من ضيق براديغم الإسلامويّات إلى أوساع براديغم الحداثة تقديم كتاب "إسلامويّات" لـعلي الصالح مولى


فئة :  قراءات في كتب

من ضيق براديغم الإسلامويّات إلى أوساع براديغم الحداثة تقديم كتاب "إسلامويّات" لـعلي الصالح مولى

مقدّمات

صدر مؤخّرا للأستاذ الدكتور عليّ الصّالح مولى مؤلّف مهمّ وسمه بـ: إسلامويّات: مشروع قراءة نسقيّة لظاهرة الإسلام السياسي[1]. ويشكّل هذا المؤلّف تحوّلا حاسما لا في مسيرة صاحبه فحسب، بل كذلك في المباحث المهتمّة بأطروحات الإسلام السّياسي وتحليلها بوصفها ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة ونفسيّة ودينيّة مركّبة. وقد صدر عن مسلّمة كبرى وردت مضمرة، ولكنّها وجّهت كامل البحث، مفادها أنّ الدّين واحد والتديّن لا نهائيّ، وتولّد منها أنّ الإسلام واحد ومتعدّد في آن معا. وتكثّفت كلّ تلك المعاني في صيغتيْ الجمع والتّنكير الواردتين في العنوان (إسلامويات).

ولئن كان من البداهة أنّ نشير إلى أهمية هذا المشغل في الفكر العربي المعاصر، فإنّه من القول النّافل أن نذكّر بالصعوبة التي يكتسيها هذا البحث، ومنها أنّ موضوع البحث متحرّك غير ساكن، وناقص غير مكتمل ولا متبلور بشكل تامّ، وهو أمر ممتنع فهمُه وفق القاعدة الهيجلية التي تقول بأنّنا لا يمكن أن نفهم مرحلة ما كما ينبغي، إلاّ إذا أصبحت في ذمّة التاريخ (une époque n'est pleinement comprise que lorsqu'elle appartient déjà à l'histoire). هذا فضلا عن أنّ الموضوع المدروس يمتدّ على فترة تاريخيّة واسعة، وعلى مدى جغرافيّ مترامي الأطراف، ومجال الدّرس ذو لغة مكتظّة بالرموز تصطرع فيه الأفهام والتّأويلات، وتتضارب المصالح، وتظهر وتختفي وتتغيّر من لحظة إلى أخرى.

ولتذليل تلك الصّعوبات، التزم المؤلّف تمشّيا منهجيّا دقيقا صارما يقوم على عدد من الرّكائز، هي:

1- تنزيل الأفكار والأحداث في السياقات التي أنتجتها أو ظهرت فيها؛ لأنّها تمنع من الأحكام المسقطة والمتهافتة.

2- اعتماد النصوص مادّة أولى ومباشرتها بـ"الوصف والتحليل والتفكيك والمقارنة والانتباه إلى المسكوت عنه".

3- اعتماد آلية التفصيل (micro) التي تمكن من رؤية الجزء والخاصّ والاستثناء، وتمكّن من التحقّق من خصائص الفكرة قبل اندماجها في غيرها واعتماد آلية التعميم (macro) التي تمكن من بناء رؤية عابرة للوحدات العابرة للوحدات الصغرى.

ومن الاختيارات المنهجيّة الكبرى، أن المؤلّف انصرف إلى تحليل الواقع مستعينا بالماضي باحثا فيه عن مرتكزات للحاضر. وتوخّى التدرّج في معالجة الظّاهرة، فبدأ بتفصيليّة الإسلامويّات، فتركيبيّة الإسلامويّة المعقلنة للتّأويل النابذة للتّكفير وحضارة الإيمان، الطامحة إلى براديغم الحداثة المستندة إلى مبدأ المواطنة مدخلا إلى أخلاقيّة عربيّة حديثة تقطع مع براديغم الإسلامويّة.

أمّا من جهة البناء العام للكتاب، فقد توخّى الكاتب التّدريج، إذ انطلق من نقد الإسلاميات السّائدة وتفكيك خطاباتها (الباب الأول: إسلامويّة المطابقة والانغلاق. والباب الثاني: إسلامويات التوطين، دراسة في الإمكان والاستعصاء) إلى بناء نظريّ لما بعد الإسلامويّة (الباب الثالث: الإسلامويّة وما بعده، الحدود والتجاوز)؛ فهو كتاب تفكير لا تجميع وتكرار معلومات كما هو سائد في أغلب الدّراسات الوصفيّة من هذا النّوع، وهو إلى ذلك ابن هذا الزمان، منخرط في الرّاهن، ولا يستعير لغته ومفاهيمه ومصطلحاته من الماضي ولا من سياقات أجنبيّة، بل هو يبدع مفاهيمه ومصطلحاته ويجترحها من المادّة نفسها، فلا إسقاط ولا تعسّف. وبالرّغم من فضائل هذا المؤلَّف واتّساعِ صفحاته لتفكيك نماذج وافرة من الإسلامويّات، فإنّنا نرى أنّ المسح لم يكن شاملا، إذ أغفل المؤلّف إسلامويّتين على الأقل لا يقلّ حضورُهما في الفضاء العام عن الإسلامويّات التي استدعاها، هما: الإسلامويّة الصّوفيّة والإسلامويّة الشّعبيّة أو التّلقائيّة. إنّ هاتين الإسلامويّتين بما لهما من جموع غفيرة من الأتباع، وبما يترسّخان به في الوجدان الفردي والمخيال العام، لتؤثّران شديد التّأثير في جميع وجوه حياة المجتمعات الحديثة، بل إنّها لتخترق كثيرا من الإسلامويّات التي فكّكها الكاتب.

