلبيَّة الأصوات، وتعزيز التعاون المشترك، وتحقيق استقرار أكثر لرئاسة المجلس، وتبدو فكرة إصدار مسوَّدة نصّ جديد غير عمليَّة أيضاً، ويعود السبب الرئيس لتصويت أكثر من ست عشرة دولة لصالح هذا النص، وليس بسبب عدم صلاحيَّة النص الموجود، ولا شيء يبرّر مطالبتهم بالبدء من جديد مرَّة أخرى. علاوة على هذا، فالجميع يعلم أنَّ هذا النصّ قد تمَ التوصّل إليه من خلال التنازل، وفي واقع الأمر، لم يكن متوقعاً الحصول على نصٍّ جديد يفوز بإجماع الكل. ورغم أنَّه نصٌّ يشوبه بعض الخلل، إلّا أنَّه يتيح لنا الفرصة أن نخطو خطوة إلى الأمام بكلّ ثقة.

ولهذا ثمَّة حلٌّ واحد أمامنا، وهو تبنّي النص. ولتطبيق هذا الأمر، لا بدَّ لنا أن نبدأ بمبدأ عدم تقديم أيَّة اقتراحات تخصُّ التصويت غير مدرجة مسبقاً في المسودة الأوليَّة، ولكنْ قليلٌ دائم خيرٌ من كثير منقطع. وإذا لم يتمّ التقيُّد بهذا، فيجب أن تمنح الدول التي لم تصادق على المعاهدة الفرصة من خلال تبنّي نسخة مقتضبة من النصّ المقترح، يتمُّ تقسيمه إلى أجزاء متعددة: 1- المؤسَّسات 2- الحقوق الأساسيَّة 3- الأحكام العامَّة 4- الجزء المستثنى (السياسات والوظائف) 5- الملحقات. إنَّ مثل هذا التشذيب الإجرائي يقلل من عدد صفحات المسوَّدة من 183 صفحة إلى 23 صفحة، وهذا الاختصار الإجرائي لا يمكن تبرير أهميته فقط بسبب التحفظات الفرنسيَّة أو الهولنديَّة، التي تمَّ إذكاؤها بشكل رئيس من خلال طرف ثالث، ولكن بسبب كون هذه التحفظات مرهونة ببعض الخيارات السياسيَّة والتي تغيَّرت جنباً إلى جنب مع تحوُّلات الغالبيَّة الساحقة بصورة أكبر من البنية القانونيَّة التي يجب أن تكون مستقرَّة طوال الوقت. يمكن أن يمنح مثل هذا النصّ المكثف اسماً جديداً، كالمعاهدة الأساسيَّة، وكلّ بلد يسعى أن يكون عضواً في الاتحاد الأوروبي سيتوجَّب عليه أن يتبنَّى هذه المعاهدة. ولهذا السبب، ولأنَّه قرار يشمل المستقبل السياسي لكلّ بلد، فيجب أن تصدر المعاهدة من قبل أولئك المسؤولين عن قدر البلاد السياسي، خصوصاً البرلمان بشقَّيه الاثنين.

ولتطبيق هذا الحل، لا بدَّ أن يتبنَّاه المجلس الأوروبي، ولا بدَّ أن يقوم بتأجيل موعد المصادقة النهائي حتى نوفمبر 2017، حتى تحين الفرصة المناسبة للتصويت عليه من قبل الحكومات. والمباشرة بتطبيق هذا القانون وعدم التسويف والمماطلة سيتيح لنا فرصة الاستفادة من الأجواء الإيجابيَّة الداعمة للاتحاد الأوروبي في الكثير من البلدان. لا بدَّ أن نجني ثمار الموقف الراديكالي الداعم لأوروبا، مثل موقف خوسيه لويس ثاباتيرو في إسبانبا، وإنجيلا ميركل في ألمانيا، ورومانو برودي في إيطاليا. ومن الواضح أنَّ مواقفهم جميعاً فاعلة ولها تأثير كبير جدَّاً. أضف إلى هذه القائمة موقف فرنسا، عندها نتحدَّث عن أكثر من نصف سكان أوروبا.[1]

ومن المهم أن نلاحظ أنَّ بعض هذه الحكومات هي مركزيَّة اليسار أو مركزيَّة اليمين، فعندما يتعلق الأمر ببناء أوروبا، فإنَّ الخط الفاصل لا يختزل كثيراً بين اليسار واليمين، كما هو الأمر بين الداعمين للمركزيَّة الأوروبيَّة والمناهضين بصورة متطرّفة لهذه المركزيّة، (كما وضَّحت آنفاً فيما يخصُّ فرنسا من خلال الائتلاف غير المتوقَّع بين اليسار واليمين المتطرّفين الداعمين للتصويت بـ"لا" ضدَّ مشروع الحكومات المقترح).

