من "صراع الطبقات" إلى "صراع التأويلات": قراءة نقدية في تحولات اليسار العربي من المادية التاريخية إلى سياسات الهوية
فئة : مقالات
من "صراع الطبقات" إلى "صراع التأويلات":
قراءة نقدية في تحولات اليسار العربي من المادية التاريخية إلى سياسات الهوية
مقدمة:
في أقبية الفكر اليساري العربي، ثمة شبحٌ يجول، ليس شبح الشيوعية الذي بشّر به ماركس، بل شبحٌ أكثر حداثةً وقلقاً: شبح الهوية. لعقود طويلة، كانت بوصلة اليسار تشير بثبات نحو الشمال الاقتصادي-الاجتماعي. كان "صراع الطبقات" هو المحرك الذي لا يخطئ، وكانت "المادية التاريخية" هي الخريطة التي لا تكذب. كانت المفاهيم واضحة: بروليتاريا وبرجوازية، استغلال وإمبريالية، ثورة وتحرر. كان العدو طبقيًّا، والهدف وطنيًّا، والأداة أممية.
اليوم، تبدو هذه اللغة وكأنها آتية من زمن سحيق. ففي أروقة الجامعات، وعلى صفحات المجلات الفكرية، وفي ساحات النضال الافتراضية، تدور رحى معارك أخرى. لم يعد الصراع حول "فائض القيمة"، بل حول "التمثيل" و"الاعتراف". لم تعد المعركة ضد "الاستغلال"، بل ضد "الإقصاء" و"الصورة النمطية". لم يعد السؤال "من يملك وسائل الإنتاج؟"، بل "من يملك حق الكلام والتأويل؟". لقد انتقل مركز الثقل، بشكل شبه كامل، من "صراع الطبقات" إلى "صراع التأويلات".
هذا البحث ليس رثاءً نوستالجيا لماضٍ "أصيل"، ولا هو احتفاءٌ ساذج بحداثةٍ "مستنيرة". إنه محاولة تشريحية هادئة ونقدية لهذا التحول الجذري. الإشكالية التي نطرحها ليست "هل سياسات الهوية مهمة؟" - فمن نافلة القول إن النضال ضد التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين هو جزء لا يتجزأ من أي مشروع تحرري. السؤال الحقيقي أعمق وأكثر إزعاجاً: كيف ولماذا أصبح هذا النضال هو "كل" المشروع التحرري تقريباً، على حساب المسألة الاقتصادية-الاجتماعية التي كانت تشكل قلب اليسار النابض؟
أطروحتنا المركزية ترى أن هذا التحول ليس مجرد تطور فكري بريء، بل هو نتيجة حتمية لتقاطع ثلاث قوى تاريخية كبرى شكلت وعي نهاية القرن العشرين:
أولاً، صدمة الهزيمة التاريخية؛ فانهيار جدار برلين عام 1989 وما تلاه من تفكك للمنظومة الاشتراكية لم يكن مجرد حدث جيوسياسي، بل كان زلزالاً وجوديًّا لليسار العالمي والعربي. لقد خلق شعوراً عميقاً باليتم الأيديولوجي، وحطم "اليقين" بمسار التاريخ، وترك فراغاً هائلاً لم يكن من السهل ملؤه.
ثانياً، انتصار النيوليبرالية الكاسح؛ في لحظة ضعف اليسار هذه، تقدمت النيوليبرالية ليس فقط كسياسة اقتصادية، بل كـ"نهاية للتاريخ"، على حد تعبير فوكوياما. لقد نجحت في فرض عقيدتها القائلة إنه "لا بديل" (There Is No Alternative)، وإن الاقتصاد يجب أن يُترك لخبراء السوق، وأن السياسة الحقيقية تدور فقط حول إدارة هوامش هذا النظام. لقد همّشت المسألة الاقتصادية بفعالية، ودفعت بالنقاش العام نحو الثقافة والأخلاق.
