النيوليبرالية مقابل الليبرالية؟


فئة :  ترجمات

النيوليبرالية مقابل الليبرالية؟

النيوليبرالية مقابل الليبرالية؟[1]

مايكل فويسيل

ترجمة: نجاة النرسي

«ما أريد أن أظهره لكم هو أنه رغم كلّ شيء، النيوليبرالية شيء آخر».

ميشيل فوكو، ولادة البيو- سياسة

«لقد انتهى عهد «دعه يعمل ما يريد»»

نيكولا ساركوزي، خطاب تولون، 24 أيلول / سبتمبر 2008

 

 

قد يكون اعتماد سياسات نيوليبرالية، طيلة خمس وعشرين سنة، هو ما حجب حقيقة أن الليبرالية غدت، في الآن نفسه، مجالاً للصراع. ففي النقاش السياسي، غالباً ما تأتي في صيغة خيار بين اثنين: الليبرالية ضد الطائفية، والليبراليون ضد الجمهوريين. ومهما كانت دوافعها وحوافزها، فإن هذه الخلافات أسهمت، بلا ريب، في إضفاء طابع متجانس كاذب على الليبرالية.

إن التمييز بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية (الثانية في أغلب الأحيان لصالح الأولى) يشهد بشكل أفضل على تعقيد معيّن داخل هذا المذهب، ولكنّه، في الغالب، تعقيد غامض وغير دقيق إلى حدٍّ ما، في حين أن هناك صراعات تنبثق داخل الليبرالية نفسها. ويجدر القول إن مصطلح «ليبرالي» غالباً ما يستثمر في استراتيجيات معيّنة، ونتيجة لذلك يشبه الدالّ العائم الذي يبدو من المستحيل تعريفه. وتظلّ النقطة الوحيدة المشتركة، في معظم استخدامات هذا المفهوم، هي طابعها الجدلي والسلبي؛ فأن تكون ليبرالياً في الولايات المتحدة يعني الاقتراب بشكل خطير من المذهب اليساري. وفي فرنسا، لا يتبنّى اليمين، في أغلب الأحيان، هذا المصطلح. هل ينبغي لنا، مع ذلك، أن نُسْلِم المصطلح لتعدّد المعاني والدلالات؟

إن الميزة الأولى للدروس التي ألقاها ميشيل فوكو في كوليج دو فرانس، في نهاية السبعينيات، هي إعادة التماسك لمفهوم الليبرالية، مع إظهار كيف تطوّر هذا الاتجاه الفكري، وانقسم إلى مذاهب متباينة، وأحياناً متعارضة. إذا ابتغينا الانسجام، يمكن للمرء أن يطلق تعريف «العقل الليبرالي»، من حيث كونه العقل الذي يصرّ على ضرورة إرساء «أقلّ ما يمكن من التحكّم»[2]. إن مفارقة «فن إدارة الحكم» (Gouvernementalité) الليبرالي تتمثّل في توجيه وقيادة أمور الناس انطلاقاً من حريّتهم، ممّا يعني تقليص مجال الفعل لدى السلطة السياسية («التخصصات»)، وتكليف الشخص نفسه بمهمة توجيه نفسه بنفسه.

لتقديم الأشياء بطريقة مختلفة قليلاً، يمكننا أن نطلق نعت «الليبرالية»، بالمعنى العام للمصطلح، على أيّة عقيدة سياسية مبنيّة على الاقتناع بأن العقبات التي تعترض الحرية هي بالضرورة خارجية بالنسبة إليها. وهكذا يتمّ تفسير العقبات التي تعترض الحرية بأنها اضطرابات قادمة من الخارج، وبشكل خاص من السلطة التنفيذية. التدخّل التعسّفي للسلطة في المجال الخاص، أو رفع الأسعار بشكل سلطوي، هذه التدابير تظهر تقييداً لا مبرّر له للحريّات الفردية؛ لهذا فإن السياسة الليبرالية، من حيث المبدأ، سلبية، وتمثل الحدّ الأدنى. إنها تتعلق بعرقلة ما يعوق الحرية.

على هذه الخلفية المشتركة للليبرالية، ركّز فوكو على تنوّع المذاهب. فتميزه الكبير لا يتمثل في وضع المؤشّر على الحرية «الأكثر» أو «الأقل» الممنوحة للأفراد، أو لشساعة القيود المفروضة على عمل الدولة. لا يكْمُن المعيار الأساس، الذي كثيراً ما يتمّ ترديده، في الضبط والتنظيم الذي ينبغي فرضه على النظام التلقائي للسوق؛ إذ لا يسعف هذا المعيار إلا في التمييز داخل الليبرالية نفسها بين «المعتدلين» و«الغُلاة»، بحسب الحيّز المسموح به لسياسة تدخّل الدولة، التي تُعدُّ موافِقة للاقتصاد الحرّ. ولكن، بحسب ما سنتثبت منه، إن مفهوم التدخّل ملتبس بشكل غير عاديٍّ، على الأقل طالما لم نحدّد أهداف هذا التدخّل، التي قد تتراوح بين تقييد السوق والترويج له، من خلال وسائل الدولة، لدى المجتمع بأكمله. فحينما نقرأ أن السوق هي «إيديولوجيا استبدادية تمّ اختراعها للتحكم خلال القرن الحادي والعشرين»، وهي التي «شيطنت الدولة... عبر وضع السوق السيادية في مكانة تتيح لها السيطرة على كلّ شيء آخر»، فإننا لا نتوقّع أن يكون كاتب هذه الأسطر هو جوليو تريمونتي، الذي أصبح، مؤخّراً وزيراً للمالية في حكومة سيلفيو برلسكوني[3].

هنا تكمن أهمية التمييز، الذي اقترحه فوكو، بين الليبرالية الكلاسيكية والنيوليبرالية. تحيل الأولى على التقليد الذي افتتحه لوك، وبلغ ذروته مع كانط؛ ذاك التقليد الذي يرتكز على تعزيز دولة القانون، والحدّ من قدرتها على الفعل وفقاً للمبادئ القانونية المتاحة؛ بمعنى أن هذا التقليد لا يقتصر على الليبرالية الاقتصادية لآدم سميث، ونظرية مبدأ عدم التدخّل التي تعترف باستقلال السوق. من ناحية أخرى، لا تدعو النيوليبرالية إلى استقلال السوق فحسب؛ بل أيضاً إلى توسيع النموذج الاقتصادي ليشمل جميع مجالات التفاعل الاجتماعي. وإن كان هذا النموذج يجد أصوله في نفعية بنثام، فإنه مع ذلك يُدينُ قربَ هذه الأخيرة من الاتجاهات الاشتراكية، ويتجلى ذلك أساساً في نظريات هايك وفون ميسس، وكذلك في الليبرالية الاجتماعية لمدرسة فرايبورغ[4].

لم تعد النيوليبرالية تحيل حصرياً على قابلية للحكم قائمة على حرية الأفراد، بل هي «فن يحكم عقلانية المحكومين أنفسهم»[5]. ولا تُمثِّل هذه العقلانية الجوهرية أيّ شيء آخر غير عقلانية حسابية.

وبقدر ما تصرّ الليبرالية الكلاسيكية على تصوّر الفرد موضوعاً للقانون، ومستفيداً من الخدمات ومبدأ القيمة، بقدر ما تدعي النيوليبرالية أنها ترتبط بأنثروبولوجيا مصطنعة، تنبني على الفرد موضوعاً للمتعة والمصلحة، وتخلط القانون بالاقتصاد. ولأسباب تتعلق بعدم ثقته في النموذج القانوني للسلطة، لم يضع فوكو بشكل منهجي ما يسميه «النهج الليبرالي القانوني الاستنباطي والأكسيوماتيكي للليبرالية» في تعارض مع النهج النفعي والنيوليبرالي. وهو يؤكد، بصورة خاصة، على الفرق بين مبدأ «دعه يعمل» الكلاسيكي ومبدأ تشجيع المنافسة النيوليبرالي، بما في ذلك تشجيعها عن طريق تدخّل الدولة. ولهذا، من الممكن طرح فرضية تفيد بأن النيوليبرالية المعاصرة تختلف عن الليبرالية الكلاسيكية، بل تتناقض معها في بعض النقاط.