وعندما يتمُّ الحصول على هذه المصادقة لهذا الحل، ويتمُّ استعادة الزخم والحيويَّة الأوروبيَّة، فإنَّ الاتحاد الأوروبي سيستعيد نشاطه وحركته المعهودة من خلال الاستفادة من الأحكام والقوانين المتعلقة بالتعاون المشترك بين الحكومات الأوروبيَّة على وجه الخصوص. ولو أخذنا بعين الاعتبار أنَّ أوروبا التي تضمُّ ما يقارب خمساً وعشرين أو سبعاً وعشرين دولة من الأعضاء، فإنَّ هذا الحلَّ هو الطريقة الوحيدة للسير قدُماً وبخطى ثابتة. عندها سيجني الاتحاد الأوروبي ثمار هذا الحلّ من خلال تعدّديَّة الوظائف والأغراض، وليس فقط من خلال كون الاتحاد الأوروبي نواة صلبة لمجموعة من الدول نفسها، فالقطاعات التشاركيَّة بينها تبدو في غاية الفائدة والفعاليَّة. وبالمناسبة فإنَّ منطقة شينغن تضم أربع عشرة دولة، بما فيها المنطقة الأوروبيَّة التي تشمل اثنتي عشرة دولة، ومنطقة شينغن التي تضمُّ أربع عشرة دولة وست دول من قوى الفيلق الأوروبي العسكري بشكل مباشر، وتضمُّ أيضاً خمس دول بصورة غير مباشرة، ولكنَّها مختلفة عن بعضها بعضاً كثيراً. ومن الممكن تطبيق النموذج نفسه على المعاهدات الأخرى التي تشمل الحماية الاجتماعيَّة والشراكة القانونيَّة والتنسيق المالي.

لا شكَّ أنَّ فرنسا مهتمَّة بتطوير وتنمية أوروبا لتكون قوَّة سياسية فاعلة. ويبدو أنَّ الفرصة الوحيدة التي تمتلكها فرنسا كي تكون دولة مؤثرة وفاعلة على الساحة الدوليَّة تتجلَّى من خلال الاتحاد الأوروبي. تستطيع فرنسا أن تكون قوَّة ضاربة في أوروبا، عندما تصبح أوروبا قوَّة مهيمنة ومؤثرة. ولتحقيق هذا الهدف، لا بدَّ لفرنسا أن تثبت للأوروبيين أنَّها تعمل جاهدة من أجل الصالح العام، وليس لمجرَّد مصالح ذاتيَّة. إنَّ فرنسا قادرة على إثبات هذا الموقف من خلال تقديم إشارات صريحة وواضحة، مثل السماح بنقل البرلمان الأوروبي إلى بروكسل بدلاً من إبقائه في ستراسبورغ، الأمر الذي أثقل كاهل خزينة الاتحاد الأوروبي من خلال المصاريف الزائدة غير الضروريَّة، دون تبجيل أو تقديس لفرنسا. وبهذا يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر تشابكاً مع مواقفه التي يدافع عنها كعضو دائم في مجلس الأمن، فهو قادر على الالتزام باستخدام الأسلحة العسكريَّة تحت تصرُّفه للحفاظ على نزاهة ووحدة المناطق الأوروبيَّة بدلاً من الدفاع عن دول تحالف غير معروفة في هذا السياق (كما فعل جاك شيراك في خطبته الدفاعيَّة في كانون الثاني عام 2006).