في المفاهيم

رفض المؤلِّف التّوصيفات السّائدة للظاهرة المدروسة، من قبيل: الإسلام السّياسي (islam politique) والأصوليّة (fondamentalisme) والإسلام الحركيّ (islam activiste) والإسلام (islam) إلخ... "تجنّبا لمساوئ التوسّع في إجراء الاصطلاح على غير المخصوص له" وتجنبّا للغموض أو الالتباس بدلالات قريبة منها. وانجذب المؤلّف كما يقول، إلى اختيار مصطلح الإسلاموية السائلة، ولكنّه سرعان ما عدل عنه خشية الوقوع في الاستنساخ الشكلي لكتاب زيجومنت باومن (Zygmmunt Nauman- Liguid Modernity) الذي ترجمه حجاج أبو جبر بـ (الحداثة السائلة). وهكذا انعقد العزم على اختيار صياغة أخرى، لا تخلو من معاني السيولة، ويعني مصطلح: إسلامويّات (islamisme). وتدلّ عنده "على مجموع الأفكار والتنظيمات والممارسات التي ينتسب بها أصحابها في تاريخ العرب والمسلمين المعاصر إلى فهم معيّن للإسلام نصّا وتأويلا".

ولنا أن نسأل: لماذا الجمع بدل المفرد؟

وكان من جواب المؤلّف ما يدلّ على وعي بأنّ صيغة الإفراد تسطّح الطّابع المعقّدة والمركّب للظّاهرة، وتهمل حقيقة الجغرافيا الإسلامويّة ومكوّناتها المتنوّعة المتعدّدة. وقد عبّر عن هذه القناعة بوضوح قائلا: اخترنا صيغة الجمع؛ لأننا "نميل إلى النظر إليها باعتبارها تجاربَ وتأويلات متعدّدة (...) ولإمكان الظفر بدواعي تشكّلها وسياقات نموّها وروافد اغتنائها ومساراتها ومآلاتها". وفي سياق الرّصد التاريخيّ والحضاري، أشار الكاتب إلى السياقات التي اكتنفت نشأة الظّاهرة الإسلامويّة وانتشارها. فالإطار التاريخي والثقافي هو مسار التحديث والقوى المضادّة له، والتحقيب هو عشرينيات القرن الماضي، وفواعل الإسلامويات هي حركة الإخوان المسلمين (1928)، وما تناسل منها من جماعات وتيّارات وأفكار، ومجالها الجغرافيّ هو البلدان العربيّة والإسلاميّة.

في بنية الكتاب وموضوعه

قوام هذا المؤلّف مقدّمة وثلاثة أبواب. وقد اختصّ كلّ باب بمعالجة نوع من الإسلامويّة (المطابقة – التوطين - ما بعد الإسلامويّة)، وتفرّع كلّ منها إلى ثلاثة فصول؛ هي وجوه أو كالوجوه والتفريعات للمسألة التي يعالجها الباب، وتفصيل ما تقدّم كالآتي:

الباب الأول: إسلامويّة المطابقة والانغلاق. ويحيل العنوان نفسه على طبيعة هذه الإسلامويّة، ويتخيّر لها المؤلّف ثلاثة نماذج، هي الإسلامويّة القطبيّة (الفصل الأول) إسلامويّة الأحكام والحدود (الفصل الثاني) الإسلامويّة الشيعيّة الاثنا عشرية (الفصل الثالث).