على خطا مقالات سابقة[6]، تروم هذه المقالة تطوير بعض الفرضيات التي تذهب في تجاه إقامة تعارض (وليس تمييزاً بسيطاً) بين الليبرالية والنيوليبرالية. فسواء كانت نظرية العمل، أم نظام الدولة، أم نوع العقلانية، التي يتم الترويج لها في كل من هذه المذاهب، من الممكن أن نُشعل نزاعاً بين مؤيدي الليبرالية القانونية ونظرية الإنسان الاقتصادي (homo œconomicus)، لكن هذه المعارضة ليست، بأيّ حال، بديلاً يخضع لمبدأ الثالث المرفوع (tiers exclu). إن القول إن النقد الليبرالي للنيوليبرالية ممكن، لا يعني أن هذا النقد هو الوحيد، أو أنه الأنسب. علاوةً على ذلك، سنسعى إلى تحديد النقطة التي تنفصل فيها الانتقادات الليبرالية من جهة، والنقد الليبرالي للنيوليبرالية من جهة أخرى. إن الأمر يتعلق بالأحرى بمحاولة لتوضيح مفهوم الليبرالية، الذي غالباً ما يُحتَجُّ به دون الأخذ في الاعتبار الفروقات الدقيقة، وربّما أيضاً في محاولة لاختبار مزاعم بعض المفكرين النيوليبراليين الذين يدّعون الانتماء إلى الليبرالية الكلاسيكية، في حين أن مذاهبهم تشوّه مبادئها.

أشكال العمل: «موضوع القانون» و«موضوع المصلحة»

لا يمكن أن نلمس ذكاء النيوليبرالية ما لم نقس أهمية الرابط الذي تقيمه بين فكرة الحرية وفرضية الجهل. يصوغ هايك هذا الرابط بطريقة جدّ واضحة؛ إن كل مؤسّسات الحرية هي تكييفات (adaptations) مع هذه الحقيقة الجوهرية الأساسية؛ يتمّ خلقها لمواجهة المصادفات[7]. لن يكون هناك معنى في الحديث عن الحرية في عالم يُمكِن فيه توقّع أدق تبعات أيّ عمل (action)؛ حيث يتم تحديد كل شيء بقوانين صارمة. وهذا الأمر يمكن لأيّ ليبرالي تقليدي التسليم به: إن التعارض بين الحريّة والحتميّة الطبيعية هو عنصر مركزي في الفكر الكانطي، والذي يحيل عليه بانتظام هايك. على النقيض من ذلك، إن فكرة أن «مؤسسات الحريّة» (التي توجد على رأسها السوق) قد تمّ تصميمها لتقديم أجوبة عن الجهل الذي يحيط بالعمل الإنساني هي أساساً فكرة نيوليبرالية. إن هذه الفكرة توحي إلى أن الحريّة حقيقة «مؤسسة» (وليست طبيعية أو متأصّلة في الإنسان)، وأنه يجب أن تسير وفقاً للقواعد التي تمكّن من السيطرة على اللايقين المرتبط بسياق أفعالنا. إن النيوليبرالي مُحاطٌ باللامرئي: فهو لا يعرف العواقب ولا ظروف عمله. فعلى أيّ أساس، إذاً، سنبني «التحكّم»؟ لقد أظهر فوكو، من منظور مثيل، أن المصالح هي «ظواهر سياسية» فحسب، على عكس الأشياء في ذاتها (choses en soi) التي لا يمكن معرفتها، والتي هي الأفراد أو القيم[8]. إذا كنّا نجهل عمل الدوافع الخفية، يمكننا، من ناحية أخرى، التأكيد على أن الفرد يسعى دوماً لزيادة أرباحه وتقليل آلامه؛ لذلك سيكون من العبث أن نفرد أفعال الناس لهدف مشترك، ومن ثمّة أن نُخضع الحريات لغاية تتجاوز ما يقدّم ظاهرةً؛ أي البحث العام عن المصلحة، ومن ثمّ أن نتوافر على مقدمة منطقية تبرّر رفع السلوك الاقتصادي إلى مرتبة النموذج: «في منطق السوق، يخدم كل واحد، من خلال المكسب الذي يراه، احتياجات غير مرئية له»[9]، فالسوق هو المكان الوحيد للتمفصل العقلاني بين قطب اليقين في الفعل (الذي يجد أصله في البحث عن المصلحة) والجهل، حيث نجد أنفسنا نتيجة هذا الفعل.

ولهذا السبب، لا يكفي تجريد النيوليبرالي من المصداقية، وتذكيره بأنانيته. لا يهمّ إذا كان الغرض من الفعل أنانياً أم لا؛ يمكن للفرد أن يجد رضا شخصياً في البذل والعطاء. الأساس هو أن المصلحة هي مبدأ الاختيار غير القابل للاختزال، وغير القابل للنقل. لقد أظهر هيوم أن الناس يخضعون لعقد ما، لأن لديهم مصلحة في القيام بذلك، وليس لأن لديهم قابلية أو استجابة صوفية للطاعة. إن المصلحة في الوفاء بالالتزامات هو شأنٌ محضُ اقتصادي؛ فهو يستند فحسب إلى المنافع المتوقعة من التجارة[10]. يمكّننا هذا المثال من التثبّت من المسافة الكاملة التي تفصل «موضوع القانون» الخاص بالليبرالية الكلاسيكية عن «موضوع المصلحة» النيوليبرالي[11]. فحينما يوافق الإنسان القانوني (homo juridicus) على التخلّي عن جزء من حريته التي تتطابق مع ما هو اعتباطي، فإن الإنسان الاقتصادي (homo œconomicus) ليس مجبراً على تقديم مثل هذه التضحية.

وفقاً للمدافعين عن المصلحة، إن مفهومها هو شرط لبناء علم واقعي للفعل البشري. ومثل أيّ فعل بالمعنى المادي، إن هذا الأخير هو نتاج تأثيرات حادثة في العالم، وتكمن خاصيته الوحيدة في البحث عن المصلحة الذاتية، وهي التي ترتكز، مرةً أخرى، على إمكانية معرفة الإنسان. ويعدّ لودفيغ فون ميسز (Ludwig von Mises)، المفكّر النيوليبرالي، الذي وضع قواعد هذه النظرية الجديّة للفعل، واستنبط نتيجتها الأساسية من اعتبار: أنّ نموذج فعلٍ موجَّهٍ نحو البحث عن المصلحة لا يمكنه إلا أن يكون اقتصادياً. من هنا، لم يعد الاقتصاد (الذي يطلق عليه ميسز (Mises) «البراكسيولوجيا» la praxéologie) يشير إلى تخصّص إقليمي للنشاط البشري؛ بل هو «فلسفة الفعل والحياة البشرية، وهو يتعلّق بكلّ شيء وبكلّ الناس. إنّه عصب حضارة الإنسان والوجود الإنساني[12]. إن القول إن كلّ سلوك هو بشكل جوهري اقتصادي، يعني الاحتفاظ فحسب بالبعد العقلاني (الذي يمكن التنبّؤ به). حتى وهو مُحاط بالجهل، في «كل فعل تحرّكه الرغبة في القضاء على إحراج محسوس».[13] قد يكون هذا «الإحراج» ذا طبيعة أخلاقية، حيث لا يمكن بتاتاً تفسير الإقدام على فعل متسم بالإيثار بغياب المصلحة. ولمحاكاة ما قاله بورديو (Bourdieu)، الذي ليس ببعيد كثيراً، مثلما يعتقد الناس، عن هذه المقدّمات المنطقية، فإن الفعل «المجاني» ليس سوى علامة على مصلحة (intérêt) تَدَّعِي عدم الاكتراث. إن المنفعة (Utilité) هي وازع لإسقاط أيّ إحراج؛ فالحصول على الربح هو الهدف الثابت لأيّ انخراط فردي في العالم.

