منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية


فئة :  أبحاث محكمة

منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية

منهج مصطفى عبد الرازق

في دراسة الفلسفة الإسلامية

مقدمة

يتعلق موضوع هذه الدراسة بالكشف عن المنهج المستخدم من طرف مصطفى عبد الرازق في دراسته للفلسفة الإسلامية. ولهذا سنعمل على استقراء كتاباته المتعلقة بهذا الموضوع، لكي نعرف طبيعة تلك المناهج وآلياتها وخصائصها، وكيفية تطبيقها، والنتائج التي أفضت إليها. من هنا، فمجال البحث هو المناهج الحديثة المستخدمة في دراسة الفلسفة الإسلامية، وبالضبط البحث في المنهج التاريخي الذي عرف به الباحث المصري مصطفى عبد الرازق، وسعى إلى تطبيقه في دراسته وقراءته للفلسفة الإسلامية وتاريخها. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن كتاب "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" يبقى من أهم كتبه على الإطلاق، حددت الغاية منه في توضيح مذاهب ومناهج المستشرقين والإسلاميين في دراسة الفلسفة الإسلامية قصد نقدها وتقديم منهج جديد مغاير لها. فبالإضافة إلى استعمال المنهج النقدي تجاه أفكار ومناهج بعض الدارسين للفلسفة الإسلامية وتاريخها، من المستشرقين الغربيين أو المفكرين الإسلاميين، يتم اللجوء إلى المنهج التاريخي لتتبع التفكير الفلسفي في الإسلام منذ إرهاصاته الأولى مع بداية الدعوة الإسلامية، وللكشف عن أسباب وأشكال تطوره عبر مختلف المراحل التاريخية. هذا المنهج التاريخي الأساس الذي يتم من خلاله رصد الحركية التاريخية للفكر الإسلامي، وإثبات أصالته وتميزه، بينما تبقى المناهج الأخرى المستخدمة في بعض المواضع مجرد مناهج مساعدة وخادمة له. لذلك، فإن دراستنا مهتمة بهذه المقاربة المنهجية لدى مصطفى عبد الرازق، باعتباره مفكرا وباحثا صاحب مدرسة فكرية قائمة بذاتها، تبناها لاحقا أتباع وتلاميذ مثل إبراهيم مذكور وعلي سامي النشار وعبد الهادي أبو ريدا وآخرون، أخذت اسمه واستطاعت بلورة تصور يقر بوجود فلسفة إسلامية أصيلة، مرتبطة أساسا بأصول الفقه وعلم الكلام والتصوف. لقد كشف مصطفى عبد الرازق منهجيا عن جذور هذه الفلسفة وأشكال تطورها في تاريخ الإسلام، وعلاقتها بباقي المجالات المعرفية الأخرى في الثقافة الإسلامية الوسيطية. هذا ويظل الهدف الأساسي من هذه الدراسة هو الكشف عن المنهج أو المناهج التي استخدمها مصطفى عبد الرازق في دراسته للفلسفة الإسلامية؛ وذلك بالنظر في طبيعة تلك المناهج وخصائصها، والكشف عن تجلياتها وتطبيقاتها، والجديد الذي أضافته إلى الدراسات السابقة، وتبيان التعارض الحاصل في تطبيقها بين ما هو إيديولوجي وما هو معرفي، ما هو ذاتي وما هو موضوعي، ما هو تجزيئي وما هو كلي. كما سنبين ما إذا كان الأمر يتعلق بفلسفة عربية أم فلسفة إسلامية، مع توضيح مبررات اختيار هذا الاسم أو ذاك. وسنكشف أيضا عن الاختلافات الحاصلة بين مقاربة مصطفى عبد الرازق من جهة، ومقاربة المستشرقين والإسلاميين من جهة أخرى. كما سنسعى إلى الوقوف عند المفارقات والإحراجات والصعوبات المترتبة عن المقاربة المنهجية التاريخية المعتمدة من قبل الشيخ عبد الرازق، في دراسته للفلسفة الإسلامية.

وإذا كان عبد الرازق قد عرف باستخدامه للمنهج التاريخي في دراسته لتاريخ الفلسفة الإسلامية، فسنسعى عن طريق الانكباب على نصوصه وتحليلها الكشف عن باقي المناهج الأخرى التي استخدمها، وكذا الكشف عن طبيعة العلاقات الكامنة بينها، والنظر هل هي علاقات تكامل أم تنافر؟ وما هي تجليات ومظاهر استخدامه لتلك المناهج؟ وما هي النتائج التي أفضت إليها؟ وما مدى تأثير الهاجس الإيديولوجي على الدراسة العلمية التي قام بها عبد الرازق للفلسفة الإسلامية؟ وما هو مبرر تفضيل الشيخ عبد الرازق لمصطلح الفلسفة الإسلامية على مصطلح الفلسفة العربية؟ وما هو الموقف الذي اتخذه الشيخ عبد الرازق من الفلسفة الإسلامية انطلاقا من استخدامه لتلك المناهج؟ وما هو الموقف أو المواقف التي اتخذها من المستشرقين والإسلاميين في موقفهم من التراث الفلسفي العربي الإسلامي؟ وما هي رهانات وحدود المقاربة المنهجية الرازقية في دراسة الفلسفة الإسلامية؟

لمقاربة هذه التساؤلات، قسمنا هذه الدراسة إلى ثلاثة عناصر؛ عملنا في الأول منها على تحديد المفاهيم والمصطلحات الأساسية التي تنبني عليها هذه الدراسة، بينما خصصنا العنصر الثاني لعرض تصور عبد الرازق للجدلية القائمة بين المأصول والمنقول في الفلسفة الإسلامية، مع التركيز على الكشف عن المناهج التي استخدمها في معالجة هذه الإشكالية. ويتعلق الأمر بالمنهج الاستقرائي المطبق على نصوص المستشرقين من أجل الكشف عن موقفهم من الفلسفة الإسلامية من حيث إثبات الأصالة أو نفيها عنها، وهذا ما استدعى منه استخدام المنهج المقارن أيضا بين مواقفهم تجاه هذه القضية، ثم استخدامه للمنهج النقدي في إجلاء مكامن التهافت الكامنة في بعض المواقف الاستشراقية. أما العنصر الثالث، فقد خصصناه للمنهج التاريخي عند عبد الرازق، حيث بينا خصائصه وأهميته، وكشفنا عن مظاهره وتجلياته في نصوصه، لكي ننتهي أخيرا إلى إبراز رهاناته وكذا الوقوف عند حدود النتائج التي أفضى إليها، والمرتبطة أساسا بتصور المدرسة الرازقية للفلسفة الإسلامية، وقراءتها للتراث الفكري العربي الإسلامي.