ثالثاً، الغزو الأكاديمي الناعم؛ في هذا الفراغ، تدفقت أدوات نظرية جديدة ومغرية من الغرب، خصوصاً ما يُعرف بـ"النظرية الفرنسية" (فوكو، دريدا، دولوز). قدمت هذه النظريات، التي غالباً ما تمت تصفيتها وتكييفها عبر الأكاديميا الأمريكية، لغة نقدية حادة لتحليل السلطة والخطاب والمعرفة. كانت أدوات مثالية لتفكيك السلطويات القائمة، لكنها في كثير من الأحيان، وبشكل غير مقصود ربما، ساهمت في فصل النقد الثقافي عن أساسه المادي، وجعلت من "اللعبة اللغوية" ساحة النضال الرئيسة.
عبر منهج "جينالوجي" يتتبع مسار المفاهيم وتحولاتها، سيسعى هذا البحث إلى فهم ما الذي تم كسبه وما الذي تم خسارته في هذه الرحلة من المصنع إلى الجامعة، ومن الإضراب إلى "الهاشتاغ"، ومن "الوعي الطبقي" إلى "سياسات الهوية". إنها محاولة للإجابة عن سؤال مقلق: هل كان هذا التحول استراتيجية نضالية جديدة وضرورية، أم إنه كان، في المحصلة النهائية، تراجعاً غير واعٍ إلى داخل حدود الملعب الذي رسمته النيوليبرالية نفسها؟
1- "الزمن الجميل" للمادية التاريخية: اليسار الكلاسيكي
قبل أن يتشظى المعنى وتتعدد ساحات الصراع، كان هناك زمنٌ بدت فيه الرؤية أكثر وضوحاً والبوصلة أكثر ثباتاً. كان ذلك هو زمن اليسار العربي "الكلاسيكي"، الممتد تقريباً من عشرينيات القرن الماضي وحتى أواخر السبعينيات. لم يكن هذا اليسار كتلة واحدة متجانسة، فقد تنوع بين أحزاب شيوعية رسمية، ومنظمات ماركسية-لينينية ثورية، وتيارات قومية يسارية. لكن على الرغم من خلافاتهم، جمعتهم "بنية شعورية" مشتركة، ورؤية للعالم تستند إلى أسس المادية التاريخية. هذا الفصل سيرسم ملامح تلك الرؤية.
أ- العقيدة المركزية: صراع الطبقات كمحرك للتاريخ
في قلب رؤية اليسار الكلاسيكي، وقفت عقيدة راسخة وبسيطة في قوتها: التاريخ هو تاريخ صراع الطبقات. هذا المبدأ الماركسي لم يكن مجرد نظرية أكاديمية، بل كان عدسة شاملة تُقرأ من خلالها كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية.
- الفاعل التاريخي: لم يكن الفاعل هو الفرد أو النخبة أو الطائفة، بل هو "الطبقة الاجتماعية". على رأس القوى التقدمية وقفت "الطبقة العاملة" (البروليتاريا)، التي بحكم موقعها في عملية الإنتاج وبحكم استغلالها، كانت هي المؤهلة لقيادة التغيير الثوري. وإلى جانبها، وقف "الفلاحون الفقراء" كحليف استراتيجي، و"البرجوازية الصغيرة الوطنية" كحليف تكتيكي متقلب.
- العدو الواضح: كان العدو محدداً بوضوح طبقي وأممي. داخليًّا، تمثل في "البرجوازية الكومبرادورية"، تلك الطبقة الطفيلية المرتبطة بالرأسمال الأجنبي، و"كبار ملاك الأراضي" (الإقطاع). وخارجياً، تمثل في "الإمبريالية العالمية" و"الصهيونية" باعتبارها مشروعاً استعماريًّا استيطانياً. كل القضايا الأخرى، مهما بدت ثقافية أو اجتماعية، كانت تُفهم في النهاية بوصفها تجليات لهذا الصراع الأساسي.