يجب إذن إدراك ما يعنيه مثل هذا التصوّر للفعل فيما يخصّ عقلانيته الجوهرية. ففي علم الأنثروبولوجيا النيوليبرالية، يعدّ أيّ فعل منطقياً في القانون، بما أن هذه النيوليبرالية تستجيب للبحث عن هدف وحيد ونهائي: تلبية الرغبات. يختفي التمييز بين العقلاني والمعقول، رغم أنه يشكل بنية التعاقدية الليبرالية لـلوك (Locke)، أو لكانط (Kant)، الذي ينبني لديه الانتقال إلى المجتمع المدني على خيار أخلاقي، قد يبدو أنه يتناقض مع المصلحة المباشرة للفرد. لا يوجد شيء من هذا القبيل في النيوليبرالية، حيث يتلاشى التمييز بين الحساب والعقل. ومن ثمّ يتم تعزيز مفهوم المسؤولية الفردية؛ فإذا كان الفرد لا يتحكم في نتيجة أفعاله، فهو، على العكس، مسؤول دوماً عن استدلالاته واستخلاصاته واستنتاجاته؛ لأنه دائم التفكير. ويبقى السلوك، الذي يبدو غير عقلاني لـ «قاتل» أو لـ«عصابي»، فعلاً قابلاً لتحديد المسؤول عنه: فكلاهما يهدف إلى غايات محددة وموجهة حسب مصلحتهما، حتى لو ظلت هذه المصلحة غير مفهومة[14]. بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يسعى الأشخاص إلى الاستحواذ على الخيرات، ولكن على الخدمات الممكن تقديمها لهم. وإذا ظلّ الدافع هو توفير المزيد من الرفاهية، فلا يمكن أن يتحقّق إلّا في نظام التبادل المعمّم؛ حيث تنشأ علاقة الترابط، بشكل ميكانيكي، من البحث المنفرد عن المصلحة.

إننا إذا ربطنا هذا الدافع للفعل مع عدم الوثوق من المستقبل، فإننا بطبيعة الحال سننظر إلى المضاربة بوصفها نموذجاً للتفكير البشري:

«إن الحاجة إلى تكييف أفعال الفرد مع تصرّفات الآخرين تجعل الفرد مضارباً يقترن نجاحُه أو فشلُه بقدرته على فهم المستقبل. فكلّ فعل هو مضاربة».[15]

يصبح الشخص أقلّ مسؤولية عن أفعاله منها عن استقامة تفكيره. ومن ثمّ، إن النظريات المعروفة باسم «رأس المال البشري» هي التي تَقْرِنُ الملكات الذاتية بالممتلكات. في مفهوم الإنسان الاقتصادي (homo œconomicus)، يفقد رأس المال البُعد المادي، وهو ما يوضّح أيضاً التوافق بين الليبرالية الجديدة والرأسمالية المعرفية.

يكتمل جعل رأس المال ذاتياً مع ميسز (Mises)؛ حيث لا يعني عنده سوى «نتاج التفكير، ويوجد مكانه في العقل البشري»[16]. تعدّ كلّ قدرات الفرد موارد نادرة يمكن أو لا يمكن تخصيصها لأغراض بديلة. يمْكن ذلك إذا وُضعَت استعدادات الفرد الجسدية والفكرية، والمعارف المكتسبة، والصحة، وحتى المهارات العاطفية، في خدمة فعل ما، وأدمجت في تفكير أمثل. تعود ثيمة الفرد «متعهد نفسه» إلى توسيع فكرة رأس المال ليشمل الذاتية التي تمّ تصوّرها ككل.

يمكننا بهذا، أن نفهم المنطق الذي تبنّته النيوليبرالية لاحتواء الفرق بين السلوك الأخلاقي والسلوك الاقتصادي. فحين حافظ آدم سميث على فارق بين معايير الأخلاق الفردية (نظرية المشاعر الأخلاقية) ومعايير الفعل المنتفع (ثروة الأمم)، تحلّل النيوليبرالية المجال الكامل للحوافز من حيث احتساب التكاليف وتوقّع الأرباح.

«المواطن النيوليبرالي النموذجي هو الشخص الذي يختار بشكل استراتيجي، لنفسه، بين مختلف الخيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وليس ذاك الذي يعمل مع الآخرين لتعديل أو جعل هذه الخيارات ممكنة»[17].

في الواقع، لا تخلو نظرية الفعل الفردي هذه من عواقب سياسية. إن تعميم النموذج الاقتصادي هو، بحسب فوكو، هذا «الذي عَبْره سيصير الفرد قابلاً لأن يكون محكوماً»[18]. لذا، يبقى أن نفهم كيف أن إيلاء أهمية كبيرة للإنسان الاقتصادي (homo œconomicus) يحكم رؤيةً للدولة وللقانون، تزيد من تفاقم النزاع بين الليبرالية الكلاسيكية والنيوليبرالية.

التدخّل النيوليبرالي وخصخصة الدولة

على خطا فوكو، كثيراً ما نميّز السياسات النيوليبرالية عن مبدأ «دعه يعمل» لدى الاقتصاديين في القرن الثامن عشر؛ بمعنى أن النيوليبرالية هي أكثر نزعة تدخلية من الليبرالية الكلاسيكية طالما: 1) أنها لا تعتمد على الأنثربولوجيا الطبيعية، بل على التصور الذي يجب أن يؤسَّس فيه الفرد كـ«متعهد لنفسه». 2) السوق نفسه يفقد بداهة كونه معطىً طبيعياً، ليصبح بدوره مؤسسة يجب على الدولة تعزيزها. النيوليبرالية المعاصرة هي نظرية لأزمنة الأزمات: فقد نشأت في نهاية الثلاثينيات، بينما كانت عقيدة «دعه يعمل» تشهد شبه رفض شامل، سواء من قبل الشيوعيين أم الفاشيين أم المحافظين ذوي الحنين للتجمّعات الحِرفية، وجميع المؤيدين للتخطيط[19]. ومن ثمّ، إن النيوليبرالية هي عقيدة سياسية تهدف إلى «إضفاء الشرعية على الدولة، على أساس الممارسة الضامنة للحرية الاقتصادية»[20]، أكثر من كونها إيديولوجيا تنبثق من نظام للإنتاج.