أولا: تحديدات مفاهيمية واصطلاحية

سنعمل خلال هذا العنصر على تحديد دلالات أهم المفاهيم والمصطلحات الأساسية، التي سنرتكز عليها في إنجازنا لهذه الدراسة حول الفكر الرازقي. هكذا يقتضي الأمر البحث أولا في دلالة مفهوم المنهج، باعتبار أن مصطفى عبد الرازق هو صاحب منهج في الدراسة والبحث، به تميز وبه أصبح صاحب مدرسة فكرية لها مميزاتها الخاصة بها. وحيث إن المنهج الذي عرف به الشيخ عبد الرازق هو المنهج التاريخي، فإن علينا أن نعرف دلالته الاصطلاحية، وبالمثل نعرف بالمناهج الأخرى التي استخدمها عبد الرازق كمناهج مساعدة ومكملة للمنهج التاريخي الأساس، ويتعلق الأمر بالمنهج المقارن والمنهج الاستقرائي، والمنهج النقدي على وجه الخصوص. إضافة إلى تلك المناهج، لا بد من الالتفات إلى الموضوع المدروس الذي هو الفلسفة الإسلامية، والذي لا بد من تحديد دلالتها الاصطلاحية، بجانب مصطلح آخر يتداخل معها هو مصطلح الفكر الإسلامي. هكذا، يمكننا تحديد معاني ودلالات المفاهيم والمصطلحات الآنفة الذكر من خلال ما يلي:

1- المنهج

بصفة عامة، «جميع الكتب العربية التي سميت بهذا الاسم تشير إلى أن معنى المنهج أو المنهاج عند مؤلفيها هو الطريق الواضح، والسلوك البين، والسبيل المستقيم».[1] يستخدم المنهج بالمعنى العام «ليشير إلى وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة. ويستخدم في المجال العلمي بمعنى الخطة المنظمة التي تشمل العديد من العمليات الحسية والذهنية للوصول إلى قاعدة أو قانون، أو البرهنة على صحة فرض أو خطئه».[2] وإذا كان لا بد لكل باحث من أن يسلك منهجا أو مناهج محددة في دراسته لموضوع ما، فإنه يمكن القول إن المراد بمنهج البحث «الطريقة التي يتبعها العقل في دراسته لموضوع ما، للتوصل إلى قانون عام أو مذهب جامع، أو هو فن ترتيب الأفكار ترتيبا دقيقا، حيث يؤدي إلى كشف حقيقة مجهولة، أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة».[3] من هنا، فالمنهج هو بمثابة طريقة في البحث يسلكها العالم أو الدارس من أجل تحليل المعرفة أو إنتاجها، باعتماد خطوات وقواعد وإجراءات عقلية أو تجريبية محددة. وقد تختلف هذه الآليات والإجراءات حسب المجالات العلمية والمعرفية من جهة، وحسب الباحثين والدارسين من جهة أخرى. فالمنهج باعتباره «الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة»[4]، يتكون من «طائفة من القواعد العامة المصوغة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العلم».[5] انطلاقا من هذا يمكن تحديد المنهج بأنه طريقة يتبعها العالم أو الباحث من أجل دراسة موضوع معين، وتعتمد هذه الطريقة على مجموعة من الخطوات والإجراءات والأدوات التي يتعين الوقوف عندها لمعرفة طبيعة المنهج المستخدم. وحيث إن الأفكار هي نتاج لسياقات اجتماعية محددة، كما تنمو وتتطور وفق صيرورة تاريخية معينة، فإن الشيخ عبد الرازق كباحث سيحتاج في دراستها داخل السياق التداولي الإسلامي، إلى تطبيق إجراءات المنهج التاريخي عليها.

2- المنهج التاريخي

يمكن القول إن المنهج التاريخي هو «الطريق الذي يتبعه الباحث في جمع معلوماته عن الأحداث والحقائق الماضية، وفي فحصها ونقدها وتحليلها، والتأكد من صحتها وعرضها وترتيبها وتنظيمها وتفسيرها، واستخلاص النتائج والتعميمات، ولا تقف فائدته على فهم أحداث الماضي، بل تتعداه إلى المساعدة في تفسير الأحداث والمشاكل الجارية، وفي توجيه التخطيط بالنسبة للمستقبل، ويقوم المنهج التاريخي على أساس من الفحص الدقيق والنقد الموضوعي للمصادر المختلفة للحقائق التاريخية، ويستعمل في جمع المعلومات ونقدها وترتيبها وتنظيمها وتفسيرها، واستخلاص النتائج العامة منها».[6] فالمنهج التاريخي، ويسمى أيضا المنهج الاستردادي، «هو الذي نقوم فيه باسترداد الماضي تبعا لما تركه من آثار».[7] لهذا فأول خطوة ينبغي لصاحب المنهج التاريخي أن يبدأ بها هي جمع الآثار والوثائق والنصوص الدالة على الموضوع قيد الدراسة، ثم تأتي بعد ذلك الخطوة المتعلقة بتحليل ودراسة ونقد تلك الوثائق والنصوص من أجل معرفة حقيقة الموضوع المدروس، مادام أن المنهج التاريخي هو «تقرير عن صحة البيانات المتوفرة كحادثة أو ظاهرة حدثت في الماضي بالقراءة والتأمل والتحليل والنقد».[8] من هنا فإن المنهج التاريخي يعتمد على الوصف الدقيق لأحداث الماضي، بالاستناد إلى النصوص والوثائق والعمل على فحصها وتحليلها ونقدها، ثم معرفة أشكال وأسباب تطورها التاريخي، ويظل الهدف من كل ذلك هو الاستفادة منها في فهم الحاضر وبناء المستقبل. وهذا ما يتبين من خلال هذا التعريف الذي جاء فيه أن المنهج التاريخي هو «الوصف الدقيق للماضي، من أجل فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل؛ وذلك بدراسة ظواهر وأحداث الحاضر وتفسيرها بالرجوع إلى أصلها وتحديد التغيرات والتطورات التي تعرضت لها ومرت عليها».[9] لكن مادام أن الموضوع المدروس هنا هو الفلسفة الإسلامية، فإن هناك نصوصا تدل على هذه الفلسفة، وينبغي على المطبق للمنهج التاريخي أن يدرسها ويحللها وينتقدها ويربطها بالسياق التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي ظهرت فيه، وذلك حتى يتمكن من معرفة حقيقتها الموضوعية ما أمكن ذلك. وإذا كان المنهج التاريخي هنا يعتمد على دراسة النصوص لمعرفة حقيقتها، فإنه سيستنجد بآليات وأدوات منهجية أخرى لتحقيق هذه المعرفة، مثل اعتماده على استقراء النصوص وتحليلها والمقارنة بينها.