إنَّ تعزيز فكرة الهويَّة الأوروبيَّة ليس مدمّراً للهويَّات القوميَّة. أوروبا ليست أمَّة قوميَّة ولن تكون. وعلى كلّ حال، فإنَّ الهوَّيتين لا تتنافران، فكلُّ فرد فينا لديه انتماءات كثيرة، سواء أدركنا هذا أم جهلناه. كلّنا لدينا هويَّة ثقافيَّة، لو أخذنا المفهوم في سياقه الأكثر اتساعاً، والذي يتبيَّن من خلاله أنَّنا اكتسبنا الكثير من مكوّنات الثقافة رغم أنوفنا: وهذا يشمل قبل كلّ شيء اللغة الأم، ومنظورنا عن العالم الذي تستبطنه هذه اللغة، والدّين (أو غيابه) وذكريات الأماكن، وعادات الرياضة والطعام، وأيضاً بعض مكوّنات الثقافة، بالمعنى الأكثر خصوصيَّة، مثل الكتب والصور والألحان. أيضاً لدينا جميعاً هويَّة قوميَّة ومدنيَّة تتشكَّل من خلال التضامن الجمعي أكثر من تمثل مشاعر مشتركة بين الجماعات. إنَّ هذه الهويَّة أسّست على قيم الترابط الاقتصادي والاجتماعي، التي تتمظهر في خزينة الدولة والضرائب، والتي تشمل أنظمة التقاعد، والتأمين الصحّي، والتعليم، والنقل، وغيرها. بالإضافة إلى هذا، كلّنا نمتلك هويَّة تستند على خياراتنا الأخلاقيَّة والسياسيَّة، فنحن ننتمي لمبادىء عالميَّة، بما فيها النظام الديمقراطي والقانون وحقوق الإنسان.

ومن خلال هذه المنظومة من الهويَّات الجمعيَّة، تتشكَّل الهويَّة الأوروبيَّة. تنبجس الهويَّة الأوروبيَّة من إقرار جوهر تعدُّديَّة القوميَّات الذي لا يمكن إنكاره ضمن كيان أحادي مستقل: أوروبا. إنَّ هذه الكينونة تتشكَّل من خلال تحويل هشاشة فكرة الوحدة إلى وحدة حقيقيَّة وجوهريَّة تتمظهر من خلالها تحوُّلات الاختلاف إلى هويَّة متفرّدة. ونستطيع تحقيق هذا لو توسَّلنا بالالتزام الفاعل بقيم التعايش، والاختلاف، والمواجهة الثقافيَّة لكلّ الذين يختلفون معنا فيما يفكّرون فيه أو يشعرون به. ويمكن أيضاً تطبيق قيم التسامح وعدم الانجرار وراء غواية فعل الخير بالقوَّة، من خلال تشجيع الاقتداء بروح نقديَّة، وتعلّم "التفكير من خلال عدسات الآخرين"، كما يقول كانت.

داني بوستل: إحدى الثيمات المركزيَّة في كتابك "فوضى العالم الجديد" كانت تتمثل في الشرخ الكبير بين أمريكا وأوروبا. لقد أثار ت هذه الثيمة جدلاً كبيراً منذ البدايات وحتى حرب العراق عام 2003. ووفقاً لكثير من المراقبين، فإنَّ هذه اللحظة تُعتبر لحظة جوهريَّة للتنمية الجيوسياسيَّة. لقد عوّل الكثيرون على أهميَّة هذه اللحظة التاريخيَّة كحدث تاريخي. ومن بين هؤلاء عبَّر بيري أندرسون عن رأيه بطريقة مختلفة نوعاً ما.

ـ تودوروف: لقد كان العداء لفكرة الحرب على العراق أمراً واسع النطاق، لكنَّه لم يكن عميقاً كما ينبغي. كانت هنالك معارضة كبيرة للحرب على العراق، ولكن لم تستعر نار المظاهرات جرَّاء الحرب كما ينبغي. لقد كانت المظاهرات ضدَّ الاحتلال قليلة، ويبدو أنَّها تأرجحت بين مدّ المظاهرات العالمي، وموجة المظاهرات التي تأجَّجت بفعل الحرب في فيتنام. ولم يتمّ معاقبة الحكومة البريطانيَّة في الاستفتاءات التي جرت بعد مشاركتها أمريكا في الحرب على العراق. وكانت الحكومة الألمانيَّة تقدّم يد العون للأمريكان من خلال تزويدهم بمعلومات سريَّة عن بعض الأهداف في بغداد، وبالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكيَّة (CIA)، رغم أنَّ الحكومة الألمانيَّة عارضت الحرب على العراق في البداية. أمَّا الحكومة الفرنسيَّة، فقد دفعت ضريبة فوكوياما من خلال خداع الولايات المتحدة وإيعازها لواشنطن بالمضي قدماً في حربها الكارثيَّة دون إصدار قرار من مجلس الأمن، وقامت بالتعاون جنباً إلى جنب مع البيت الأبيض لتنصيب أنظمة حكم جديدة في هاييتي وفي لبنان. أمَّا إيران، فقد اتَّحد الجميع ضدَّها. لقد بدا أمر العداء الأوروبي ضدَّ الرئاسة الحاليَّة مجرَّد لفت انتباه أكثر منه نوبة غضب. وما زاد الطين بلَّة هو عدم الاكتراث الذي أبدته إيران للمساعي الدبلوماسيَّة التي كانت أشبه بالمجاملات الدبلوماسيَّة، بالإضافة إلى عدم احترام القانون الدولي. لقد كانت الجماهير والنخبة معاً مأخوذين بالأقنعة التي حجبت الالتزام مع الإرادة الأمريكيَّة، وجعلتهم يشعرون بالاستياء تجاه الحكومة التي تجاهلتهم. إنَّ مثل هذا النوع من المظالم هو في النهاية متعلق بالشكل أكثر من الرُّوح، ولا بدَّ من التعامل معها من خلال العودة إلى اللياقة العامَّة. إنَّ عودة كلينتون سوف تشهد بلا شك إعادة للوحدة بين العالم القديم والعالم الجديد[2].