لا يكفي القول إن النيوليبرالية دولتية، أو إنها بطبيعتها ذات «نزعة تدخلية». تاريخياً، يكمن الجديد، الذي أتى به النيوليبراليون كونهم لا يقيمون العلاقة نفسها مع الدولة مثل أسلافهم. فغداة الحرب العالمية الثانية، بدأ دعاة «الليبرالية الموجَّهة» لمدرسة فرايبورغ، ومعظمهم عائد من الهجرة، في صنع دولة (جمهورية ألمانيا الاتحادية). اندرجت أهداف هذا البناء في سياق مآسي الفترة الاشتراكية- الوطنية، التي أُوِّلَت على أنها عواقب تدخّل الدولة الهتلرية. هذا صحيح أيضاً، في حدود أقل، بالنسبة إلى النيوليبراليين الأمريكيين، الذين لم يضطروا إلى مواجهة الاستبداد الملكي أو الجمهوري؛ بل النيوديل فحَسْب. إذا كان الليبراليون يفكرون على أساس وجود دولة قائمة بالفعل، فإن النيوليبراليين ينظرون إلى أنفسهم تلقائياً بوصفهم مؤسّسينَ للدول، ويكْمُن تميزهم في اعتبار أن أساس بناء الدول هو اقتصادي بحت. فهذه المذاهب هي أول من أعلن الفكرة التي سنجدها، لاحقاً، حتى في أقصى اليسار، والمتمثلة في أن تعبئة استمارة الضمان الاجتماعي ليس فعلاً بالضرورة خارجاً عن الخضوع إلى سلطة شمولية. كيف يمكن لمثل «رهاب الدولة» (فوكو) هذا، أن يؤدّي للدعوة إلى تدخل الدولة؟ تنجلي المفارقة، إذا افترضنا أولوية المنافسة على سياسة «دعه يعمل»، بينما أثبتت هذه الأخيرة تاريخيّاً محدوديتها (بما أنها لم تمنع تشكّل الاحتكارات)، تنحو الأولى إلى التماهي مع الديمقراطية بتقديم نفسها بديلاً للمؤسّسات العمومية[21]. وهنا، مرةً أخرى، يجب أن نبدأ بحجاب الجهل الذي يحيط بمعظم أفعالنا. بشكل سلبي، يقتضي هذا التماهي، ضمنياً نبذ التخطيط، وبشكل أوسع، السياسات العمومية التي تخدم مبدأ العدالة الاجتماعية.

بالنسبة إلى هايك (Hayek)، إن السوق هو نظام معقّد لكنّه منتظم، ولا ينجم عن أيّة نيّة واعية؛ لذا من السخف أن نتحدث عنه باعتباره شخصاً، على سبيل المثال، من خلال تقديم شكوى حول كيفية توزيع الثروات. تنطلق النيوليبرالية من الفرضية القائلة إن الفعل الطوعي وحده الذي يحتمل أن يكون عادلاً أو غير عادل، لتستنتج استحالة أن يكون وضع اجتماعي ما كذلك؛ لأنه لا ينبع من نية، بل من نظام تلقائي للتبادلات[22]. من ثمّ، يجب علينا القطع مع التصورات «البنائية» للدولة الاجتماعية التي تجعل من هذه الأخيرة محصّلة تعاقد غايته البحث عن الخير. بينما، في الليبرالية الكلاسيكية، يُعدّ التعاقد الاجتماعي لحظة من لحظات النظام السياسي، لا يتعدى كونه، لدى النيوليبرالية، علاقة تبادل.

من المسلّم به أن الناس يصنعون المجتمع، وبهذا المعنى تظل النيوليبرالية فردانية؛ ولكن بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يدركون ما يفعلونه ما دامت التفاعلات عديدة، وما دام النظام الاجتماعي معقداً [23]. وبهذا الخصوص، يدين هايك باستمرار «الوهم العام» الذي تلاحظه في الاشتراكية وفي التعاقدية الكلاسيكية على حد سواء، فالدولة ليست مؤهلة أكثر من الفرد لإلقاء نظرة شاملة على المجتمع؛ إذ يجب على الدولة التخلّي عن ادّعاء القدرة على تحديد هدف للحياة المشتركة. وكما قال بينث قبل ذلك، «المشرِّع ليس سيّد قلب الإنسان؛ فهو فقط مترجمه ووزيره». يجب أن يخدم الخواص، أو بالأحرى ما نعرفه عنهم؛ أي مصالحهم». هنا تكمن قواعد التدخّل التنافسي الخاصة بالنيوليبرالية.

إن المنافسة هي السلوك العقلاني الوحيد في سياق اللايقين؛ فهي تشجّع الأفراد على محاكاة الأداء القابل للتحقّق بشكل مثالي كاستثمار. فالتدخّل التعسّفي للدولة في لعبة المنافسة (عبر تثبيت الأسعار) غير مدانٍ سياسيّاً فحسب؛ بل هو مدان علميّاً كذلك؛ لأنه يدخل اللايقين إلى الآلية العقلانية الوحيدة للتفاعل. لذا يجب على الدولة الامتناع عن وضع أهداف مشتركة، أو المساهمة في العدالة الاجتماعية، لكن هذا الامتناع هو من حيث المبدأ شكل جديد من النشاط. الواقع، ينبغي على السلطات العمومية أن تضمن أن سياسة «دعه يعمل» لا تشكل عائقاً جديداً لأصحاب المشاريع؛ لذلك فإن هدفها هو مركزة المعلومات الاقتصادية، ونشرها اجتماعياً، حيث يتمكّن كل فرد من الاستفادة منها. في هذا المحيط العظيم من اللايقين، الذي يمثله التفاعل الاجتماعي، ينتج السوق بنفسه معلومة أساسية: الأسعار. إن هذه الأخيرة لا تعكس القيمة الفعلية للسلعة، ولا وقت العمل الذي استغرقته؛ بل هي إشارات ذات قيمة محفزة. فسعر سلعة ما يشجّع أو يثبّط الاستثمار؛ فهو يمثل، في نهاية المطاف، الهدف الرئيس للمعرفة الجماعية في عالم تنافسي وغير مؤكّد- وهو بهذا المعنى، يُعدُّ دائماً السعر المناسب[24].

إن نقطة القوة لدى النيوليبرالية، التي تتميّز بها ربّما بشكل أوضح عن الليبرالية، تتمثل في أنها تقرن القانون بنوع المعلومات التي توفرها الأسعار، حيث يفقد القانون، حينئذٍ، أي بعد جوهري؛ إذ لا يشمل أي «طبيعة إنسانية» افتراضية، ولا يشتمل على الحدود المعيارية التي يمكن للمجتمع السياسي أن يضعها لنفسه. لا يعدو القانون أن يكون فقط معلومات للاستعمال الخاص، يحتاجه الفرد ليطابق بين طلب مصلحته والشروط الاجتماعية للعمل وحالة السوق. بالطبع، يتسم أيّ شكل من أشكال الليبرالية بتفضيل القانون الخاص على القانون العام. وكما أوضح ماكفرسون (Macpherson)[25]، إن الفرد الليبرالي هو مالك، أوَّلاً، لنفسه، ومن ثمّ يصبح قادراً على أن يمتلك الأشياء من خلال عمله. ومن ثمّ، إن مصدر القانون يوجد في القانون الخاص الذي يرسم حدوداً لتشريعات الدولة. ولكن، حيث تكتفي الليبرالية الكلاسيكية بحصر مجال اشتغال السلطة التنفيذية من خلال إضفاء الطابع الشكلي عليها (لا قيمة للقانون إلا إذا تمّ نشره، وكان ذا طبيعة عالمية في تطبيقه)، فإن النيوليبرالية تخصخص القانون العام. ينبغي أن تلزم الدولة نفسها بالقواعد والإجراءات نفسها التي يذعن لها الفرد؛ إذ يخضع نشاطها التشريعي لمنطق القانون الخاص: تعويض العقود للقانون وتثمين المنافسة[26]. في نهاية الأمر، يوجد بين الليبرالية والنيوليبرالية الفرق نفسه الموجود بين تعزيز التشريع، وتضخّم السلطة القضائية.