3- المنهج المقارن

المنهج المقارن «هو اصطلاح عام يشير إلى إجراءات تهدف إلى توضيح وتصنيف عوامل السببية في ظهور ظواهر معينة وتطورها، وكذلك أنماط العلاقة المتبادلة في داخل هذه الظواهر بينها وبين بعضها البعض؛ وذلك بواسطة توضيح التشابهات والاختلافات التي تبينها الظواهر التي تعد من نواح مختلفة قابلة للمقارنة».[10] فالمنهج المقارن هو أحد المناهج المستخدمة في البحث العلمي، ويعتمد على المقارنة التي هي «عملية ذهنية تقوم على ربط موضوع بآخر برابط واحد، لاستخلاص أوجه الشبه والاختلاف بينهما»[11]، وذلك من أجل استخلاص معلومات ومعارف قابلة للتحليل والتفسير، والكشف عن أسباب الاختلافات القائمة بين الأفكار أو الظواهر التي نقارن بينها، إما في سياق ثقافي واجتماعي واحد أو في سياقات ثقافية واجتماعية مختلفة. ويستخدم المنهج المقارن في مجالات معرفية عديدة، نظرا لمرونته وقابليته للتطبيق في سياقات مختلفة. كما يمكن تطبيقه بجانب مناهج أخرى، مثل المنهج الوصفي أو الاستقرائي أو التاريخي، إذ يدخل معها في علاقة تداخل وتكامل.

من هنا سنبين من خلال هذه الدراسة كيف سيوظف مصطفى عبد الرازق هذا المنهج المقارن، عن طريق اعتماده على النصوص والعمل على استقرائها واستخلاص النتائج منها، من أجل العمل على المقارنة بينها لإبراز أوجه التشابه أو الاختلاف القائمة بينها، وأحيانا رصد هذه الاختلافات بحسب الصيرورة التاريخية للأفكار وتطورها عبر الزمن.

4- المنهج الاستقرائي

الاستقراء هو «عملية ملاحظة الظواهر وتجميع البيانات عنها للتوصل إلى مبادئ عامة وعلاقات كلية».[12] فهو إذن منهج يتم فيه الانطلاق من الأجزاء من أجل الوصول إلى نتيجة كلية. ولذلك، فهو يقابل المنهج الاستنباطي الذي يتم فيه الانطلاق من فكرة كلية للوصول إلى نتيجة أو نتائج جزئية طبقا لقواعد عقلية محددة. فمن الناحية اللغوية، الاستقراء هو «التتبع، من استقرأ الأمر، إذا تتبعه لمعرفة أحواله، وعند المنطقيين هو الحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم في الجزئي»[13]، حيث يتم التوصل إلى الحكم الكلي انطلاقا من الأحكام المحصل عليها في الجزئيات. ويميز أرسطو بين نوعين من الاستقراء أحدهما كامل والآخر ناقص؛ فالاستقراء الكامل يدرس جميع أجزاء الظاهرة أو الموضوع لكي يعمم النتائج الجزئية على الحكم الكلي، وهو أمر غاية في الصعوبة لأنه يتطلب استقصاء كل الجزئيات المتعلقة بالموضوع المدروس. أما الاستقراء الناقص «فهو الحكم على الكلي بما حكم به على بعض جزئياته»[14]، مما يجعله «استقراء غير يقيني، حيث يقوم الباحث بدراسة بعض مفردات الظاهرة دراسة شاملة ثم يقوم بتعميم النتائج على الكل».[15] من هنا تختلف درجة علمية المنهج الاستقرائي بحسب طبيعة الاستقراء ونوعيته. لكن مع ذلك يظل الاستقراء من أهم المناهج العلمية التي تمتاز بدرجة كبيرة من الدقة والموضوعية، خصوصا حينما يكون مقرونا بالوصف والملاحظة والتحليل المنصب على تفاصيل الموضوع، والمؤدي إلى خلاصات عامة بصدده.

جدير بالذكر أن مصطفى عبد الرازق استخدم المنهج الاستقرائي كمنهج مكمل للمنهج التاريخي، إذ أن تتبع تطور الأفكار وتحديد علاقة بعضها بالبعض الآخر يقتضي الاعتماد على النصوص الممثلة لتلك الأفكار، ولهذا يجد الباحث نفسه هنا مضطرا لدراسة النصوص وتحليلها، مما يفرض عليه استخدام مناهج محددة في دراستها، ويعتبر المنهج الاستقرائي من المناهج التي تساعد الباحث كثيرا في تحقيق أقصى حد من الموضوعية في التعامل مع النصوص واستخراج محتواها المعرفي. وسيتجلى الأمر أكثر، كما سنرى لاحقا، مع عبد الرازق الذي يستعين أيضا في تمهيده لتاريخ الفلسفة الإسلامية بالمنهج النقدي.