- الأولوية المطلقة للاقتصادي: كانت "البنية التحتية" (علاقات الإنتاج) هي التي تحدد "البنية الفوقية" (السياسة، الثقافة، الدين). لذلك، كان النضال من أجل تغيير علاقات الملكية، وتأميم الصناعات الرئيسة، وتحقيق الإصلاح الزراعي، هو جوهر المشروع السياسي. أما قضايا مثل حقوق المرأة أو المسائل الثقافية، فعلى الرغم من أهميتها، كان يُنظر إليها على أنها ستُحل "تلقائيا" بعد تحقيق الثورة الاشتراكية وتغيير الأساس المادي للمجتمع. هذا الفهم، الذي سيتم نقده لاحقاً باعتباره "اختزاليًّا اقتصادويًّا"، كان هو السائد.
ب- "المثقف العضوي" ودوره: من المقهى إلى المصنع
لم يكن المثقف اليساري في تلك الفترة مجرد كاتب أو أكاديمي منعزل في برجه العاجي. لقد سعى، بوعي كامل، إلى أن يكون "مثقفاً عضويًّا" بالمعنى الذي قصده المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci). لم يكن دوره مجرد "تفسير" العالم، بل "تغييره" عبر الاندماج العضوي بالطبقات الشعبية التي يطمح إلى تمثيلها.
- وظيفة الوسيط: رأى المثقف اليساري نفسه وسيطاً بين "النظرية" الثورية و"الممارسة" الجماهيرية. كانت مهمته هي تبسيط المفاهيم الماركسية المعقدة، ونقلها إلى العمال والفلاحين في شكل شعارات وبيانات ومقالات مبسطة، وفي المقابل، نقل هموم وتطلعات هذه الجماهير وصياغتها في برنامج سياسي متماسك.
- ساحات النضال: لم تكن ساحة نضاله هي قاعة المؤتمرات أو صفحات المجلات المتخصصة فحسب، بل كانت أيضاً الجامعة (لتنظيم الطلاب)، والمصنع (عبر العمل النقابي)، والريف (لتوعية الفلاحين)، وحتى المقهى الذي كان يتحول إلى برلمان شعبي ومساحة للتجنيد والتنظيم. كان هناك ارتباط وثيق بين الإنتاج الفكري (كتابة الشعر، الرواية، التحليل السياسي) والفعل التنظيمي المباشر.
- التضحية كفضيلة: تميز هذا الجيل من المثقفين باستعداده للتضحية الشخصية. كان السجن والمنفى والفصل من العمل ثمناً متوقعاً للالتزام السياسي، بل كان يُنظر إليه أحياناً كـ"وسام شرف" يثبت صدق الانتماء. هذه "الأخلاق النضالية" خلقت هالة من الاحترام حول المثقف اليساري، حتى بين خصومه.
باختصار، كان اليسار الكلاسيكي يمتلك رؤية متماسكة للعالم، وعدوًّا واضحاً، وفاعلاً تاريخيًّا محدداً، ونموذجاً للمثقف الملتزم. كانت هذه المنظومة هي التي ستتعرض لزلزال عنيف في العقود الأخيرة من القرن العشرين، مما سيمهد الطريق لظهور أسئلة جديدة، وساحات صراع مختلفة، ونموذج مختلف تماماً للمثقف النقدي.
2- لحظة الانهيار: الفراغ الأيديولوجي وصعود "ما بعد"
لكل بناء شاهق لحظة انهيار، ولكل عقيدة راسخة لحظة شك قاتلة. بالنسبة إلى اليسار العربي، لم تكن هذه اللحظة مجرد تصدع تدريجي، بل كانت زلزالاً عنيفاً مزدوج المصدر: أحدهما خارجي مدوٍ، تمثل في انهيار المنظومة الاشتراكية، والآخر داخلي هادئ، تمثل في تسرب الأفكار "التفكيكية" التي نخرت في أسس اليقين الماركسي. هذا الفصل سيروي قصة هذا الانهيار المزدوج الذي خلق الفراغ الأيديولوجي الكبير.