داني بوستل: كيف تفسّر وجود هذا الشرخ بين أمريكا وأوروبا؟ ماذا سيترتَّب على وجود هذا الانقسام الأطلسي، برأيك، أو ما يصطلح عليه أندرسون الفجوة الجيوسياسيَّة أو الفجوة الجيوتاريخيَّة؟ ثمَّة اقتباس للمؤرخ الهندي فيني لال، أودُّ أن أضيفه لأطروحة أندرسون: لا بدَّ لنا أن نعي أنَّ فكرة الاختيار والتفريق بين الأوروبيين والأمريكان غير مطروحة في وعي الناس الذين جاؤوا من الدول التي استعمرت في الجنوب[3].

وبالطبع لن يغير هذا الأمر من فحوى سؤالي الأصيل. فهو يجعل الصورة أكثر اكتمالاً من خلال حقن هذا المصل ما بعد الاستعماري والماركسي في شريان أطروحة أندرسون. وعادة ما يكون نواة مشتركة تتقاطع فيها الطروحات الماركسيَّة مع الطروحات ما بعد الاستعماريَّة: هذا الشعور الذي يتملك المرء بأنَّ أوروبا وأمريكا كيانان لهما جذر واحد، والحديث عن الانقسام أو البون الكبير بين أمريكا وأوروبا هو انزياح آيديولوجي، أو التفاف على حالة الانسجام التي تتمثل في النظام الإمبريالي الرأسمالي. إنَّه انزياح مؤدلج ومعاكس تماماً لنسق السؤال الذي طرحته.

ـ تودوروف: لو راقبنا الكرة الأرضيَّة من كوكب مارس، أنا واثق أنَّنا لن نستطيع أن نلحظ أيَّ اختلاف بين الأمريكيتين وأوروبا (أو الآسيويين والأفارقة، في السياق نفسه)؛ فكلُّ هؤلاء الذين ذكرتهم هم أرضيون بالدرجة الأولى، ومن الجلي أيضاً أنَّ هنالك أناساً من الهند يرون الغرب (دعنا نقول "الشمال العالمي" كتلة موحَّدة ومنسجمة. ولا بدَّ أن أقول إنَّني أجد مثل هذه التعميمات غير مقنعة ومسطَّحة في الوقت نفسه. أعتقد أنَّه يتوجَّب على الدول التي تمَّ استعمارها مسبقاً أن تكون متيقظة لمثل هذه الاختلافات. مثلاً، الدول الاستعماريَّة القديمة، مثل بريطانيا العظمى وفرنسا، تعاني من تأنيب الضمير، الأمر الذي تفتقده الولايات المتحدة، التي كانت هي نفسها مستعمرة في السابق. قد يكون تأطير هذه الاختلافات أمراً مهمَّاً لضمان دعم كيان على حساب الآخر. ولست مقتنعاً بأنَّ "الجنوب العالمي" الذي وقع تحت نير الاحتلال يشكّل كتلة متناسقة أو متشابهة. هل هنالك أيَّة فروقات بين كوريا الجنوبية وأنجولا، أو بين الهند وكينيا؟