5- المنهج النقدي

النقد لغة هو «تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها».[16] و«نقد العملة ميزها ونظرها ليعرف جيدها من رديئها»[17]، و«نقد الشيء بين حسنه ورديئه، أظهر عيوبه ومحاسنه [...] (و) نقد الناس أظهر ما بهم من عيوب».[18] والنقد هو «فن تمييز جيد الكلام من رديئه وصحيحه من فاسده».[19] أما اصطلاحا، فالنقد في مجال الأدب هو «تحليل القطع الأدبية وتقدير ما لها من قيمة فنية»[20]، وهو يشير إلى الملكة التي يستطيع بها الباحث «معرفة الجيد من النصوص والرديء والجميل والقبيح، وما تنتجه هذه الملكة في الأدب من ملاحظات وآراء وأحكام مختلفة».[21] لكن إذا كان النقد لا يمارس في مجال الأدب فحسب، بل يمارس في مجالات معرفية مختلفة، فإن خصائص النقد المثبتة في هذا التعريف لا تنطبق فقط على النقد الأدبي، بل تنطبق أيضا على النقد العلمي والفكري الذي سنكشف عن بعض مظاهره لدى الشيخ عبد الرازق في دراسته للنصوص الاستشراقية والنصوص الإسلامية. فالنقد في مجال الفلسفة والفكر يستهدف إبراز قيمة وحدود الأفكار والأطروحات؛ وذلك من خلال تثمين مواطن القوة فيها، وإظهار مواطن الضعف والعيب فيها، لكي يتمكن الباحث الناقد من صياغة أحكام والخلوص إلى نتائج. ومادام النقد يفرز حكما، فإنه يمكن لهذا الحكم أن يكون موضوعيا أو ذاتيا. ولكي يقترب النقد من الموضوعية أكثر ينبغي أن يرتكز على مؤشرات موجودة فعلا في النصوص التي ينصب عليها، حيث ينطلق منها الباحث ويحللها ويستخلص منها النتائج والأحكام.

هكذا يمكن القول إن المنهج النقدي هو أسلوب في ممارسة النقد على الأعمال والنصوص، فهو عبارة عن مجموعة من الأدوات والإجراءات التي يعمل الناقد من خلالها على تحليل النص الذي يتعامل معه، وبيان مواطن القوة والضعف فيه، واتخاذ موقف نقدي منه هو عبارة عن إصدار حكم تجاهه إما بالرفض أو القبول. وسنبين أثناء دراستنا لنصوص الشيخ عبد الرازق أنه يستقرئ النصوص ويستخرج منها الخلاصات المتعلقة بالأفكار والمضامين، ثم يعمل في غالب الأحيان على إعلان موقفه النقدي منها، إما بتثمين دعاويها أو تبيان ما يتخللها من نقص أو ضعف أو اضطراب تجاه الفلسفة الإسلامية.

6- الفلسفة الإسلامية

يمكن القول إن الفلسفة الإسلامية مصطلح يتركب من مفهوم الفلسفة الذي عرف عدة تعريفات، تكاد تختلف باختلاف الفلاسفة والمذاهب الفلسفية، وليس غرضنا هنا أن نحصي تلك التعاريف أو نعد بعضها، ولكننا سنكتفي بتقديم تعريف إجرائي يساعدنا على إنجاز بحثنا حول الموضوع الذي نحن بصدده، ويتمثل هذا التعريف الإجرائي في القول إن الفلسفة هي نمط من أنماط التفكير البشري في الوجود والمعرفة والقيم، يعمل على استشكالها وإنتاج تصورات وأفكار حولها بالاعتماد على لغة مفاهيمية، واستخدام أدلة وأساليب حجاجية متنوعة. أما اصطلاح "الإسلامية"، فهو منسوب إلى الإسلام كدين وكحضارة معا؛ فهو دين من الأديان التوحيدية، يحتوي على عقيدة وشريعة كان لها تأثير على المؤمنين بها، وساهم بشكل قوي في إنتاجهم لفكر وثقافة وحضارة تميزت بخصائص تداولية معينة لغوية ومعرفية وعقدية. وهذا سيجعلنا نتحدث عن مفهوم الفلسفة الإسلامية التي تدل على نمط معين في التفكير العقلي له مميزات التفكير الفلسفي المعروفة، من مفهمة وأشكلة وحجاج، لكنه يتميز بخصائص محلية مرتبطة بالبيئة العقلية والاجتماعية للمسلمين في العصر الوسيط. وبذلك، فإن «الفلسفة الإسلامية ليست خليطا من فلسفات اليونان، عربت ألفاظها بلون إسلامي، بل هي وإن استعانت بفلسفة اليونان، فلسفة قائمة بذاتها، لها مشاكلها الخاصة بها».[22] هذا ما يجعلنا نميز في الفلسفة الإسلامية بين فلسفة إسلامية ظهرت بتأثير من علوم الأوائل والفلسفات اليونانية، التي تعرف عليها المسلمون عن طريق الترجمة، فانفعلوا بها وتفاعلوا معها، وتندرج في هذا الإطار أعمال فلاسفة أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد، وبين فلسفة إسلامية كانت في أصلها عبارة عن فكر إسلامي ظهر في تربة ثقافية واجتماعية إسلامية خالصة، ثم تأثر بعد ذلك بالفلسفة اليونانية واختلط بها، لكي يصبح شكلا من أشكال الفلسفة الإسلامية التي تجد جذورها الأصلية في الثقافة الإسلامية، وإن كانت تستخدم مفاهيم واصطلاحات فلسفية يونانية، وينطبق هذا الأمر بصفة خاصة على الكلام والتصوف. وسيتبين لنا من خلال هذه الدراسة أن مصطفى عبد الرازق سيعتبر أن أصول الفقه والكلام والتصوف هي العلوم الفلسفية الإسلامية بامتياز؛ لأنها في نظره هي التي تعبر بشكل أصيل عن العقلية العربية الإسلامية، وسيحاول بمنهجه التاريخي البحث عن إرهاصاتها الأولى في اجتهادات المسلمين العقلية منذ البعثة المحمدية، ورصد أطوارها في التاريخ الإسلامي لاحقا. لكن العقلية العربية الإسلامية تدل على الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي على حد سواء.