أ- زلزال 1989-1991: موت "الأب" الرمزي
إن سقوط جدار برلين عام 1989، وما تلاه من تفكك سريع للاتحاد السوفيتي عام 1991، لم يكن مجرد حدث في نشرات الأخبار بالنسبة إلى اليساري العربي. لقد كان حدثاً وجوديًّا، أشبه بـموت "الأب" الرمزي.
- فقدان المرجعية والنموذج: كان الاتحاد السوفيتي، بكل انتقادات اليساريين أنفسهم لبيروقراطيته وشموليته (خصوصاً لدى التيارات غير الستالينية)، يمثل "النموذج" الواقعي الوحيد لدولة استطاعت أن تتحدى الهيمنة الرأسمالية. كان هو الدليل المادي على أن "عالماً آخر ممكن". وبانهياره، لم يفقد اليسار حليفاً استراتيجيًّا فحسب، بل فقد "برهان" وجوده التاريخي. أصبح الحلم الاشتراكي فجأة "طوباويًّا" بالمعنى السلبي للكلمة: حلم جميل، لكنه غير قابل للتحقق.
- صدمة "نهاية التاريخ": تزامن هذا الانهيار مع الصعود الإعلامي الهائل لأطروحة فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ"، التي زعمت أن البشرية قد وصلت إلى نقطة النهاية في تطورها الأيديولوجي مع انتصار الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية. على الرغم من سذاجتها الفلسفية، إلا أن هذه الأطروحة عبرت ببراعة عن "روح العصر" (Zeitgeist). لقد خلقت شعوراً طاغياً بأن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي القدر المحتوم، وأن أي محاولة لتجاوزها هي مجرد سباحة ضد تيار التاريخ الجارف.
- الشعور باليتم والذنب: على المستوى النفسي، خلق هذا الانهيار شعوراً عميقاً باليتم والارتباك. أجيال كاملة من المناضلين الذين كرسوا حياتهم لقضية ما، وجدوا أنفسهم فجأة بلا قضية، أو على الأقل بلا أفق واضح. صاحب هذا الشعور إحساس بالذنب التاريخي، وبدأت عملية مراجعات نقدية قاسية، تحول الكثير منها إلى جلد للذات وتبرؤ كامل من الماضي الماركسي، الذي أصبح يُنظر إليه كـ"خطيئة فكرية" يجب التكفير عنها.
ب- الغزو الهادئ: "النظرية الفرنسية" كبديل جذاب
في قلب هذا الفراغ والشك، بدأت أفكار جديدة تتسرب إلى المشهد الثقافي العربي، قادمة بشكل أساسي من فرنسا، ولكن بعد أن أعادت الأكاديميا الأمريكية تدويرها وتوضيبها. هذه الأفكار، التي عُرفت بشكل إجمالي ومضلل أحياناً بـ"ما بعد البنيوية" أو "ما بعد الحداثة"، قدمت مخرجاً جذاباً من مأزق الماركسية المنهارة.
- جاذبية التفكيك: قدم مفكرون مثل جاك دريدا (Jacques Derrida) أداة "التفكيك" (Deconstruction) كمنهج لتحليل النصوص وكشف تناقضاتها الداخلية وافتراضاتها الميتافيزيقية الخفية. في مناخ الشك العام، بدا التفكيك أداة مثالية لتقويض كل "السرديات الكبرى" (Grand Narratives)، كما سماها جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard)، وعلى رأسها الماركسية نفسها التي بدت كأكبر السرديات وأكثرها إخفاقاً. لقد حولت الشك من حالة نفسية مؤلمة إلى منهج فكري أنيق.