عالج المؤلّف في الفصل الأول (الإسلامويّة القطبيّة والقياسات الشكليّة) الحاكمية بين المرجع والخصوصيّة، ونظر إليها بوصفها مشروعا للسّيادة الإلهيّة عند دعاتها، ولكنّها حين تتنزّل على أرض الواقع تستحيل مؤسّسةً لخطاب سياسيّ قهريّ. ونموذج هذه الإسلامويّة المصري سيد قطب الذي تشكلت إسلامويّته في محاضن الإخوان المسلمين، ثم سرعان ما بنى إسلامويّته الخاصّة في ستينيات ق 20. وصاغ أطروحة إصلاحيّة تغذّيها إيديولوجيا متوترة حاقدة على الغرب حقدا لا يقلّ عن مثيله على الشّرق. وموطن الخلل في تلك الأطروحة، أنّ صاحبها وقع في محذورين: استدعاء النّص الديني استدعاء انتقائيا، متجاهلا السياقات الأصليّة. ومحاولة إكراه الحاضر على مجانسة الماضي عبر تأوليّة تنهض على القياس الشّكلي، متوهّما أنّ النصّ يمكن أن يكون صالحا لكل زمان ومكان، فكان أن جمّد النصّ، وعطّل فاعليّة الواقع. وذلك بأن مارست إسلامويّته على هذا الواقع سلطة قهرية جعلته لا يخرج عن حالين محتملين: الاستجابة للنصّ فيدخل دائرة المشروع، أو معاندته والدخول في المحظور الذي ينبغي محاربته، على نحو يذكّر بفكرة سرير بروكرست التي تضمنتها الأسطورة اليونانيّة. وعلى هذا النحو، يذهب علي الصالح مولى إلى أنّ الواقع في تقدير الإسلامويّة القطبيّة بعيد عن تصوّرات النصّ، وهذا البعد هو المسؤول في العمق عن نشأة المعجم العنيف والفلسفة الراديكالية التي تمّت ترجمتها في مفاهيم الحاكميّة في المستوى السياسي والجاهليّة في المستوى الثقافي- الاجتماعي، والتكفير في المستوى الروحي العقديّ. ويضاف إلى ذلك على مستوى أعلى من التجريد، أنّ العطب الأساسي في إسلامويّة سيد قطب، عند المؤلّف، إنّما تكمن في سوء تقدير منزلة القديم من الحديث معرفة تاريخيّة ووظيفيّة. أمّا على المستوى السيكولوجي، فإنّ الإسلامويّة القطبيّة قد خضعت لمبدأ الرغبة (principe de plaisir) -طوبى الخلافة- الأوهام والأحلام، بدل الانجذاب إلى مبدأ الواقع (principe de réalité).

وكانت إسلامويّة الأحكام والحدود موضوع الفصل الثاني. وقد تنوّعت فيها المباحث كمقاربة العنف مقاربة تحليليّة نقديّة اهتمت بالسياقات والمسارات، وقوامها منهج أنثروبولوجيّ- تاريخيّ بحث عميقا في علاقة التّضحية بالعقلنة، وفي سند ظاهرة قطع الرّؤوس ووظيفتها، وفي مرجعيات الفتوى بجوازه، وفساد التأويل في تلك الفتاوى وما جنته، وما تزال، على الإنسان عبر تأصيل خارج الوعي بتاريخيّة الوقائع. وانتقل المؤلّف بعد ذلك من معالجة المجال الأنثروبولوجي والتاريخي العام إلى المجال الراّهن السياسي والدّيني والأخلاقي، فأخضع ممارسة قطع الرؤوس إلى معقولين محتملين، وهما: الجريمة والعقاب. وخلص إلى أن العنف فعل تكراري وعود أبديّ إلى بذرة التّكوين الأولى، وهو أمر يختلف فيه، كما يقول، عمّن يرى العنف سلوكا طارئا على الإنسان، ويسعى إلى تبريره خاصة إذا تعلّق بدين من الأديان. ولكن، ألا يمكن أن يكون في هذا الحكم بعض الشّطط، لما فيه من جوهرة للطبيعة الإنسانيّة وتجاهل للتاريخيّة المطلقة لكل الظّواهر؟

أيّا ما كان الأمر، فقد عبّر المؤّلف بكلّ وضوح عن موقف من الجماعات الدينية التي تبنّت ممارسة قطع الرؤوس، فوصفها بالإجراميّة؛ لأنّها تُخرج الخصومة والاختلاف السّياسي من البعد الثّقافي إلى بؤرة الإفساد في الأرض. وكان مستند المؤلّف في ذلك كلّه نصوص أعلام تلك الجماعات التي حاول تفكيك منطقها الدّاخلي، والقبض على المعقوليات التي توجّهها والمرجعيات التي تسندها، عبر البحث في السياقات التي ساعدت وتساعد على انتشار العنف؛ لأنّه مسلك ميسّر للفهم والتفسير والتفكيك، في مقابل الاشتغال مباشرة على العنف الذي لا يكون في الغالب إلاّ من أجل إدانته كما يقول المؤلّف. وفي مسعى لتفسير الظّاهرة وأسبابها، يشير مولى بإصبع الاتّهام إلى غياب العدل الذي يؤدي إلى بروز بؤر توتّر تمثلها مجموعات ترى أنها مظلومة ومنتهكة وعلى هامش المدنية، وأنّ هناك من يحاول إبقاءها في وضع الدّونيّة هذا، وهكذا تشتدّ الكراهيّة وتُستدعى النُصوص لإنطاقها، وكي تكون متّكأ للجرائم والبشاعات.