ولو وسَّعنا نطاق المقاربات، فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكيَّة والاتحاد الأوروبي يشتركان في منظومة كاملة من المصالح والقيم، فليس هنالك سبب مقنع لتجاهلها بصمت. وعلاوة على هذا، ثمَّة دول من تحالفات أخرى تنضمُّ لكتلة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مثل اليابان، وأمريكا اللاتينيَّة، وروسيا. فكلُّ الدول هنا تشترك في أهميَّة منع أيّ أفعال من تنظيمات لا تنتمي لدول معيَّنة تحت مظلّة الإرهاب. فمشروع التوسُّع النووي هو خطر كبير على الإنسانيَّة؛ فكلما قلَّ امتلاك الدول للقنابل النوويَّة، كان الوضع العام أفضل لنا جميعاً. ولا شكَّ أنَّ السلام والاستقلال هما خيار أفضل من الحرب الأهليَّة أو الاحتلال من قبل جيش أجنبي.

إنَّ وجود ردود فعل بهذا المستوى متشابهة لا يمكن أن يحجب وجود اختلافات مركزيَّة. ولكي نلزم أنفسنا أكثر بقضيَّة السياسة الأجنبيَّة، فهذه الدول جيَّشت نفسها للحرب دفاعاً عن مصالحها (ليس الدفاع عن مبادىء العدالة وقيم العدالة فحسب، كما يزعمون أحياناً)، لكنَّ الولايات المتحدة الأمريكيَّة تتبنَّى سياسة إمبرياليَّة بشكل منهجي واضح. وأعني بهذا أنَّ الولايات المتحدة قد صرَّحت بأنَّ مصالحها في خطر في كلّ أرجاء المعمورة، وهي تعتبر الدفاع عن نفسها من خلال القوَّة العسكريَّة أمراً مشروعاً. وبالطبع فقد وقع الأوروبيون في فخ الغواية نفسها في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولكنَّهم تخلَّوا عنها منذ بدايات دعم بريطانيا غير المشروط لأمريكا، الأمر الذي يعتبر دليلاً على الخنوع أكثر من كونه دليل هيمنة أو سلطة). من الممكن تفسير الموقف الأوروبي أكثر من اعتباره أمراً مرهوناً بمبدأ أخلاقي، خصوصاً لو أخذنا بعين الاعتبار موقف أوروبا في الماضي ومآلات هذا الموقف. إنَّ موقف أوروبا يتلخَّص في اهتمامها البراغماتي بمصالحها؛ ولكنَّ الأوروبيين كانوا على قناعة تامَّة بأنَّ احتلال العراق سوف يزيد من خطر الإرهاب بدلاً من مواجهته وتقويضه، (وبالفعل كانوا على حق).

إنَّ شعارات "أوروبا" هي أقنعة وظيفتها حجب حجم التباين الكبير والاختلاف بين الشعوب وحكوماتها، وبين الحكومات المختلفة. وفي حين أنَّ السواد الأعظم من الناس في أوروبا يناهضون الحرب، إلّا أنَّ بعض الحكومات، كما هو الحال في إسبانيا وإيطاليا وبريطانيا وبولندا تدعم التدخُّل الأمريكي في العراق. ثمَّة خطر كبير ينبجس من هذا الصدع الكبير في الدول الديمقراطيَّة، حيث تخضع الحكومات رسميَّاً لقانون الانتخاب بشكل دوري، وقد شهدنا مثل هذه الحكومات الداعمة للحرب تخسر حروبها المتتالية في الانتخابات المحليَّة من خلال معارضتها للحرب، كما حدث في إسبانيا وإيطاليا. لقد قدَّم توني بلير استقالته مؤخَّراً بسبب الضغط الذي مورس ضدَّه من قبل حزبه، وكان الانتقاد الأساسي ضدَّه متمثلاً في انصياعه الأعمى لسياسات الولايات المتحدة الخارجيَّة. أمَّا موقف بولندا فقد كان مختلفاً نوعاً ما؛ لقد كان الولاء لأمريكا وسيلة للبولنديين لحماية أنفسهم ضدَّ أيَّة محاولة تدخُّل من جهة جارتها الكبرى، روسيا، ولأنَّ ذكريات التوغّل الروسي في الماضي ما زالت حاضرة بصورة مؤلمة جدَّاً. ولكنَّ الشعب البولندي كان معادياً للحرب، تماماً كالطليان والإسبان. والسبب الجوهري الذي منع الفرنسيين من تنظيم مظاهرات ضدَّ الحرب كان مقروناً بموقف فرنسا من حكومتها، ولأنَّ الفرنسيين كانوا يشكّكون في أثر المظاهرات الشعبيَّة في الباستيل أو البيت الأبيض.