7- الفكر الإسلامي

إذا كان «الفكر إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها. ويطلق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية، وهو مرادف للنظر العقلي والتأمل»[23]، فإن الفكر الإسلامي هو مصطلح يشير إلى مجموع النتاج العقلي المرتبط بالإسلام كعقيدة وشريعة من جهة، وبالبيئة العقلية والثقافية للحضارة الإسلامية من جهة أخرى. لهذا يرى البعض أن «الفكر الإسلامي هو المحاولات العقلية من علماء المسلمين لشرح الإسلام في مصادره الأصلية للقرآن والسنة الصحيحة؛ إما تفقها واستنباطا لأحكام دينية [...] وإما توفيقا بين مبادئ الدين وتعاليمه من جانب، وفكر أجنبية دخلت الجماعة الإسلامية من جانب آخر [...] أو دفاعا عن العقائد التي وردت فيه، أو ردا لعقائد أخرى مناوئة لها»[24]، مما يعني أن الفكر الإسلامي هو فكر يشمل أصول الفقه وكل العلوم الدينية المرتبطة به، باعتباره علما يستنبط الأحكام من النصوص الشرعية، كما يشمل علم الكلام الذي يسعى إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية بالحجج العقلية، ويشمل الفلسفة الإسلامية التي عمل أصحابها على التوفيق بين الدين والفلسفة. أيضا، يضم مصطلح الفكر الإسلامي عموما «كل ما أنتجه العقل المسلم من مفاهيم مرتبطة بعملية التحليل والاستدلال من المرجعية الثابتة للمسلمين (الكتاب والسنة)، في المعارف الكونية التي تتصل بالكون وخالقه والمجتمع والإنسان ومحاولة ذلك العقل نقل الوحي من حالة الكمون والسكون إلى الحركة والتغيير والبناء».[25] وبالرغم من شمولية هذا التعريف، فقد «أصبح مصطلح الفكر الإسلامي يرتبط بالدراسات التي تعنى بالعقيدة والدفاع عنها، ودراسة الأديان والفلسفة وعلم الكلام والدراسات القرآنية المتخصصة بالمصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالحركة الفكرية، وكذلك ارتبط بالفكر الإسلامي دراسات الفرق والمدارس الكلامية والملل والنحل والتاريخ الذي يؤرخ لنشوء الأفكار والفرق والمذاهب، ويرتبط بالفكر الإسلامي كذلك تطور العلوم والدراسات المعاصرة والمفاهيم والأفكار السائدة في العصر الحديث وما تثيره من تحديات ومشكلات فكرية تواجه المفاهيم الدينية والإسلام على الخصوص».[26]

يتبين من هذا أن الفكر الإسلامي هو مصطلح شامل للحياة العقلية والفكرية للمسلمين، والتي ترتبط عموما بالمبادئ العقدية والأخلاقية الموجودة في النصوص الدينية الإسلامية التأسيسية، وعلى رأسها القرآن والسنة. وقد اختلط هذا الفكر بالعلوم والثقافات والفلسفات الأجنبية، فكان له معها علاقات أخذ وعطاء وتأثير وتأثر. ولهذا فالفلسفة الإسلامية بالمعنى الحصري والضيق؛ أي تلك التي يمثلها فلاسفة الإسلام أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، ليست سوى جزء من الفكر الإسلامي ككل؛ فهو يحتويها دون أن تستطيع هي احتواءه. لهذا فالفلسفة الإسلامية، بالمعنى الأخير المشار إليه، هي فكر إسلامي ولا شك، إلى جانب أشكال أخرى من هذا الفكر ليست بالضرورة فلسفة إسلامية بالمعنى الخاص المشار إليه، غير أن الشيخ مصطفى عبد الرازق في تصوره للفلسفة الإسلامية، يطلق هذا المصطلح الأخير على علم أصول الفقه وعلم الكلام الإسلاميين، مما يثير التداخل الحاصل لديه بين مصطلحي الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، فيشملان نفس المعنى عنده. وإذا كان الكلام وأصول الفقه، كما سيتبين من خلال هذه الدراسة، هما الممثلان للفلسفة الإسلامية الأصيلة حسب عبد الرازق، فإن اختلاطها بالمؤثرات الفكرية الأجنبية وفي مقدمتها الفلسفة اليونانية، وظهور فلسفة إسلامية تشرح وتلخص وتتفاعل مع الفلسفة اليونانية أخذا وعطاء، وهو ما تجسد في نصوص الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد وغيرهم، سيثير جدلية العلاقة بين المأصول والمعقول في الفكر الإسلامي، وسيطرح مشكلة البحث عن الفكر الحقيقي الممثل للفلسفة الإسلامية الأصيلة والمبدعة. وهذا ما سنحاول معالجته في العنصر الثاني من هذه الدراسة، بالتحليل والنظر والتأمل في نصوص فكر الشيخ مصطفى عبد الرازق.

ثانيا: المقاربة المنهجية الرازقية وجدلية المنقول والمأصول في التراث الفكري الإسلامي

يمكن القول إن تصور المستشرقين الأوروبيين للفلسفة الإسلامية يظل في عمومه محكوما بالمركزية الأوروبية، منها ينظر إلى المنتوج الفكري الموجود في الحضارات الأخرى ويقيمه. لكن مع ذلك، ومن أجل الإنصاف، لابد من التمييز هنا بين مستشرقين نفوا عن الفلسفة الإسلامية الأصالة والإبداع، ومستشرقين اهتموا بدراسة بعض النصوص لمفكرين وفلاسفة ومتصوفة إسلاميين، وأكدوا على ما تحتويه تلك النصوص من أصالة وإبداع، وهو ما سنوضحه في فقرات هذا العنصر. كما سنبين من خلالها، الآليات المنهجية التي استخدمها عبد الرازق أثناء تعامله مع النصوص الاستشراقية، سواء من خلال وصفه واستقرائه لها، أو مقارنته بين الآراء الثاوية فيها، أو العمل على نقد بعض تلك الآراء وتبيان منزلقاتها وأوجه القصور فيها. وخلال ذلك سنثير إشكالات تتعلق أساسا بقضية المنقول والمأصول في التراث الفكري الإسلامي، ومسألة التسمية الخاصة بهذه الفلسفة هل هي عربية أم إسلامية، وعلاقة الفلسفة بالدين، إضافة إلى تبيان الكيفية التي عمل من خلالها عبد الرازق على التأصيل تاريخيا للمنتوج الفلسفي الإسلامي، مع توجيه اهتمامنا أثناء إثارتنا لكل هذه القضايا والإشكالات إلى الآليات التي استخدمها عبد الرازق في معالجتها.