الإسلامويّة الشيعيّة الاثنا عشرية هي النموذج الموالي لإسلامويّة المطابقة والانغلاق، وعليها مدار الفصل الثالث. ركّز المؤلّف في هذا الفصل على محورين أساسيين جسّدا هاجس المطابقة وخصيصة الانغلاق في المذهب الثاني عدديّا في الإسلام، وهما: الولاية مبحثا اعتقاديّا، والحكومة الإسلاميّة مجال نظر تأصيليّ. وافترق المحوران منهجيّا إلى مشروعي بحث: تأصيل المرتكزات الفكرية، ومآلات ولاية الفقيه بعد تجسّدها في دولة "إيران الإسلامية". واجتمع فيهما الماضي والحاضر. وكان الباحث معنيّا بالحاضر حصرا، وما استدعاء الماضي إلاّ لتعميق الفهم للظاهرة أو المقولة المدروسة، لذلك كان من البديهيّ أن يخلص إلى نتائج تتعلّق بالحاضر، كما في قوله: لم ينجح الخميني في التأصيل الشرعي لمقولة ولاية الفقيه، ولا في وضع إطار مرجعيّ متين لها في مقابل الجهد الذي بذله في الإطاحة بباقي الحوزات والحثّ على الثورة للاستيلاء على الحكم، وهو ما سمح للمؤلّف بالقول إنّ أطروحة ولاية الفقيه كانت في المقام الأول مجرّد آلية لإضفاء الشرعيّة على مشروع الدولة الدينيّة. وفي مسعى لتفكيك الاستراتيجيّة الخمينية لتأسيس ولاية الفقيه الوليّ، "نبش" المؤلّف عمّا تمّ من تطويع لنصوص وفتاوى قديمة بفصلها عن سياقها المخصوص، فبيّن أنّه قد تمّ استثمار فتوى الميرزا الشيرازي وزحزحتها من سياقها وتحويلها إلى مقدمة فقهيّة متهافتة، كما استثمر كلّ الأخبار والأحاديث التي تمجد العلماء وترفعهم إلى مرتبة الأنبياء. دون أن ينجح في صياغة نظريّة متكاملة في ولاية الفقيه. وقد استدعى المؤلف المفكّر الإيراني المعاصر داريوش شايغان للإشارة إلى المآلات المحتملة للإسلامويّة الشيعيّة، وما يمكن أن يكون لها من دلالات بعيدة، وقد حصرها في نقطتين: - الثورة لم تضع ولاية الفقيه فقط على المحك، بل كذلك الدّين نفسه. – باستلام الولي الفقيه السلطة يكون قد أبان عن فشل العلمانية، التي كانت تظنّ أنها قد حصرت طبقة الكهنة وحيّدتها، فإذا بها تنبعث لاعبا وحيدا.

وختم الباحث مبحث الإسلامويّة الشيعية، صيغة ثالثة لإسلامويّات المطابقة والانغلاق، "بطمأنة" القارئ بأنّها صيغة محدودة غير قابلة للانتشار والاحتذاء بسبب موانع ذاتيّة كامنة في صلبها، فهي تشكو نقصا في التأصيل، وخصوصيّة تمنعها من أن تتحوّل إلى مثال يحتذى به.

بعد إسلامويّات المطابقة المستحيلة والانغلاق القاتل، باشر الباحث النّظر في نوع ثان من الإسلامويّات، هو إسلامويّات التوطين (الباب الثاني)، وهي إسلامويّات تتميّز بالرغبة في التكيّف مع الواقع، فلا تتجاهله أو تتعالى عليه، ولكنّها ظلّت تشكو خللا ما، منعها من الاندراج في الواقع والتناغم مع معطياته وتفاصيله. ومدار الباب على تعقّب "وجوه الإمكان والاستعصاء" في نماذج ثلاثة تمثّل موضوع بحث فصول الباب الثّلاثة.

أيّة إمكانية لإنتاج إسلامويّة متونسة؟

سؤال ترّددت أصداؤه بين جنبات الفصل الأول، وانفتح على وجهي الإجابة: النّفي والإيجاب. فقد أبدت الإسلاموية التونسية التي تزّعمها الحبيب بورقيبة كثيرا من المرونة، ودافعت عن خصوصيّة المجتمع التونسيّ. دون أن يمنعها ذلك من البحث عن أنموذج وجدته في أتاتورك، فباشرت ضربا من الاجتهاد في العلمنة، وإن اختلطت عليها أحيانا السّبل نحو الحداثة. وبالرغم من ذلك، فقد ظلّ المشروع التّمديني التّونسي محافظا على ركائز ثلاث صنعت خصوصيّته، وهي: 1- إنشاء مجلة الأحوال الشّخصية. 2- إقامة تعليم عصري يضاهي التّعليم الغربي والفرنسيّ منه خاصّة. 3- تهميش الفضاء الدّيني ورموزه الذي تجسّد في نكبة الزيتونة؛ ذلك أنّ مسار التحديث الذي آمن به بورقيبة لم يكن يسمح بوجود مسار آخر إلى جانبه مزاحم له. ولم يجرب المساران إمكانات التّعايش والحوار والتّكامل. ومهما يكن، فإنّ هذه الإسلامويّة، بالرّغم من كلّ نواقصها قد كان سياقها مساعدا على ظهور جيل من الإسلاميين تربّوا في المدارس والجامعات التي أنشأها بورقيبة لا في "معازل" فكرية وتربويّة، فنشأوا موصولين على الأقل سلوكيّا بالقيم المجتمعيّة التونسية، إلاّ أنّ التّوْنسة التّامة لإسلامويّتهم تحتاج تجاوز الخطاب وسياق النّشأة، والخطاب الإيديولوجي بمشاهده الاحتفالية الكفاحيّة، إلى بناء أطروحة فكريّة نسقيّة معقلنة.