وفي هذا السياق، فإنَّ الأوروبيين يلومون الأمريكان على هذه الحرب، لأنَّ الأمريكان يؤمنون بالقوَّة العسكريَّة كوسيلة أحاديَّة لتحقيق الأهداف، وهكذا يكون الإرهاب أو محاربة الإرهاب هدفاً مشروعاً. وأنا أعتبر قصف خلايا القاعدة الأساسيَّة في أفغانستان فعلاً دفاعيَّاً مشروعاً من قبل الولايات المتحدة. ولكنَّ تدخّل الولايات المتحدة في العراق تحت غطاء محاربة الإرهاب كان أمراً مستفزَّاً ومثيراً للغضب، وما زلت مدهوشاً لأنَّ السواد الأعظم من الشعب الأمريكي لا يدركون هذا الأمر. أوَّلاً: لقد أصبح الكذب المتعمّد أمراً شائعاً ووسيلة لاتخاذ القرارات (كما هو الحال مع الدول الشموليَّة)، وثانياً: قامت الإدارة الأمريكيَّة بنقض وعودها. فقد تجلّت سياسات ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في تأصيل خطر موقف الأشخاص الذين ينظرون لأنفسهم كضحايا الماضي (في مثل هذه الحالة، نحن نتحدَّث عن ضحايا وأهداف الهمجات الإرهابيَّة) والذي منح هؤلاء الأشخاص الحق في تجاهل القوانين والأعراف ومبادىء العدالة الإنسانيَّة. تماماً كما لعب معسكر أوشفيتز النازي للإبادة الجماعيَّة لليهود دوراً كبيراً في خدمة إسرائيل لتبرير جرائمها ضدَ جيرانها العرب، الأمر نفسه ينسحب على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، التي أعفت حكومة الولايات المتحدة الأمريكيَّة من مراقبة المواثيق والمعاهدات الدوليَّة بالإضافة لتبريرها لجرائم التعذيب في سجن أبي غريب وجوانتانامو. لا شكَّ أنّ ردَّة فعل بهذا الشكل هي أمر في غاية الخطورة؛ فعلى المرء ألَّا ينسى أنَّ مسلسل الإهانات قد يتحوَّل لمصدر خصب للعنف والتطرُّف. وهذا الأمر ينسحب بالدرجة نفسها على الدول الكبرى والصغرى.

لا يتوقع الأوروبيُّون من الجميع أن يذعنوا لسطوة القوَّة، فهم أنفسهم ضحايا الهجمات الإرهابيَّة بصورة أكثر فظاعة وتكراراً من الأمريكان، كما شهدنا مؤخَّراً في مدريد ولندن وقبل هذا في باريس وبرلين. لكنَّهم يعتقدون أنَّ تفجيرات أفغانستان كانت استثناء، وليست القاعدة؛ فنادراً ما تقوم حكومة بحماية الإرهابيين كما فعلت حكومة كابل. لكن ماذا نحتاج في الوقت المتبقي؟ كما يظنُّ البعض، هو العمل البوليسي فيما يخصُّ -الاختراق الأمني، التنصت على المكالمات الهاتفيَّة، تجميد الأموال وإجراءات التعقّب الأمني- والتي يندر أن تندرج تحت مسمَّى الحرب. ولكن ما نحتاجه بصورة جوهريَّة وأصيلة، بغض النظر عن التعامل بصورة مباشرة مع أعراض الأزمة، هو التطرُّق فعليَّاً لكلّ ما يشرعن الإرهاب سيكولوجيَّاً: احتلال فلسطين مضى عليه زمن طويل، واحتلال بعض الدول الإسلامية مثل العراق وأفغانستان.