1- الموقف الاستشراقي بين نفي الأصالة وإثباتها للفلسفة الإسلامية

إن الناظر فيما آلت إليه الدراسات الاستشراقية من مواقف تجاه الفلسفة العربية الإسلامية، يمكنه التمييز بين تصورين رئيسيين؛ يذهب أحدهما إلى أن الفلسفة الإسلامية هي مجرد فلسفة منقولة تدور في فلك الفلسفة اليونانية وتكتفي بشرحها وتلخيصها، وهذا ما تجسده الأطروحة الاستشراقية التي نزعت الأصالة عن الفلسفة الإسلامية التي يمثلها فلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، حيث إن هناك مستشرقين أمثال إرنست رينان ينظرون إلى الفلسفة الإسلامية كمجرد "فلسفة يونانية مكتوبة بحروف عربية"، وينظرون إلى فلاسفة الإسلام كمجرد ناقلين ووسطاء لا أقل ولا أكثر. فنحن نجد المستشرق الفرنسي إرنست رينان يرى «أنه لا يوجد ما نتعلمه، أو تقريبا ما نتعلمه من ابن رشد، ولا من العرب، ولا من القرون الوسطى [...] وليس العرق السامي هو ما ينبغي لنا أن نطالبه بدروس في الفلسفة [...] ولم تكن الفلسفة لدى الساميين غير إعارة خارجية خالصة خالية من أية خصوبة، غير تقليد للفلسفة اليونانية».[27] كما نجد المستشرق الهولندي دي بور[28] (1866-1942) يصدر حكما قاسيا على الفلسفة الإسلامية، فينزع عنها القدرة على الإبداع والابتكار، ويعتبر أنها لا تتجاوز مستوى النقل والاقتباس من الفلسفة اليونانية؛ ففي نظره «ظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة انتخابية عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق، ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهما وتشربا لمعارف السابقين، لا ابتكارا، ولم تتميز تميزا يذكر عن الفلسفة التي سبقتها، لا بافتتاح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة، فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها لها».[29] وفي مقابل هذا الموقف، نجد موقفا آخر يثبت الأصالة للفلسفة الإسلامية، ويتعامل مع نصوصها بموضوعية ليكشف فيها العديد من مواضع الجدة والتفرد لا نجدها في الفلسفة الإسلامية، مثل ما فعل بعض الباحثين الإسلاميين أو ما قام به بعض المستشرقين أنفسهم أمثال إتيان جيلسون[30] وجون جوليفي.[31] ومادام أن دراستنا هذه تتغيا في المقام الأول الوقوف عند الآليات المنهجية المستخدمة في دراسة مصطفى عبد الرازق للفلسفة الإسلامية، فإنه يمكننا القول إنه اعتمد في تناوله لموقف المستشرقين من الفلسفة العربية الإسلامية، على ثلاث آليات منهجية رئيسة؛ استقرائية ومقارنة ونقدية. ويمكن توضيح ذلك من خلال ما يلي:

1-1 الآليات المنهجية لاستقراء النصوص الاستشراقية

جاء مصطفى عبد الرازق بنصوص لمستشرقين أمثال المستشرق الألماني "تنمان"[32] (ت.1819) والمستشرق الفرنسي "رنان"[33] (ت.1892) وآخرين، وعمل على استقراء وتجميع ما يوجد فيها من آراء وأفكار تخص موقفهم من الفلسفة الإسلامية. وبعد عرضها بشكل موثق وموضوعي، عمل على مقارنة بعضها بالبعض الآخر، مما يعني هنا المزاوجة بين المنهج الوصفي الاستقرائي من جهة، والمنهج المقارن من جهة أخرى. كما أنه يبدي ملاحظاته النقدية على تلك الآراء الاستشراقية، مما يعني استخدامه للمنهج النقدي أيضا. وبطبيعة الحال، فاستخدامه لهذه المناهج الثلاثة في البحث والدراسة يتم باعتماد التطور والتسلسل التاريخي للأفكار، مما يعني أنها خادمة للمنهج التاريخي الرئيس. ونحن نعتبر أنه لا يوجد أي تنافر بين استخدامه لكل هذه المناهج، إذ نحسب أن بينها تكامل وتآزر، وتمكن جميعها الباحث من بلوغ الغاية التي يستهدفها من دراسته.

لقد استخرج مصطفى عبد الرازق من نصوص تنمان قوله بأن الفلسفة العربية «ليست في الغالب إلا شرحا مضعفا لمذهب أرسطو ومفسريه، وإلا تطبيقا لهذا المذهب على قواعد الدين العربي».[34] وقوله أن للعرب استعدادا للتأثر بالأوهام، وأنهم كانوا خاضعين لسلطان الفلسفة الأرسطية. ويعلق الباحث عبد الرازق على هذا الموقف الاستشراقي لتنمان بالقول إنه صادر عن نفحة دينية مسيحية كانت سائدة في ذلك العصر، ليس عند المستشرقين فقط، وإنما عند بعض مؤرخي الفلسفة أيضا. وهنا يستشهد عبد الرازق بنص لمؤرخ الفلسفة الفرنسي "فكتور كوزان"[35] جاء فيه: «المسيحية التي هي آخر ما ظهر على الأرض من الأديان، هي أيضا أكملها [...] الدين المسيحي ناسخ لجميع الأديان».[36] فالمسيحية في نظر "كوزان" هي التي أنتجت الحرية والحكومات الديمقراطية والفلسفة الحديثة، بينما لم ينبثق عن باقي الأديان سوى الانحلال والاستبداد.

فضلا عن النفحة الدينية المسيحية، فقد كان هناك سبب آخر وراء الموقف المتعصب والسلبي للاستشراق من العقل العربي والفلسفة العربية الإسلامية، وهو المتمثل في ما سماه الشيخ عبد الرازق بالتعصب الجنسي الذي يميز بين الجنسين أو العرقين الآري والسامي، ويجعل الأول أكثر تفوقا على الثاني من حيث القدرة على الإنتاج العلمي والفلسفي. وقد كان المستشرق "إرنست رينان" من أكبر المدافعين عن هذا الرأي، مما جعله يجسد موقفا سلبيا من الفلسفة الإسلامية ويعتبرها مجرد فلسفة يونانية مكتوبة بحروف عربية، فهي بهذا مجرد تقليد واستنساخ لها.