- السلطة كشبكة، لا كطبقة: قدم ميشيل فوكو (Michel Foucault) فهماً جديداً ومثيراً للسلطة. فبدلاً من أن تكون السلطة شيئاً تمتلكه "طبقة" حاكمة أو "جهاز" دولة، أصبحت السلطة، في تحليلات فوكو، شبكة منتشرة في كل مكان، تعمل عبر "الخطاب"، والمعرفة، والممارسات اليومية (في المستشفى، السجن، المدرسة). هذا التحليل كان له أثر تحرري هائل؛ لأنه كشف عن أشكال من القمع لم تكن مرئية للتحليل الماركسي الكلاسيكي. لكنه في المقابل، ساهم في "تبخير" العدو. فإذا كانت السلطة في كل مكان، فهي في الحقيقة في لا مكان محدد. أصبح من الصعب تحديد عدو رئيس يمكن مواجهته.
- الرغبة كقوة ثورية: قدم مفكران مثل جيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليكس غاتاري (Félix Guattari) نقداً للتحليل النفسي والماركسية، معتبرين أن القوة الثورية الحقيقية ليست "الوعي الطبقي"، بل هي "الرغبة" المتدفقة التي تسعى دائماً لتجاوز كل أشكال التنظيم القمعية.
هذه الأفكار الجديدة، بتركيزها على اللغة، والخطاب، والسلطة الميكروفيزيائية، والرغبة، قدمت لليساري المأزوم أدوات جديدة ومثيرة للعمل الفكري. لكنها كانت أدوات تحمل في طياتها ثمناً باهظاً: لقد أدارت ظهرها بشكل شبه كامل للاقتصاد السياسي، والبنية الطبقية، والاستغلال المادي. لقد مهدت الطريق، دون قصد بالضرورة، لليسار الجديد الذي سيبني مشروعه النقدي بالكامل داخل عالم اللغة والرموز والثقافة.
3- اليسار الجديد وسياسات الهوية: "صراع التأويلات"
على أنقاض اليقين المادي، وبمساعدة الأدوات التفكيكية الجديدة، وُلد يسارٌ من طراز مختلف. يسارٌ لا ينظر إلى المجتمع كبناء من "طبقات" متصارعة، بل كشبكة من "الهويات" المتقاطعة. يسارٌ لا يرى أن المشكلة الأساسية هي "الاستغلال" الاقتصادي، بل "القمع" الثقافي والرمزي. يسارٌ لا يخوض معركة "إعادة التوزيع" المادي بقدر ما يخوض معركة "الاعتراف" الرمزي. هذا هو يسار سياسات الهوية، الذي جعل من "صراع التأويلات" معركته المركزية.
أ- من "الطبقة" إلى "الهوية": الفاعل الجديد
كان التحول الأكثر دراماتيكية هو تغيير هوية "الفاعل التاريخي" المنوط به تحقيق التغيير.
- تفكك "الطبقة العاملة": لم تعد "الطبقة العاملة" كياناً متجانساً وواضح المعالم كما كانت في المخيال الماركسي الكلاسيكي. لقد أدت تحولات الرأسمالية (تراجع الصناعات الثقيلة، صعود قطاع الخدمات، العولمة) إلى تفتيت هذه الطبقة وتشتيتها. الأهم من ذلك، أن النقد "ما بعد الحداثي" بدأ يشكك في مركزية "الطبقة" كأداة تحليل، معتبراً إياها "اختزالية" تتجاهل أشكالاً أخرى من الاضطهاد لا يمكن ردها إلى الاقتصاد.
- صعود "الهويات المهمشة": بدلاً من الطبقة، برزت "الهويات" كفاعل سياسي جديد. أصبح النضال يُخاض باسم "النساء" (النضال النسوي)، و"الأقليات العرقية أو الإثنية" (النضال ضد العنصرية)، و**"الأقليات الدينية"، و"المثليين جنسياً"**، وغيرها من المجموعات التي شعرت بأن اليسار الكلاسيكي قد همّش قضاياها الخاصة باسم "الصراع الطبقي الرئيسي". كل هوية من هذه الهويات تمتلك تجربتها الخاصة مع "القمع"، وبالتالي، مشروعها التحرري الخاص.