إذا ما عُدّت الدولة في الواقع فاعلاً خاصاً يتساوى مع المواطنين، فتصحّ مقاضاتها مثل الآخرين. يؤدّي هذا التصوّر حتماً إلى تكاثر الهيئات القضائية المكلّفة بالسهر على قانونية تصرفات الدولة. لكن ما هي معايير هذه القانونية؟ شكلياً، يتعلق الأمر، كما هو الحال بالنسبة إلى الليبرالية، باحترام حرية الفاعلين، لكنّنا رأينا كيف أن النيوليبراليين لا يلمسون هذه الحريّة إلّا في السلوكيات الاقتصادية، حيث إن معيار الشرعية لم يعد سياسياً، وإن السلطة التشريعية فقدت الأولوية التي كانت تمتلكها في جميع النظريات الليبرالية تقريباً. إن النظام، الذي يجب أن تُخضِع له الدولة إجراءاتها الخاصة، هو الشكل الوحيد للتنظيم المتناسب مع السعي الحر للمصالح الفردية؛ أي «التبادل» (la catallaxie)، أو التنظيم الداخلي للسوق. لم يعد القانون الخاص يمثل مجرد حدود للقانون العام، بل أضحى نموذجه. قد يعتقد المرء أنه بموجب مفهوم «دولة القانون» يوجد مفهوم ليبرالي واحد فحسب للدولة؛ ذلك الذي يشجّع الحقوق الذاتية، وفصل السلطات ومبدأ التقييد الدستوري. على هذا الأساس، قامت المساجلات في فرنسا بين المذهب الليبرالي والمذهب الجمهوري، وهذا الأخير يمنح أولوية لسيادة الشعب المتجسّدة في القانون. لكن «القانون» في دولة القانون، عند هايك، لا علاقة له بقانون لوك أو مونتسكيو أو كانط، بما أنه يغدو نوعاً ما ملحقاً بنظام الأسعار المعمول بها في السوق. يجب على هذا القانون فحسب أن يسمح للأفراد بتقييم المخاطر الملازمة لمقاولاتهم؛ لهذا يفقد الوظيفة الاعتراضية المرتبطة بشكل عام بـ «حقوق الإنسان»[27].

الانتقادات الأنثروبولوجية

تتعارض الليبرالية والنيوليبرالية بخصوص نقاط أساسية، من قبيل نظرية العمل ونظرية الدولة. ماذا يمكن، إذاً، أن يكون النقد الليبرالي للنيوليبرالية؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا، أوّلاً، تَبَنِّي كيفية أخرى لانتقاد النيوليبرالية، متميّزة بشكل عام عن تلك التي سنقدّمها لاحقاً. تستند النيوليبرالية إلى الأنثروبولوجيا القائمة على مفهوم المصلحة وأولوية المنافسة. ومن ثمّ، يمكننا، إذن، بطبيعة الحال، الاعتقاد أن دحض هذه المقدمات المنطقية يجب أن يكون في مستواها نفسه، وأن إعادة النظر يجب أن تتم على مستوى الأنثروبولوجيا النيوليبرالية. إن انتقادات الإنسان الاقتصادي (homo œconomicus) عديدة، وسنكون واهمين إن تصورنا إمكانية تلخيصها. لذلك، سنكتفي، لاعتبارات عامّة وبنيوية، بتسليط الضوء بشكل أفضل على خصوصية النقد الليبرالي. من الممكن أوّلاً أن نبرز، في سياق علم الاجتماع النقدي، أن البحث عن المصلحة ليس، بأيّ حال، معطىً طبيعياً، بل منتوج اجتماعي. سوف نركز على الطابع غير العام، وغير الضروري للدوافع الأنانية، وعلى كون الترويج لها يتم دائماً في ظروف اجتماعية معينة[28]. هذا النقد ليس، في هذه الحالة، الأكثر إقناعاً، بما أن ما يميّز النيوليبرالية، بالضبط، عن الليبرالية هو طابعها المصطنع. إن المفكّرين النيوليبراليين الذين ذكرناهم لا ينكرون أن البحث عن المصلحة، وحب المنافسة، تتشكلان اجتماعياً؛ فهذه الانفعالات الاجتماعية تشير إلى وجود طبيعة ثانية، أو هابتوس (habitus) خاص بالرأسمالية الحديثة. ولهذا السبب يجب على المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية (المدارس، العدالة، المستشفيات، المنظمات الاجتماعية... إلخ)، في جميع الحالات، إعادة تأهيل الفرد بوصفه رائد أعمال. إن الأمر يتطلب اتخاذ تدابير تجعل السلوكيات المرغوبة هي السلوكيات المناسبة لنظام السوق، وغير المرغوب فيها هي السلوكيات الأخرى، من قبيل الاتكال الاجتماعي على سبيل المثال، التي يمكن تمثلها شكلاً من أشكال الاعتماد على الإعانات الاجتماعية.

وتبعاً للمنظور الأنثروبولوجي، يبدو أنه من الأفضل دحض رجحان النيوليبرالية، وليس دفع صفة طبيعية لم تدَّعِها هذه الأخيرة أبداً. والسؤال الذي نطرحه، إذاً، هو: هل يوجد فرد محكوم أساساً بالبحث عن مصلحته، وقادر في الآن نفسه، وباستمرار، على بناء تفكير منطقي وَثُوق؟ ويستند اليوم جزء كامل من النقد الاجتماعي للنيوليبرالية إلى إعادة تقييم لمفهوم المصلحة انطلاقاً من كتابات سبينوزا[29]. سنقتصر، مرةً أخرى، هنا، على ما هو أساس: فأن يتصرف الناس وفق المصلحة لا يعني أن هذه المصلحة نزعة نفعية؛ أي إنها واعية تماماً، وعقلانية، وقابلة للترجمة من الناحية الاقتصادية. من المؤكد أن أنثروبولوجيا سبينوزا تستند إلى بذل مجهود في الوجود (conatus)؛ أي الرغبة التي يشعر بها كلّ واحد في استمرار وجوده واستدامته. لكن هذا الأخير لا يتمحور حول هدف معين (الربح)؛ إنه استدعاء لقوة الوجود، وليس اللهث وراء الثروات.

في مقابل النموذج النيوليبرالي للمنافسة، يمكن وضع أطروحة سبينوزا حول تقليد العواطف[30]. فبقدر ما تكون المنافسة بين المصالح واعية وحسابية، فإن تقليد العواطف يكون فورياً وانفعالياً. في كلتا الحالتين، هناك شكل من أشكال التقليد الذي قد يعتقد المرء أنه مصدر الرابطة الاجتماعية. لكن النيوليبرالية تبدأ من وضع يكون فيه الأفراد في علاقة خارجية مع بعضهم البعض؛ أي إن المنافسة هي الطريقة الوحيدة لإنشاء رابطة على أساس ذري. بالنسبة إلى سبينوزا، وعلى العكس من ذلك، تغدو المصلحة الشخصية، ومصلحة الآخرين غير قابلتين للتجزئة في تقليد العواطف، فالفرد هو الشخص الذي يدرك مشاعره؛ أي عقلنة السلوك من جهة، وتخيل شبيه الآخر من جهة أخرى؛ ففي الأطروحة السبينوزية، ليس الصراع إلا أحد الأشكال من التفاعل ضمن أخرى، لا يتم فيها استبعاد التعاون بأيّ حال من الأحوال. من الغريب أن نجد في الليبرالية الاقتصادية الكلاسيكية أطروحة مماثلة تدعو إلى التشكيك في عفوية الرابط التنافسي.