لا بدَّ من أخذ موضوع الإرهاب بجديَّة بالغة، ليس لمجرَّد أنَّ جرائم الإرهاب تشكّل خطراً حقيقيَّاً على العالم، حيث جعل التقدُّم التكنولوجي من الفعل الإرهابي أمراً أكثر سهولة. يجب علينا أن نولي اهتماماً بصورة أكبر فيما يخصُّ الآثار الكارثيَّة والخطيرة للإرهاب على أنماط تفكيرنا نحن. فقد بدأنا بالنظر إلى العالم بصورة مختزلة من خلال مصطلحات الخير والشر، والأصدقاء والأعداء، ورؤية كلّ فرد مسلم باعتباره خطراً محدقاً. لا شكَّ أنَّ الخطر موجود، لكنَّ هذا لا يبرّر القيام بكلّ شيء أو أيّ شيء كمجرَّد ردَّة فعل. يجب علينا ألَّا نتصرَّف كما فعل الفاشيوُّن، في حقبة بين الحرب العالميَّة الأولى والثانية، إذ استولوا على السلطة وفرضوا هيمنتهم على عقول الناس من خلال التلويح بالخطر البلشفي، تماماً كما فعل السيناتور مكارثي في الخمسينات (حتى لو كان الجواسيس الرّوس حقيقة على أرض الواقع). ولأنَّ المخاطر واقعيَّة وحقيقيَّة، يجب علينا أن نتحلّى بقدر من الفطنة ومقاومة موجات الخوف المتكرّرة. إنَّها مهمَّة المثقفين والأكاديميين، على وجه الخصوص، الذين تقتضي مهنتهم المضي قدُماً ومحاولة الاقتراب من الحقيقة قدر المستطاع: وبلا شك أنَّ إطلاق النار على الناس كلّما أشعل أحدهم سيجاراً لن يسمن ولن يغني من جوع.

إنَّ الحرب على لبنان التي شنَّت في صيف عام 2006 قد أماطت اللثام عن الفرق المنهجي بين الأوروبيين (باستثناء بريطانيا العظمى) والولايات المتحدة. ومن المعروف أنَّ الولايات المتحدة قد منحت التدخُّل الإسرائيلي دعماً غير مشروط، والذي كان محاولة أخرى لحلّ أزمة سياسيَّة من خلال استخدام القوَّة المتوحّشة، التي تجلّت من خلال القصف المستمر. إنَّ هذا التدخّل لم يكلل، كما نعلم، بالنجاح. من حق إسرائيل أن تطالب بحقّ القرى والمدنيين بعدم التعرُّض لأيّ هجوم. ولكن ألا يوجد أيَّة وسيلة أخرى لتحقيق مثل هذا الهدف؟ أليس من المفيد للجميع إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والجولان وغيرها، وإنهاء التدخّل العسكري، وإنهاء الاستمرار بعمليَّات الاعتقال وسجنها لأعدائها؟ لقد طالب الاتحاد الأوروبي مراراً وبإصرار بإيقاف القصف الإسرائيلي في لبنان. وبعد توقيع الهدنة بين الطرفين، أرسلت إسرائيل وفداً للسلام في هذه المنطقة. يبدو أنَّ ممثلي هذا الوفد مؤمنون بأنَّ تسوية الصراع السياسي لا يمكن أن تتحقّق فقط وبصورة دائمة باستخدام الخيار العسكري.

وسواء كان هذا الشرخ الإطلسي قد اتَّسع أو ضاق، فالأمر برمَّته يعتمد على السياسة الأمريكيَّة الخارجيَّة في المستقبل، ويعتمد أيضاً على بناء كيان أوروبي أكثر اتساقاً وانسجاماً. فالاتحاد الأوروبي يحتاج لاستقلاليَّة عسكريَّة، ولا بدَّ للولايات المتحدة أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الأخرى. أفضّل أن أعيش في عالم متعدّد الهويَّات على أن أعيش في عالم موحَّد، وهذا ليس مجرَّد مزاج تفضيلي؛ أعتقد أنَّها مصلحة عامَّة أصيلة. فالسلطة تكتسب شرعيَّتها من أسلوب ممارستها، ومن خلال الاعتراف بعيوبها.

 

Todorov, CRITCAL INQUIRY "Moving Targets: An interview By Danny Postel". University of Chicago press, 34: 2 (2008) pp. 249 to 273.

For Use In: Arabic language translation by Tayseer Abu Odeh for publication by Mominoun without Borders Foundation in December 2017. Reference: 00495310563, ISBN: 1282

[1]. July 2007: the direction suggested here is more or less the one actually adopted by the last European summit in June 2007.

[2]. Perry Anderson, “Inside Man,” The Nation, www.thenation.com/doc/20060424/anderson

[3]. Vinay Lal, “The Beginning of a History”, www.opendemocracy.net/democracy-fukuyama/beginnin _3585. jsp