- من التضامن إلى التقاطعية (Intersectionality): في البداية، كان يُنظر إلى هذه النضالات كجزء من نضال أوسع. لكن مع الوقت، تطور مفهوم "التقاطعية" – الذي يرى أن أشكال القمع (على أساس الطبقة والجنس والعرق) تتقاطع وتتفاعل بطرق معقدة – ليتحول في بعض استخداماته إلى ما يشبه "أولمبياد الاضطهاد"، حيث تتنافس الهويات المختلفة لإثبات من هي الأكثر قمعاً، وأحياناً ما يؤدي إلى تفتيت أي إمكانية لتشكيل جبهة موحدة واسعة.
ب- من "الأيديولوجيا" إلى "الخطاب": ساحة المعركة الجديدة
مع تغير الفاعل، تغيرت ساحة المعركة. لم تعد المعركة تُخاض بشكل أساسي في المصانع والشوارع من أجل الحقوق المادية، بل انتقلت إلى الجامعات، ووسائل الإعلام، والفضاء الرقمي، وأصبحت معركة حول اللغة والرموز.
- الخطاب كأداة سلطة: استناداً إلى فوكو، أصبح يُنظر إلى "الخطاب" (الطريقة التي نتحدث بها ونفكر من خلالها في موضوع ما) على أنه الأداة الرئيسة التي تمارس بها السلطة. فالخطاب "الذكوري" يقمع النساء، والخطاب "الكولونيالي" يقمع الشعوب المستعمَرة، والخطاب "المعياري" يقصي الأقليات.
- المعركة من أجل التمثيل: بناءً على ذلك، أصبح الهدف الأساسي للنضال هو تغيير الخطاب وتصحيح التمثيل. أصبحت المعارك تدور حول:
- تفكيك الصور النمطية في الإعلام والأدب.
- المطالبة بـ"مساحات آمنة" (Safe Spaces) خالية من الخطابات التي تعتبر "مؤذية".
- مراقبة اللغة (Political Correctness) وتطهيرها من أي كلمة قد تحمل دلالة تمييزية.
- إعادة كتابة التاريخ من منظور الهويات المهمشة.
لقد أصبح "صراع التأويلات" حول معنى فيلم، أو رواية، أو تمثال تاريخي، أو حتى كلمة، هو النموذج المصغر للصراع السياسي بأكمله.
ت- المثقف الجديد: من المناضل العضوي إلى الناشط الرمزي
هذا التحول في طبيعة الصراع أنتج بالضرورة نموذجاً جديداً للمثقف النقدي، يختلف جذرياً عن "المثقف العضوي" الغرامشي.
- الأكاديمي كخبير تفكيك: أصبح المثقف النقدي في الغالب أكاديمياً متخصصاً في "الدراسات الثقافية"، أو "دراسات ما بعد الكولونيالية"، أو "دراسات النوع الاجتماعي (الجندر)". أصبحت خبرته تكمن في قدرته على استخدام المصطلحات النظرية المعقدة لتفكيك النصوص والخطابات وكشف علاقات القوة الكامنة فيها.
- الناشط الرقمي: خارج الأكاديميا، برز نموذج "الناشط الرقمي" الذي يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كأداة رئيسية لنضاله. يتميز هذا النموذج بالقدرة على الحشد السريع حول قضايا رمزية محددة، وإطلاق حملات "الهاشتاغ"، وممارسة "ثقافة الإلغاء" (Cancel Culture) ضد الشخصيات العامة التي تعتبر "مسيئة".
- الانفصال عن القاعدة المادية: السمة المشتركة بين هذين النموذجين، في كثير من الأحيان، هي الانفصال النسبي عن القاعدة المادية والجماهيرية التي كان يرتبط بها المثقف الكلاسيكي. فالمعارك الرمزية، على أهميتها، غالباً ما تبقى محصورة داخل دوائر نخب ثقافية وأكاديمية، ولا تلامس بشكل مباشر الهموم اليومية للغالبية العظمى من الناس المتعلقة بالعمل والأجور والخدمات الأساسية.