إن آدم سميث أقرب إلى سبينوزا منه إلى هايك، عندما يصف أصل الشعور الأخلاقي قائلاً: «مهما افترضنا أن يكون الإنسان أنانياً، فمن الواضح أن هناك مبادئ ما في طبيعته تجعله يهتم بثروات الآخرين، وتجعل من سعادتهم أمراً ضروريّاً له، بغضّ النظر عن أنه قد لا يجني من ذلك سوى متعة رؤيتهم سعداء»[31]. من الواضح أن تصوّراً عن الإنسان الذي يفضل حبّ الذات (l’amor sui) على تقدير الذات (l’amor proprius)، يتعارض مع التعريف الصوري والتقييدي جداً للرابطة الاجتماعية، الذي دافع عنه النيوليبراليون. يمكننا أيضاً أن نستشهد بنظريات الاعتراف كما عند أكسل هونث[32]، الذي يحاول وضع الصراع في مجال يقع خارج نطاق الاقتصاد. وعلى أيّة حال، إن الأنثروبولوجيا النيوليبرالية ستواجه تحدياً ليس على صعيد عواقبها فحسب، ولكن من حيث مبادؤها أيضاً. فالمجتمع النيوليبرالي، وهو مجتمعُ بَالغِين أكفّاء، لا يترك مجالاً للمشاعر الحزينة وأنظمة التبعية المختلفة، ولا سيّما الأنظمة العاطفية، التي لا تمتُّ بصلة إلى النموذج التنافسي. في هذا النموذج، غالباً ما يبدو من الغريب، وهو الأمر الذي يظلّ غير قابل للتفسير، أن يتأقلم الأفراد بسهولة أقل من تأقلم الأسواق مع التطورات الاقتصادية.

العقل والإجراءات: النقد الليبرالي

إن نقداً محض ليبرالي للنيوليبرالية لن يتموقع على هذا المستوى الأنثروبولوجي. لفهم ذلك يجب أن نتذكر أن العديد من المؤاخذات الموجهة للليبرالية الكلاسيكية تستهدف، في الواقع، أنثروبولوجيتها، التي تعدُّ شكلية ولاواقعية. يكفي أن نقارن توصيفات لوك للإنسان في حالته الطبيعية مع أوصاف هوبز، أو سبينوزا، أو روسو، لندرك ضعف هذه الأنثروبولوجيا، التي تجهل تقريباً كل شيء عن العواطف، ولا تقيم تمفصلاً أبداً بين نظام المؤسسات ونظام الانفعالات. تُعدُّ الأنثروبولوجيا الليبرالية إمّا مبسّطة ومقلّة، أو متفائلة بشكل مبالغ فيه[33]. في كلتا الحالتين، إن انحياز هذه الأنثروبولوجيا «الأخلاقي» (الذي يراعي صحة المعايير بدلاً من تقديم تعريف للخير) يُحْسَبُ عليها لا لها، بسبب طبيعتها التي تميل إلى أن تكون مضادة للسياسة. ومع ذلك، قد يشكل هذا الضعف الوصفي ميزة عند مقارنتها مع الأنثروبولوجيا النيوليبرالية.

يُمْكننا أن نقول عن الليبرالية الكلاسيكية، إنها تؤكّد ما يجب أن يكون عليه الناس بدلاً من تأكيد ما هم عليه، أو ما تقوله عنهم عقيدة معينة. على العكس من ذلك، تتصور النيوليبرالية أن عمل الدولة حافز لتمكين الأفراد من أن يصبحوا هم أنفسهم: كائنات تنافسية، تتوافر على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حالة السوق. هناك قرار مسبق حول السلوك البشري «الطبيعي» غير موجود في أيٍّ من أدبيات الليبرالية.

لقد قدم جون رولز بشكل واضح نظريته عن العدالة على أنها «بديل» للنفعية التي تجعل أبحاث المصلحة الخاصة هي الدافع الوحيد للعمل البشري[34]. وبذلك، لا يعتزم المفكر الليبرالي استبدال أنثروبولوجيا بأخرى؛ بل إحلال مفهوم إجرائي للعدالة مكان رؤية جزئية للإنسان. نجد عند رولز «حجاباً من الجهل» يذكّرنا بإصرار النيوليبرالية على ما لا نعرفه. لكن، هذا «الحجاب» له وضع مختلف تماماً؛ لأنه يتجاهل ما لا يشكّ فيه هايك، ألا وهو البحث عن الفائدة بوصفها نشاطاً رئيساً للعقل. وهكذا، إن «حجاب الجهل» عند رولز هو الذي يسمح لنا بتعليق أيّ شكل من أشكال الأنثربولوجيا، التي قد تدّعي أنها تشكل أساس القانون.

في التقاليد الليبرالية، يُعدُّ كانط الأكثر تأكيداً على استحالة إرساء الحقّ (وبشكل أعم واجب الوجود، أو ما يجب أن يكون) على أسس أنثروبولوجيا محدّدة. لا يمكن لهذه الأخيرة أن تكون شيئاً آخر غير مقاربة اختبارية ميدانية؛ إنها تتعلق بواقعة، وليس بمعيار. أمّا بشأن القانون، فإن كانط[35] لا يحتفظ من التجربة إلا بالحقيقة البسيطة للتعايش بين الأفراد، التي يجب السعي إلى تنظيمها بموجب القانون؛ لكنه يمتنع عن النطق بطبيعة هذا التعايش الذي لا يمكن، حينئذٍ، أن يختزل في نموذج المنافسة. لا يحتفظ هايك (Hayek) وميسز (Mises) من ما أتى به كانط إلا برفض العلموية التي تنكر الحرية، ويتجاهلان فرضية أن العقل عملي بحد ذاته؛ أي إنه يضع معياراً دون استعارة أيّ شيء من أنثربولوجيا ضمنية، ومشكوك فيها على الدوام. ولكن الإجرائية، التي نؤاخِذ عليها في كثير من الأحيان المذاهب الليبرالية، هي، أوّلاً وقبل كل شيء، علامة على الرفض: رفض اختزال العقل في الحساب. لهذا السبب لا يمكن للعقل العملي إلا أن يكون عبثيّاً من وجهة نظر العقل الاقتصادي الذي لا يتخيّل أن عدم الاكتراث الأخلاقي يمكن أن يكون حافزاً كافياً للعمل. يُمكن للمرء أن يناقش انتماء كانط إلى المذهب الليبرالي، لكن نجد لديه نصّاً واحداً على الأقل يحتوي جميع الخاصيات، بما في ذلك أكثرها إثارةً للجدل. في القسم الثاني من كتابه (النظرية والممارسة) (تحت عنوان فرعي: «ضد هوبز»)، يذهب كانط إلى أنه من بين شروط المواطنة توجد الاستقلالية الاجتماعية للفرد؛ أي وضعه مالكاً[36]. وبعبارة أخرى، يعدّ القانون الخاص أساس القانون العام، لأنه يجب استبعاد الشخص الذي لا يملك شيئاً (أي أغلبية الرجال ومجموع النساء) من الحقوق المدنية بسبب اتكاله على الآخرين. مالا يسر المرء في هذا النص هو استعادة هذا الأخير فكرةً عامة مألوفة وشائعة عند الليبرالية الكلاسيكية: الخوف من الشعب، الذي تمّ تحديده في كتلة غير المالكين، والذي يجب أن يحرص القانون على إبعاده عن ممارسة السيادة.