الإسلامويّة السلفيّة هي العنوان الثّاني لإسلامويّات التّوطين المستعصي (الفصل الثاني). وقد تتبّع المؤلّف

نشأة السّلفية في تونس وملابسات سياق تلك النّشأة، وبحث في مرجعياتها، وفي إمكانات توطينها وتطوّرها وحدود تلك الإمكانات.

استند المؤلّف إلى المقاربة التاريخيّة في القول بأنّ جملة من المعطيات السّياسية والثقافية والتربويّة قد منعت من ظهور سلفيّة إيديولوجيّة في تونس. وبأنّ ثورة 14 يناير وما بعدها قد كشفت عن عدم اندماج للوجود السّلفي في المجتمع التونسي. وممّا ينسب إليه الكاتب ذلك الفشلَ عاملان رئيسيّان: الأول يتعلّق بقصور من جانب السلفية نفسها فكريّا واتصاليّا واجتماعيّا، والثاني يعود إلى المواقف الحزبيّة والأهليّة الرافضة للسّلفيّة، سمته الأبرز: تفعيل مقاصد الحرية بعد ثورة 14 يناير، والتعلّق ببناء فضاء عمومي عابر للإيديولوجيات. وقد توّج المؤلّف هذا المبحث بتسجيل مفارقةٍ في الواقع التونسي ما بعد 14 يناير: فالدستور قد أخرج السّلفيين بسبب أطروحتهم حول الحاكميّة والخلافة، ولكنّ واقع الحرّيات قد أتاح لهم مساحات حرّية واسعة للتّعبير عن أفكارهم، وقد تدفعهم هذه الفرصة الحضارية إلى مراجعة كثير من أطروحاتهم.

اختار المؤلف أن يكون الأنموذج الثالث للإسلامويّة المستعصية إسلامويّة منشدّة إلى أفق حداثي، وزاده تدقيقا، فجعل الحرية في كتابات راشد الغنّوشي عيّنة مرجعيّة له (الفصل الثالث).

بدأ المؤلّف بتنزيل الحرية في سياق الأدبيات الإسلاميّة، متوقّفا عند الآليات العتيقة التي سادت في النّظام الفكري القديم، ويعني بها الاقتباس والإسقاط، متدّرجا صوب البحث في الكتابة في الحرية عند راشد الغنوشي من جهة مرتكزاتها النظريّة ومصادره في تلقي الحرية، ملتمسا وجوه الاتّفاق والافتراق في ثلاث قضايا، هي: أ- المرأة. ب- حرية التعبير(حرية المعتقد: مسألة الردّة). ج- الأقليّات.

وجوابا عن سؤال استشرفه المؤلّف مفاده: لم اختيار الغنوشي أنموذجا على إسلامويّة التوطين؟ كان من الجواب أنّ كتابات الغنوشي تتنزّل في أفق حداثيّ، وذلك استنادا إلى ما تتضمنه كتابات الرجل من نزوع غير معهود في الإسلامويات جميعها إلى تبني القيم المعاصرة. وقد تجلّى ذلك في مسألة الحرّية التي تركّز فيها البحث. وقاد المؤلفَ سؤالٌ مفادُه: "هل تعتبر مقاربته مسألة الحرّية في الإسلام تجاوزا فعليا للمنتوج الإسلامويّ المتداول وتأسيسا لتحوّل نوعيّ فيه؟".

وفي سياق التماس الجواب، وسعيا للبحث عن إمكانية توفّر نسق يشدّ معمار إسلامويّة الغنوشيّ المنفتحة على العصر، ذهب الكاتب، كما يقول، في اتّجاهين: أ- البحث في مصادر الغنوشي في تلقّي الحرّية للقبض على ظروف النّشأة ومسارات التطور. ب– قراءة نقدية مقارنيّة للنّظر في مدى تجاوز المنتوج الإسلاموي المتداول من جهة، ومظاهر تجاوز مصادر التلقّي التقليديّة وآليات التّأويل الشّكلانيّة.