بهذا يكتمل بناء مشهد "اليسار الجديد". يسارٌ اكتسب حساسية عالية تجاه أشكال القمع الثقافي والرمزي التي كان سلفه أعمى عنها، لكنه في المقابل، يبدو وكأنه فقد البوصلة التي تشير إلى الأساس المادي للصراع الاجتماعي، وأصبح أسيراً لمعارك لغوية قد تبعده أحياناً عن تحقيق تغيير بنيوي حقيقي.
خاتمة نقدية: هل أكلت سياسات الهوية الثورة؟
في نهاية هذه الرحلة الجينالوجية عبر تحولات اليسار العربي، نجد أنفسنا أمام مشهد مركب لا يمكن اختزاله في حكم بسيط. لم يكن الانتقال من "صراع الطبقات" إلى "صراع التأويلات" مجرد استبدال أجندة بأخرى، بل كان تحولاً عميقاً في فهم العالم، والسلطة، والذات، والنضال. والآن، حان وقت الحساب: ما الذي تم كسبه، وما الذي تم خسارته، وهل يمكننا أن نأمل في مستقبل يتجاوز هذا الانقسام؟
لا يمكن لأي باحث منصف أن ينكر المكاسب الهائلة التي حققتها سياسات الهوية والنقد ما بعد البنيوي. لقد أجبرت هذه التيارات اليسار التقليدي على النظر في مرآة أخطائه ونقاطه العمياء. لقد كشفت ببراعة كيف أن "الطبقة العاملة" لم تكن كتلة متجانسة، بل كانت كياناً ذكورياً في الغالب، يتجاهل أشكال القمع الخاصة التي تعاني منها النساء داخل الطبقة نفسها. لقد أظهرت كيف أن الخطاب القومي، حتى في صيغته التقدمية، كان يخفي تحت عباءته قمعاً للأقليات الإثنية واللغوية. لقد علمتنا أن السلطة لا تسكن فقط في قصور الحكم ومجالس إدارات الشركات، بل هي منتشرة في لغتنا اليومية، وفي تصوراتنا عن "الطبيعي" و"غير الطبيعي". باختصار، لقد أعادت الاعتبار لكرامات كانت منسية، وأعطت صوتاً لمن كانوا صامتين حتى داخل صفوف اليسار نفسه.
ولكن، وهنا تكمن المفارقة المأساوية، يبدو أن هذا النصر قد تحقق بثمن باهظ. ففي خضم الاحتفاء بالهويات المتعددة، ضاع الإحساس بـالعدو المشترك. وفي غمرة الانشغال بالمعارك الرمزية والثقافية، تم التغاضي، بشكل خطير، عن المعركة ضد الوحش الحقيقي الذي يقف خلف كل هذه الأشكال من القمع ويستفيد منها: الرأسمالية النيوليبرالية.
وهنا نعود إلى سؤالنا الاستفزازي: هل أكلت سياسات الهوية الثورة؟
الإجابة، في ضوء تحليلنا، هي "نعم، إلى حد ما". لقد وقع جزء كبير من يسار الهوية، دون أن يدري، في الفخ الذي نصبته له النيوليبرالية بذكاء. فكما لاحظت مفكرات مثل نانسي فريزر (Nancy Fraser)، فإن النظام الرأسمالي المعاصر لا يجد أي مشكلة في "الاعتراف" بالهويات المختلفة، بل إنه يرحب بذلك. يمكن للشركات متعددة الجنسيات أن ترفع علم قوس قزح، وتوظف نساء في مجالس إدارتها، وتطلق حملات تسويقية تحتفي بالتنوع العرقي، بينما تستمر في نفس الوقت في دفع أجور زهيدة لعمالها في العالم الثالث، وتدمير البيئة، والتهرب من الضرائب.