لكن هناك بعداً آخر لهذا النص (وبشكل عام للليبرالية القانونية) الذي يأتي داعماً لانتقاد الإنسان الاقتصادي (l’homo œconomicus)، فبالنسبة إلى كانط، إن الميزة الرئيسة لخضوع الدولة للقانون هي تجنّب «الاستبداد» الذي يُعرف بأنه الإطلاقية السياسية لـ «مبدأ السعادة»[37]. إن الانطلاق من أنَّ السعي وراء المصلحة الخاصة، أساساً للرباط الاجتماعي، يؤدي حتماً إلى الترويج لدولة «أبوية» تُوجِّهُ عملَها الطموحاتُ الذاتية لتحقيق السعادة. يستهدف كانط كلّاً من النفعية والمفاهيم المتشائمة التي تَستنتِج مِن فساد الطبيعة البشرية استحالة منح الحرية السياسية للأفراد. في الحالتين كلتيهما يخضع الحقّ غير المشروط لاعتبارات استراتيجية حول ما هو الإنسان. لكن ما هو «الإنسان»، على افتراض أننا نستطيع تعريفه، لا يفيدنا في شيء عندما نسعى إلى تحديد ما يجب أن يكون سياسياً. في هذا الإطار، يجب على المرء أن يفترض أن هذا الإنسان لا يمثّل شيئاً؛ لأنه على وجه التحديد حرٌّ؛ هذا هو المعنى الحقيقي لعدم تحديد حقوق الإنسان.

أين يكمن التعارض، إذاً، مع النيوليبرالية؟ من خلال إظهار أن الملك لا ينبغي أن يسعى إلى جعل الناس سعداء بدلاً منهم، ألّا يتكهن كانط بـ«رهاب الدولة»، وجميع الانتقادات الموجهة إلى دولة الرعاية؟ إنه يظهر، على وجه الخصوص، أن نوع الأنثروبولوجيا، التي نمنحها لأنفسنا، لاتَهُمُّ كثيراً الليبرالي الحقيقي الذي يُعْنَى باستقلالية القانون. وقد أظهر التحالف غير المستقرّ بين النيوليبرالية (التي تبدو متفائلة) والتنظيمات الدينية المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة، أن الثقة في الفرد يمكن أن تتلاءم مع سياسة أمنية، وهي بهذا المعنى «أبويّة». وبانتقاده للنفعية إلى جانب الأنثروبولوجيا التشاؤمية، يردُّ كانط بشكل مسبق على أولئك الذين يعلنون أن المجتمعات «غير قابلة للحكم»، ويسعون إلى علاج ذلك عن طريق تعزيز الدولة للسوق وللمقتضيات الأمنية.

إن النزاع بين الليبرالية والنيوليبرالية ليس مسألةَ معارَضَةٍ مذهبيةٍ فحسب. لقد رأينا أن هذه الأخيرة تتميز بتدخلية متناقضة، كلما لم يتجاوب السوق أو الأفراد مع التعريف الذي نسب إليهم أوّلاً. لكن، الليبرالية القانونية تحرص على عدم تعريف الإنسان دوغمائياً، ممّا يحميه على الأقل من إغراء تغييره. ولهذا السبب يجب علينا أن نتناول بحذر الدعوات إلى «تخليق الرأسمالية» التي نجدها، نتيجة الأزمة الحالية، على لسان سيغولين رويال وسارة بالي. لن يكون من المعروف أبداً ما إذا كانت النداءات بتوبيخ «عصابات وولستريت» تستحقّ الانتقاد للرأسمالية المالية، أو إدانات الأخلاق المتعفّنة لسكّان الساحل الشرقي. من ناحية أخرى، تذكّرنا الليبرالية الكلاسيكية بأن شرعية السوق ليست غير قابلة للنقاش طالما أن التنظيم الذاتي للمصالح لا يزال يعمل، ويصير موضع شكٍّ عندما لاينتج إلا «الفساد» فحسب. ترتبط هذه الشرعية، بطبيعتها، بما يسبقها؛ أي باحترام القانون الذي لا يتعارض مع متطلبات العدالة الاجتماعية، بشهادة رولز بما فيه الكفاية.

لا يمكن فصل قوة الليبرالية القانونية عن ضعفها؛ فهي تكتسب على مستوى وضع المعايير ما تخسره على مستوى وصف السلوك الاجتماعي. من خلال تبنِّي الحد الأدنى من الأنثروبولوجيا (وبالتأكيد القابلة للجدل)، تتجنّب أيضاً «القفزة القاتلة» التي تبتّ في ما يمثله الإنسان داخل ما يجب أن يكون عليه المجتمع. لا تتخذ النيوليبرالية هذا الاحتياط تماماً؛ حيث إنها لا تعترف إلا بنظام واحد فقط للعقلانية، وهو نفسه الذي يمارسه الإنسان الاقتصادي. هناك استخدامات عديدة للعقل، قد تكون هذه الأطروحة هي الاعتراض الرئيس على إعلاء النيوليبرالية للحساب والمنافسة إلى مرتبة الإجراءات.

إنه لمن السابق لأوانه القول إن النيوليبرالية «ماتت» نتيجة أزمة الرأسمالية المالية، التي كانت تؤدي بالنسبة إليها دور المُزين الإيديولوجي. لقد أثبت فوكو، عن حق، أن النيوليبرالية ليست إيديولوجيا تابعة لنظام إنتاج؛ بل عقيدة سياسية وأخلاقية حقيقية. فعندما يقترح رئيس الجمهورية استبدال «رأسمالية أصحاب المشاريع» بـ «رأسمالية المضاربين»، يبدو أنه يجهل أن المصطلحين مترادفان؛ إذ أمام اتكال الفرد والدولة على المقاولة، لا يوجد سوى جوابين ممكنين؛ إما بلورة أنثروبولوجيا مضادة للنيوليبرالية، وإمّا تثمينُ ليبراليّة للحقوق باسم حرية مستقلة عن معتقداتنا بشأن الطبيعة البشرية.

للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا

_______________________________________________________________________

[1]- مجلة ألباب العدد 13

[2] - Michel Foucault, Naissance de la biopolitiqueو Cours au Collège de France, 1978-1979, Paris, Gallimard/Le Seuil, coll. “Hautes Études”, 2004, p. 30

[3] - Le Monde, 19 mars 2008

[4] - برهن سيرجي أوديي، على عكس فوكو، أن الخلط بين النيوليبرالية، التي ترجع أصولها إلى هايكو، تتحقق لدى ميلتون فريدمان، وبين الليبرالية الموجهة في ألمانيا، التي لا تثق كثيراً في قدرة السوق.

 (الموجهة 2008(Serge Audier, Aux origines du néolibéralisme: le colloque Lippmann, Paris, Le bord de l'eau,. يجب أن نعترف أيضاً بأن الليبرالية هي حركة شديدة التعقيد. وفي نهاية الأمر، لا علاقة بين روبك (Röpke) (وهو ليس ببعيد عن الاشتراكية الليبرالية) وأوكن (Eucken) (الذي ينظر إلى الدولة على شاكلة السوق). يكتسي هذا النقاش أهمية كبرى لأن الليبرالية الموجهة (ولكن أي ليبرالية؟) أدّت دوراً حاسماً في تشكيل الفكرة الأوربية بعد الحرب. على أيّ حال، لا نعالج في هذه المقالة إلا شكل النيوليبرالية التي فرضت نفسها إيديولوجياً وسياسياً ابتداءً من الثمانينيات، وعلى الأقلّ حتى الأسابيع القليلة الماضية؛ أي النموذج الأنجلو سكسوني..

[5] - M. Foucault, Naissance de la biopolitique, op. cit., p. 316

[6] - انظر: Wendy Brown, les Habits neufs de la politique mondiale, Paris, Les Prairies ordinaires, 2008 وPierre Dardot et Christian Laval, «La nature du néolibéralisme: un enjeu théorique et politique pour la gauche», Mouvements, 2007, p. 50

إنه لمن اللافت للنظر أن التمييز بين الليبرالية والنيوليبرالية يقوم به، إمّا مروجو هذه الأخيرة، وإمّا منتقدو الليبرالية بالمعنى العام للمصطلح. تعكس هذه الحالة جموداً معيناً في الفكر السياسي الليبرالي، أو تعكس انخراطه في جبهات أخرى (تقديم ردود على انتقادات الطائفيين أو الجمهوريين).