بعد أن استخرج مصطفى عبد الرازق هذا الموقف الاستشراقي المتعصب والمتحيز، من خلال الوصف الاستقرائي المنكب على النصوص، سيتخذ موقفا نقديا رافضا له، إذ اعتبر أن «رأي رينان في الفلسفة عند العرب لا يخلو من اضطراب»[37]، وأن فيه الكثير من الحماسة والهوى والتناقض، خصوصا وأنه يتحدث من جهة عن فلسفة عربية هي مجرد تعريب للفلسفة اليونانية، ويتحدث من جهة أخرى عن فلسفة إسلامية حقيقية وأصيلة موجودة في كتابات المتكلمين. وهذا الموقف الريناني هو الذي دفع الشيخ عبد الرازق إلى القول إن رينان «كان فيما يتعلق بالفلسفة شديد الشكيمة على ما سماه "فلسفة عربية"، لكنه ألين جانبا لما دعاه "فلسفة إسلامية"».[38]

نحن نرى أن ما قاله رينان هنا صادف هوى في نفس مصطفى عبد الرازق، حيث إننا نجده هو الآخر سيسعى إلى إثبات أصالة التفكير العقلي والفلسفي الإسلامي في مجال الاجتهاد الفقهي والجدال الكلامي، واللذين ظهرا مبكرا في تاريخ الإسلام قبل التعرف على الفلسفة اليونانية لاحقا عبر الترجمة. فالفلسفة الإسلامية الأصيلة تشتمل بالدرجة الأولى، حسب عبد الرازق، على علم الكلام وعلم التصوف وعلم أصول الفقه. وهذا ما يتضح من قوله: «وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما، فإن "علم أصول الفقه" المسمى أيضا "علم أصول الأحكام" ليس ضعيف الصلة بالفلسفة».[39]

إذا كان شيخنا عبد الرازق قد استخدم المنهجية الوصفية الاستقرائية لنصوص المستشرقين، حيث انطلق مما يوجد فيها من أفكار جزئية ومتعددة لكي يستخلص منها موقفا عاما من الفلسفة الإسلامية، فإنه سيعمل بالمقابل، على المقارنة بينها لكي ينظر هل يتعلق الأمر برأي واحد لدى جميع المستشرقين أم إن الأمر يتعلق بأكثر من رأي.

1-2 المقارنة بين آراء المستشرقين

يستخدم مصطفى عبد الرازق المنهج المقارن من خلال استحضاره لرأيين أو أكثر ومقارنته بينها، وهو غالبا ما يأتي بالنصوص المعززة لكل رأي، ثم يبدي ملاحظاته بخصوص أوجه التشابه أو الاختلاف الموجود بينها. وفي هذا السياق، نجده يقارن بين آراء المستشرقين تجاه الفلسفة العربية الإسلامية، ويظهر ذلك من خلال استخدامه لعبارات من قبيل قوله: «ومنك[40] إذ يقول... يخالف قول تنمان...»، وقوله: «ولمنك رأي مخالف لرأي رينان...»، وقوله «ومقال منك هذا يناقض رأي رينان...»، وما شابه ذلك. فنحن نجد عبد الرازق هنا يقارن بين رأيين استشراقيين متعارضين؛ أحدهما يقر للفلسفة العربية بالأصالة والإبداع والتنوع في العطاء، ويعترف للعرق السامي بالقدرة على الإنتاج العلمي والفلسفي، والآخر يصف الفلسفة العربية بالتقليد والاجترار، ويسلب على العرق السامي القدرة على الإبداع العقلي والفلسفي.

بعد أن اعتمد على نصوص المستشرقين والغربيين في تبين مواقفهم من الفلسفة الإسلامية، انتهى مصطفى عبد الرازق إلى تبني موقف رأى من خلاله أن الفلسفة الإسلامية ليست مجرد نسخة حرفية للفلسفة اليونانية أو لفلسفة أرسطو على وجه الخصوص، بل إن لها خصوصية وتميز، حيث إنها تجمع في ذاتها عناصر أجنبية متنوعة يونانية وغير يونانية من جهة، كما أنها تتضمن من جهة أخرى لمسات إبداعية ناتجة عن العبقرية الإسلامية، والتي تجلت في نقد وتصحيح وإضافة العديد من الأمور إلى الفلسفة اليونانية، وأيضا في معالجة الإشكالية المتعلقة بالصلة بين الحكمة والشريعة، فضلا عما زخرت به فلسفة المتكلمين من إبداعات في إطار جدالاتهم الكلامية ودفاعهم عن العقيدة الإسلامية. هكذا يعبر الشيخ عبد الرازق عن تصوره لحقيقة الفلسفة الإسلامية بقوله: «إن للفلسفة الإسلامية كيانا خاصا يميزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مفسريه: فإن فيها عناصر مستمدة من مذاهب يونانية غير مذهب أرسطو، وفيها عناصر ليست يونانية من الآراء الهندية والفارسية... إلخ؛ ثم إن فيها ثمرات من عبقرية أهلها ظهرت في تأليف نسق فلسفي قائم على أساس من مذهب أرسطو، مع تلافي ما في هذا المذهب من النقص باختيار آراء من مذاهب أخرى وبالتخريج والابتكار، وظهرت أيضا في أبحاثهم في الصلة بين الدين والفلسفة».[41]

هكذا أظهر عبد الرازق، من خلال آلية استقراء النصوص وآلية المقارنة بين الآراء، موقفا سلبيا من الفلسفة الإسلامية سلب عنها القدرة على الإبداع الفلسفي، ثم عمل على نقد هذا الموقف وتبيان تهافته كما تبينه الفقرات أسفله.