لقد أدت سياسات الهوية، في صيغتها الأكثر تطرفاً، إلى تفتيت إمكانية التضامن الواسع. فعندما يصبح النضال مجرد دفاع عن "هويتي" ضد "هويتك"، وعندما تتحول السياسة إلى "أولمبياد للقمع" يتنافس فيه الجميع لإثبات أنهم الضحية الأكبر، يختفي أي أساس لمشروع سياسي جامع قادر على تحدي النظام نفسه. لقد استبدلت "السياسة" بـ"الأخلاقوية" (Moralism)، والنقد البنيوي بـ"فضح" الأفراد.
إلى أين من هنا؟
إن الخروج من هذا المأزق لا يمكن أن يكون بالعودة الساذجة إلى "اختزالية اقتصادوية" قديمة تتجاهل قضايا الهوية. فلقد تعلمنا الدرس، ولا عودة إلى الوراء. الحل يكمن في القدرة على بناء يسار جديد مركب، يسار يمتلك عينين، لا عيناً واحدة. عينٌ ترى الاستغلال الطبقي الذي يوحد الغالبية العظمى من الناس ضد قلة قليلة، وعينٌ أخرى ترى القمع الهوياتي الذي يضيف طبقات من المعاناة والألم على فئات محددة.
المشروع المستقبلي هو مشروع الربط لا الفصل. هو فهم كيف أن الرأسمالية تستخدم العنصرية والذكورية والطائفية كأدوات لـ"فرّق تسد"، لتقسيم الطبقات العاملة ومنعها من الاتحاد. هو إدراك أن النضال من أجل أجور أفضل لا ينفصل عن النضال ضد التحرش في مكان العمل، وأن الدفاع عن الخدمات العامة لا ينفصل عن ضمان وصول الأقليات إليها دون تمييز.
باختصار، نحن بحاجة إلى تجاوز الثنائية العقيمة بين "سياسات إعادة التوزيع" (Politics of Redistribution) و"سياسات الاعتراف" (Politics of Recognition). نحن بحاجة إلى يسار يطالب بالأمرين معاً وبنفس القوة: الخبز والكرامة. يسار يدرك أن لا كرامة حقيقية لجائع، ولا قيمة للخبز في عالم خالٍ من الكرامة. إن مهمة الجيل القادم من اليساريين هي إعادة لحم ما تم فصله، وبناء جبهة واسعة يكون فيها "صراع الطبقات" هو النهر الكبير الذي تصب فيه كل روافد "صراعات الهوية" لتشكيل تيار جارف واحد، قادر فعلاً على تغيير مجرى التاريخ.
المصادر والمراجع:
- فوكو، ميشيل. تاريخ الجنسانية (الجزء الأول: إرادة المعرفة). ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، 1994.
- ليوتار، جان فرانسوا. الوضع ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة. ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات، 1997.
- فريزر، نانسي. ما العمل؟ إعادة توزيع أم اعتراف؟ ترجمة فارس غصوب، دار الفارابي، 2011.
- إيغلتون، تيري. أوهام ما بعد الحداثة. ترجمة منى سلام، المجلس الأعلى للثقافة، 2002.
- غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن. (توجد ترجمات ومختارات متعددة، منها ترجمات وتقديم عاطف أبو سيف).
- إسماعيل، سلامة كيلة. نقد الحزب: من أجل فهم أزمة اليسار العربي. دار التكوين، 2006.
- صادق جلال العظم. ذهنية التحريم. دار المدى، 1996. وما بعد ذهنية التحريم. دار المدى، 2001.
- البرغوثي، مريد. رأيت رام الله. (طبعات متعددة).
- شرابي، هشام. النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.
- الخفاجي، عصام. الدولة والمسألة الطبقية في مصر 1952-1981. (متوفر في دراسات ومقالات متفرقة).