[7] - Friedrich A. Hayek, la Route de la servitude, Paris, PUF, 1985

[8] - M. Foucault, Naissance de la biopolitique, op. cit., p. 47

انظر أيضاً: Christian Laval, l'Homme économique. Essai sur les racines du néolibéralisme, Paris, Gallimard, 2007

[9] - F. A. Hayek, Droit, législation, liberté, Paris, PUF, 2007, p. 547

[10] - Hume, “Essai sur le contrat primitif”, dans Essais moraux, politiques et littéraires, Paris, Pu F, 2001, p. 343

[11]- انظر: M. Foucault, Naissance de la biopolitique, op. cit., p. 277

[12] - Ludwig von Mises, l'Action humaine, traité d'économie (abrégé), trad. G. Dréan, Paris, Les Belles Lettres, 2004, p. 55.

[13] - Lvon Mises, l'Action humaine, traité d'économie, op. cit., p. 27

[14]- لا نحتاج للتأكيد على ما تنطوي عليه هذه المفاهيم من تجريم للطب النفسي. انظر: L. von Mises, l'Action humaine, traité d'économie, op. cit.

[15]- نفسه، p. 82-83

[16]- L. von Mises, L’action humaine, traité d’économie, op. cit., p. 117. فيما يتعلق بمفهوم «الرأسمال البشري» انظر: M. Foucault, Naissance de la biopolitique, op. cit., p. 2.

[17]- W. Brown, les Habits neufs de la politique mondiale, op. cit. p. 55

[18]- M. Foucault, Naissance de la biopolitique, op. cit., p. 258

[19] - F. Denord, Néolibéralisme, version française. Histoire d'une idéologie politique, Paris, Demopolis, 2007

[20]85 -M. Foucault, Naissance de la biopolitique, op. cit., p. 19. بالنسبة إلى الصورة المتناقضة لـ«الليبرالية المتعصبة» الحريصة على تأسيس شرعيتها على الضرورات الأمنية، انظر: MichaëlFoessel, “Légitimations de l’État. De l'affaiblissement de l’autorité à la restauration de la puissance”, Esprit, mars-avril 2015.

[21] - «الاقتصاد هو الديمقراطية التي يلعب فيها كلسنتيمدور ورقة الاقتراع؛ إنها ديمقراطية لا يتمتع ممثلوها إلا بولاية قابلة للإلغاء؛ إنها ديمقراطية المستهلكين»3L. von Mises, le Socialisme (1922), Paris, Librairie de Médicis, 1938, p. 51، إن النيوليبراليين، في بعض النواحي، أقلّ عداءً للمساواة الديمقراطية من الليبراليين الكلاسيكيين، ولكن لا مساواة لا تتجاوز البداية: المساواة أمام الحقّ في الدخول إلى نظام غير متكافئ.

[22] - حول «سراب العدالة الاجتماعية» انظر: F. A. Hayek, Droit, législation, liberté, op. cit., p. 457-461.

[23]- بشأن العلاقة بين النيوليبرالية لهايك والفردانية المنهجية للّيبراليين، انظر: Jean-Pierre Dupuy, Libéralisme et justice sociale, Paris, Hachette Littératures, 1997, p. 241-291.

[24]-.«إن الأجور التي يحدّدها السوق تتعلق، إذا جاز التعبير، من الناحية الوظيفية، ليس بما قام به الناس، ولكن فقط بما ينبغي عليهم فعله [أي ما إذا كان عليهم الاستثمار في سلعة معينة أم لا]».F. A. Hayek, Droit, législation, liberté, op. cit., p. 548 لن نبالغ كثيراً حين نقول إن الأسعار هنا تطابق القانون الطبيعي لدى لوك، أو القانون الأخلاقي لدى كانط: فهي تقيد مجال ما يجب أن يكون. لايتردد هايك أمام استنتاج من هذا القبيل، بما أنه يؤكد أن الحرية «لا يمكن فصلها عن نوع من الأجور» 554 .ibid., p، ولذلك فإن لها سعراً لا يمكن أن يُحدد إلا في السوق.

[25]- C. B. Macpherson, la Théorie politique de l'individualisme possessif. De Hobbes à Locke, Paris, Gallimard, 1971

[26] - لم يتم بالتأكيد إنشاء القانون [بما في ذلك القانون العام] لخدمة أيّ غرض قبلي، لقد تطور على العكس من ذلك؛ لأنه جعل الناس الذين يمتثلون له أكثر فعالية في السعي وراء أهدافهم الخاصة. F. A. Hayek, Droit, législation, liberté, op. cit., p. 263-264

[27] - إن النيوليبراليين المؤمنين بالتقليد النفعي معادون بشكل عام لنظرية حقوق الإنسان، التي تعدُّ «ميتافيزيقية» بشكل مبالغ فيه. مبدئياً، إن النيوليبرالية تشعر بالارتياب من حقٍّ «غير قابل للتصرف»؛ لأنه يضع حدود الدينامية للمبادلات.

[28] - هذا التأريخ لمفهوم المصلحة (السوسيولوجيا مناهضة للمذهب الاقتصادي، ونموذج العمل العقلاني)، على سبيل المثال، دافَع عنه بيير بورديو (انظر: من بين نصوص أخرى، Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, Paris, Le Seuil, 1997, p235)

[29] - Frédéric Lordon, l’Intérêt souverain. Essai d’anthropologie économique spinoziste, Paris, La Découverte, 2006

وبخصوص الاستعمالات المعاصرة لسبينوزا، انظر:

Céline Spector, “Le spinozisme politique aujourd'hui”, Esprit, mai 2007

[30] - إذا تخيّلنا أن شيئاً مشابهاً لأنفسنا، لا نحمل أيّ عاطفة، من أي نوع كانت، تجاهه، يشعر بعاطفة ما، فإننا نحس بمودة مماثلة. (Spinoza, Éthique, III,27) بخصوص المفهوم المضاد للمنفعة لدى سبينوزا، انظر:

Christian Lazzeri, “Reconnaissance spinoziste et sociologie critique, Spinoza et Bourdieu”, dans Y. Citton et F. Lordon, Spinoza et les sciences sociales, Paris, éd. Amsterdam, 2008, p 213-248

[31] - Adam Smith, Théorie des sentiments moraux, Paris, PUF, 1999, p. 23, C. Lazzeri, “Reconnaissance spinoziste et sociologie critique, Spinoza et Bourdieu”, art. cité, p.235

[32] - انظر عدد تموز/يوليو 2008 من مجلة Esprit.

[33] - هذا هو جوهر انتقاد كارل شميث لروح الليبرالية؛ حيث يرى أن التفاؤل الأنثروبولوجي (بخلاف نظرية الخطيئة الأصلية) يؤدي حتماً إلى إنكار السياسة، انظر: Carl Schmitt, la Notion de politique, Paris, Flammarion, coll. «Champs», 1999

[34]-  John Rawls, Théorie de la justice, Paris, Le Seuil, 1987, p. 29

[35]-  انظر Kant, Doctrine du droit, introduction في جوهره، ينشأ مطلب الحق من واقع التعددية البشرية، وليس من طبيعتها. يجب أن تتم تسوية مجموعة الروابط التي لا يمكن للأفراد ربطها مع بعضهم البعض بمبادئ قانونية سليمة.

[36]-  أُسُسُ حكم القانون هي: 1) حريةالإنسان، 2) المساواة أمام القانون، 3) الاستقلال الاجتماعي للأشخاص الذين يفترض أنهم أصحاب ملكية.

[37]- انظر: Kant, Théorie et pratique, op. cit., p.79.