وكانت حصيلة البحث مخيّبة إلى حدّ ما، فقد انتهى المؤلّف إلى أنّ الغنوشي أقام مقدّماته النظريّة للحرّية على مرجعيّات ميتافيزيقيّة في أغلبها، نحو: أصل الخلق ووظيفة العمران ومسؤولية الإنسان في الإسلام، كلّ ذلك في إطار أطروحة عامّة، تحرص على إبراز الاختلاف، بل التّعارض مع فلسفات الغرب ومبادئه. فكان تصوّرُه للحريّة مسيّجا بمحدّدات هوويّة تنزّله ضمن الإيديولوجيا الإسلامويّة عامّة، والإخوانيّة خاصّة، بالرغم من كلّ ما بذله من جهد للتميّز منها. والسؤال الذي يفرض نفسه بداهة هو: هل كان بإمكان إسلامويّة الغنوشي أن تتجاوز المدار الإسلامويّ وتجترح تأويلات تنأى بها عنها؟

كشف البحث في هذا السؤال الذي شغل المؤلف عن "عائقين كبيرين عطّلا فاعليّة إسلامويّة الغنوشي: تأثره بالمنتج الإخوانيّ من جهة، وسقف منجزات الفكر التونسي في مجال الحرية الذي لم يتمكّن الغنوشي من تجاوزه أو معارضته إلاّ في حدود دنيا من جهة ثانية". والعائق الأكبر في نظر المؤلّف هو ذهنيّة التأصيل، ذلك أنّ هذا الهاجس يبتلع كل الطّاقة في افتكاك كلّ جهد من راهنيّته بحثا عن أصل يحتكر الحقّ والصّدق والصّواب، حتى يعترف به وبجدارته. وفكرة الأصل كما يرى الكتاب "منطقة مخاطر كبرى" تتبخّر فيها الجهود وتتحوّل في الغالب إلى ممارسات إيديولوجيّة باهتة.

بعد إسلامويّات المطابقة والانغلاق وإسلامويّات التوطين المستعصي، يتدرّج المؤلّف باحثا عن البديل الذي يُمكنه تجاوز الإسلامويّات السّابقة بما يعانقه من قيم العصر، وبما يرتاده من مدارات منهجيّة ونظريّة جديدة. إنّها إسلامويّةُ ما بعد الإسلامويّة، وعليها مدار الباب الثالث الذي تضمّن ثلاثة محاور للبحث: التكفير وسبل تجاوزه (الفصل الأول)، وتفكيك الأوهام وسبل عقلنة التّأويل (الفصل الثاني)، والمرور من براديغم الإسلامويّة إلى براديغم الحداثة عبر قيمة المواطنة الجامعة (الفصل الثالث).

في الفصل الأوّل، انطلق المؤلّف من فرضيّة أساسيّة مفادها أنّ التكفير مكوّن بنائيّ للدّيانات الخلاصيّة التي تدّعي امتلاك حقائق مطلقة، وتحمل مشروعا تغييريّا عنيدا يروم التّطبيق طوعا أو كرها. وقد انتهى إلى جملة "من النتائج من أهمّها أن الحضارات التي تقوم شرعيتها على الإيمان، وتبني هويتها على المحاكاة أو المماثلة بزعمها أنّها ظل الله في الأرض، لا تستطيع موضوعيّا إلاّ أن تكون في صدام مع الآخر؛ لأنه يمثّل الشرّ والخطأ والضلال". ومنها أيضا، ما أدّى إليه البحث السوسيو- ثقافيّ من أنّ حضارات الإيمان المغلقة سرعان ما تتشظّى إلى جماعات يلغي بعضُها بعضا بحجّة أنها على حقّ وغيرها على باطل وضلال. وبعض النّصوص الحقيقية أو المختلقة تلعب دور المؤبّد لذلك التّنافر والتشظّي الدائم، وفي هذا الأفق المعرفي يتنزّل التكفير.

ومن غير المجدي، في نظر الباحث، إلصاق تهمة التّكفير بجماعات منحرفة وإنكار دور الدين في التّشجيع على ذلك. ولا شكّ أنّ هذا في نظر مولى هو خطاب إيديولوجي محض تتبنّاه جماعات "الوسطيّة" للدّفاع عن عقيدتها. والحقيقة أنّ كليهما (التكفيريّ والوسطيّ) ينتسب إلى الدّين، ولا تعلو شرعيّة هذا على شرعيّة ذاك. وربما كانت النزعة النّصّانية/ الحرفيّة التي تنتج التّطرّف أكثر أصالة من غيرها لملازمتها النصّ وعدم مفارقته بأيّة حجة كانت.

وبدلا من الإدانة، يحسن فهم الظّاهرة، وهو أمر لا يتمّ، في رأي الباحث، دون استحضار السّياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والمحلّية والكونيّة بعيدا عن خطابات الإدانة أو التبرير، وبعيدا عن الاكتفاء باعتباره سلوكا مرضيّا، إذ إن مشاريع الحداثة المجهضة وإقحام الثقافة العربية الإسلاميّة في مجرى العولمة بصورة فجئيّة ...كلّ ذلك كان محفّزا لتكاثر جماعات التّكفير؛ لأنها تمثّل الجهات الأقلّ قدرة على التكيّف، والأكثر استعدادا للدّفاع عن "الأمة" و"الدين".

وإذا كان التكفير وهْمًا من الأوهام، ويرتكز على مقدّمات ومسلّمات وهميّة أساسها تأويل غير عقلانيّ، فقد بادر المؤلّف إلى تفكيك تلك الأوهام سعيا إلى عقلنة التّأويل (الفصل الثّاني)، وذلك عبر خطوات منها: زحزحة صورة الآخر والعلاقة معه من المصادمة إلى الحوار والتّفاعل الإيجابي معه، والتّعامل مع التراث، باعتباره منتوجا بشريّا تاريخيّا لا سماويّا مفارقا ومقدّسا. وهكذا، فقد فرض التّمشّي المنهجيّ الجمع بين النّقض والإبرام؛ أي بين البحث في معوّقات الإسلامويّة وحدودها. ومحاولة تعيين الفرص المتاحة لإنشاء أفق جديد يحرّر المعنى على نحو يتيسّر به الاندراج في الزّمن ما بعد الإسلامويّ.

يبدي المؤلّف وعيا حادّا بصعوبة بلورة الأفق الجديد الذي يشكّل مشروعا ثقافيّا ضخما يتطلّب وعيا بأن التأويليّة القديمة قد باتت مستنفدة، وهو أمر لم يتفطّن إليه المجدّدون والمصلحون منذ ق19 إلى اليوم، لذلك فشلت كل محاولاتهم التجديديّة منذ ق 19، إذ لا تجديد من أفق التّقليد.

ومن وجوه العطالة، في نظر المؤلّف، أنّ الإسلامويات تجلب المصطلحات التراثيّة، ولكنّها تظلّ محافظة على معانيها الأولى، مكتفية بالاشتغال تحت سقف العقل القياسيّ الفقهي. تلك الآلة التي انحدرت من الأفق العقليّ الذي نشأت فيه إلى قياس شكليّ تمّ استثماره في صناعة الفتوى. والمطلوب هو الخروج من عقلية الفتوى إلى مدار إنتاج المعنى، حتى يندرج الإسلام في دائرة الفعل الحضاري عبر المساهمة في بناء الإنسان المعاصر. ولا يكون ذلك إلاّ بمغادرة البراديغم القديم واعتناق برايغم جديد هو الحداثة، وبوابة هذا البراديغم هو مفهوم المواطنة بكلّ ما توحي به وتستدعيه من قيم.

الفصل الثالث (من براديغم الإسلامويّة إلى براديغم الحداثة: المواطنة مدخلا إلى أخلاقيّة عربيّة ناجعة). هو زبدة البحث وخلاصته الكبرى؛ فهو يشكّل مرحلة البناء والإبرام والبديل الذي خلص إليه الكاتب. وفيه مدّ لجسور العبور من نظام فكريّ قديم إلى نظام فكريّ حديث، ومن براديغم متآكل مستنفد إلى براديغم حديث واعد. وقد بناه المؤلّف على نحو يشي بهذا الانتقال أو الرّغبة فيه، نحو البحث في إمكانات الانتقال من الجماعة مجالا والطّاعة أخلاقا إلى الأخلاقيّة الفردانيّة ومشروع العبور إلى المواطنة، ومن الطاعة إلى العدل ومنه إلى الحرّية إلخ...

إنّ "بؤرة الضوء" التي ينشدّ إليها مشروع التّحرير عند المؤلّف هي قيمة المواطنة؛ لأنّها تمثّل إمكانا موضوعيّا يتيح للمجتمعات الخارجة من إبستيمية الجماعة والطّاعة إلى مساحات مدنيّة تلتقي فيها وتتعايش. والإطار القانوني والقيمي لتلك المساحات هو الدّولة الحديثة التي يسود فيها منطق المواطنة لا منطق المؤاخاة أو الأخوة، والتي يتمّ فيها باستمرار ابتداع "أدوات لتوزيع الأدوار وتنظيم علاقات القوة". أي التّلازم الحتميّ سببيّا وزمنيّا بين انتقال المجتمعات إلى منطق الدّولة الحديثة والانتقال آليّا إلى صيغ من العيش يحكمها على المستويْين السّياسي والاجتماعيّ التّعاقد وضوابط قانونيّة وعلاقات وضعيّة. وهذا على خلاف الفضاء القديم الذي يريد أن يتمدّد في الحاضر، ومن خصائصه رهن المقدّس للحساب الخاصّ، وابتزاز المخالف به، وهو ما ينتهي حتما إلى التّحريض على الاستبداد، ثم تبريره وإن بمفردات حداثيّة، أو تلك الصّيغة التّوفيقيّة التي تحاول اجتراح معقوليّة تنبني على معقوليّتين متنافرتين، فتقع حتما في "إشكالات معرفية ومنهجية في التّعاطي مع القيم الحديثة خاصة قيمة المواطنة" التي نشأت في سياقات وتصوّرات حول الدّولة والفرد والحرية والعيش المشترك... ومخالفة تمام المخالفة لمفهوم الجماعة وما نشأ عنه من مفاهيم وقيم.

لماذا المراهنة على قيمة المواطنة مدخلا للحداثة والعبور إلى ما بعد الإسلامويّات؟

جواب المؤلّف على هذا السّؤال أنّ المواطنة هويّة، وهي كذلك، عنده، لسببين: أ- أنّها "تتّسع للجميع وتستوعب الاختلاف والتناقض والتعدد". ب- أنّها تتجاوز أنماط العلاقات والروابط الأخرى القائمة على "معايير الدين أو الجنس أو القبيلة أو الطائفة". ومع ذلك، فإنّها لم تكن من أولويات حركات الإصلاح والإسلامويّة منها تخصيصا.

صحيح. ليست المواطنة حلاّ سحريّا لجميع أدواء العرب وفي مقدّمتها ترسّخ ثقافة الراعي والرعيّة. يقرّ الباحث بذلك. ولكنّه يعتقد، ونحن نتّفق معه تماما، أنّ غيابها تصوّرا وإجراءً وراء كثير من مشكلات العرب التاريخية والسياسية والإبداعيّة؛ فقد أدّى غياب المواطنة تصورا إلى تضخّم منزلة الحاكم على حساب المحكوم، وترسّخ أخلاق الطاعة والولاء، في مقابل انسحاق وجود الفرد المستقلّ. ونتج عن غيابها إجراءً تفقير للفضاء العموميّ من فضائل التّعايش واحترام التّعدد والاختلاف، ومن ومبدأ التّعاقد الحافظ للحقوق والحرّيات. يبدو هذا الموقف بديهيّا، ولتأكيد بداهته، يلفت الباحث النّظر إلى الظّاهرة الطاغية في هذا العصر منذ فجر النهضة العربيّة، وهي: عمليات الأسلمة والتّركيب ومحاولة التّأصيل الملتوية، فهي عمليّات ذات دلالة بالغة، وإن بصورة غير مباشرة وعلى استحياء، على اعتراف أصحابها بالحاجة إلى التخلّي عن النّظام المعرفي والقيمي القديم الذي لم يعد قادرا على فهم الواقع، ولا على تقديم حلول لمشكلاته، ولا يحتاج الأمر إلا إلى قدر من الشجاعة "حتى تصبح المواطنة هوية فوق الهويات جميعا وأخلاقيّة وضعيّة تسهم بقوة في صياغة مدخل حقيقي إلى زمن عربيّ جديد". وأما ما دون ذلك، "فلن يزيد إلاّ تأخيرا للحلّ وتأزيما للمشهد السياسي والديني والقيمي".

خلاصات واستنتاجات

نخلص في خاتمة هذا التّقديم، إلى جملة من الاستنتاجات والخلاصات، من أهمّها:

-          أنّ البحث منخرط منهجا وموضوعا في الرّاهن، وقد نأى الباحث بنفسه عن الإدانة أو الإشادة القائمتين على محض التّوصيف الكسول، والتزم، في مقابل ذلك، الصّرامة العلميّة والحياد والموضوعيّة. لذلك، فإنّ هذا المؤلَّف يخرج قارئه طوعا أو كرها من حياده، ويجبره على التّفاعل والحوار، وهو، إلى ذلك، يتميّز بالأصالة (authenticité)؛ بمعنى أنّه يصنع لغته وأدواته التّحليليّة، ورؤيته الخاصّة، وهو قطعا ليس من جنس الكتابات التي تعيد "تدوير" الأفكار والكلمات.

- أنّ الكتاب ينتسب إلى جنس من المباحث تعنى بإصلاح حياتنا الرّوحيّة، وتسديد مجالنا الاجتماعيّ وتنقية الفضاء السياسيّ عبر تبنيّ مبدأ المواطنة للخروج من المدارات المعرفيّة والإبستيمية القديمة: فضاءات التّكفير والعنف وأخلاق الطّاعة والولاء وعلاقات الرّاعي والرّعيّة؛ أي بالانتماء كلّيا إلى العصر من منطلق فهم الحداثة، واستيعاب منطقها استيعابا نقديّا خلاّقا لا يقنع بالنّقل والاستنساخ. إنّه دعوة إلى العبور نحو المستقبل، ولا عبور ممكنا إلاّ بتصفية الحساب مع نقيضه وعوائقه.

- أنّ الكاتب قد تسلّح بمناهج حديثة مكّنته من العودة إلى جذور مختلف "الإسلامويّات" والحفر عميقا في سياقات نشأتها وتتبّع تحوّلاتها ورصد مآلاتها، وهو يستعين بالماضي ويستدعيه لكشف الحاضر ومزيد فهمه؛ وذلك من أجل بناء مستقبل ما بعد الإسلامويّات و"على أنقاضها بجميع تفرّعاتها"؛ أي عبر القطيعة التي "تنهي معقوليّة زمن، وتمنح الزّمن الجديد معقوليته ومشروعيّته". وبهذا المعنى، يسوغ القول إنّ هذا الكتاب لبنة أولى في مشروع تحديثي ضخم قد يستأنفه المؤلّف نفسه، أو من يشترك معه في الرؤية عينها. وأعني بالـمشروع: براديغم الحداثة من أفق المواطنة.

[1]- علي الصالح مولى، إسلامويّات: مشروع قراءة نسقيّة لظاهرة الإسلام السياسي، تونس، مسكيلياني، ط1، 2019