1-3 نقد الموقف الاستشراقي من الفلسفة الإسلامية

نجد في الصفحة 18 من كتاب "تمهيد لتاريخ الفلسفة" فقرة معنونة بـ "نقد رأي رينان". وفيها يعرض الشيخ عبد الرازق لموقف رينان من الفلسفة العربية، لكي ينتقده فيما بعد. ويتلخص هذا الموقف لدى رينان في القول إنه من الخطأ الحديث عن "فلسفة عربية"؛ لأنها لا تعدو أن تكون فلسفة يونانية مكتوبة بلغة عربية، وأنها لم تنتعش وتتطور إلا على أيدي أشخاص ليسوا بعرب ولا ينتمون إلى العرق السامي، فضلا عن ازدهار هذه الفلسفة في مناطق بعيدة عن بلاد العرب مثل إسبانيا ومراكش وسمرقند. لكن بالرغم من أن رينان ينعت الفلسفة العربية بالتقليد وعدم الأصالة، فإنه في مواضع أخرى يذهب إلى أن العرب اتخذوا من آراء أرسطو وقراءتهم لها وسيلة لإنشاء فلسفة خاصة بهم، وأن «الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تلتمس في مذاهب المتكلمين».[42] وهذا ما جعل مصطفى عبد الرازق يلاحظ في موقف رينان نوعا من التناقض والاضطراب وعدم التماسك، واقتنص منه اعترافه بوجود فلسفة إسلامية أصيلة، وثيقة الصلة بالمقومات الخاصة بالمجال التداولي الإسلامي.

في معرض نقده لموقف رينان من الفلسفة العربية، يستنجد الشيخ عبد الرازق بآراء لمستشرقين آخرين ينتقدون رينان ويجسدون موقفا مخالفا له. ومن بين هؤلاء المستشرق الفرنسي غوستاف دوجا[43] الذي يرى في الأحكام الصادرة عن رينان وأمثاله تجاه الفلسفة العربية الكثير من الحيف ومجانبة الصواب، إذ هي «أحكام تذهب في البت إلى حد الشطط، ومصدرها سوء التحديد للفلسفة وجهلنا بما للعرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو. وما أسوق إلا شاهدا واحدا: فهل يظن ظان أن عقلا كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئا طريفا، وأنه لم يكن إلا مقلدا لليونان؟ وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثمارا بديعة أنتجها الجنس العربي؟»[44] هذا الموقف الإيجابي الذي عبر عنه المستشرق غوستاف دوجا هو الذي نجد مصطفى عبد الرازق يتبناه، حينما يعتبر أن الفلاسفة المسلمين لم يكتفوا بشرح أرسطو، بل قدموا إضافات إلى فلسفته، وتأثروا بفلسفات أخرى غير فلسفته، وانطلاقا من ذلك أبدعوا نسقهم الفلسفي الخاص. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى موقف المستشرق إتيان جيلسون من الفيلسوف ابن سينا الذي أثار اهتمامه حينما كان يبحث في فلسفة العصر الوسيط، حيث اعتبر «أن اسمه معروف عند كل الفلاسفة المسيحيين في القرن الثالث عشر الميلادي. وحتى وإن تم اعتباره خصما، فإنه يظل خصما محترما بسبب القوة التي يمتلكها، والتي يحسب لها حسابها. فهو في الواقع، اسم كبير في مجال الفلسفة».[45] كما ذهب جيلسون إلى أنه إذا تأملنا «في تاريخ المشكلة المتعلقة بالوجود نجد اسم ابن سينا يحضر بشكل مباشر في الذهن، باعتباره سلفا لطوماس الأكويني».[46] وقد بين جيلسون إسهامات ابن سينا المهمة المتعلقة بمفهوم الماهية وعلاقتها بالوجود، حيث اعترف لابن سينا بالأصالة واعتبر تصوره لهذه العلاقة مخالفا لأفلاطون وأرسطو معا. فقد ميز ابن سينا في الماهية بين ثلاثة مستويات؛ الماهية في ذاتها، والماهية وهي منخرطة في الموجودات الفردية، والماهية من حيث هي موجودة في العقل.[47] كما تجاوز الثنائية الأرسطية لكي يقول إن الماهية ليست في ذاتها كلية وليست جزئية، وقد يعرض لها أن تكون كلية أو جزئية؛ فالحيوانية مثلا ليست في ذاتها كلية، لأنها لو كانت كذلك لما كان هناك حيوان متشخص. كما أنها ليست في ذاتها متشخصة؛ لأنها لو كانت كذلك لكانت متشخصة في حيوان ما وغير متشخصة في حيوان آخر. من هنا نجد أن مواقف استشراقية تعاملت بالكثير من الحس العلمي والموضوعي مع النصوص الفلسفية الإسلامية، باعتبارها نصوصا تنتمي إلى التاريخ الفلسفي البشري العام، واعترفت بما يوجد فيها من أصالة وإبداع نابع من اجتهادات الفلاسفة المسلمين.

إذا كان إرنست رينان يجعل الفلسفة العربية الإسلامية مجرد فلسفة شاحبة من الفلسفة اليونانية، وأنها مجرد فلسفة ناقلة وخادمة للفلسفة الأوروبية، فإننا نجد الباحث المغربي علي بنمخلوف يعتبر على العكس من ذلك «أن تحليل النصوص الفلسفية والتشريعية يبين أن الفلسفة العربية ابتكرت من جانب نموذجا إرشاديا جديدا للفكر، لا يمكن اختزاله إلى الفلسفة اليونانية، ومن جانب آخر يبين أن الشريعة قد شهدت تراكما تشريعيا يحمل بصمات التاريخ». [48]كما بين علي بنمخلوف أن الشرح نفسه الذي قام به الفلاسفة العرب، ولاسيما ابن رشد، لفلسفة أرسطو كان فيه إبداع؛ فهناك التلخيص، والشرح الوسيط، والشرح الكبير. وهذا ما جعله يعتبر «أن الشرح كان خالقا للفلسفة».[49] وقد أثبتت الأبحاث المعاصرة المتعلقة بابن رشد، حسب بنمخلوف، أن هناك إبداعا في الأسلوب الذي استخدمته الفلسفة العربية في تعاملها مع الفلسفة اليونانية.[50] أما بالنسبة إلى مصطفى عبد الرازق، فإذا كان الفلاسفة المسلمون قد قدموا بعض الإبداعات في شروحاتهم وتأويلاتهم وقراءاتهم للفلسفة اليونانية، فإن العلوم الإسلامية الأخرى، كعلم الكلام والتصوف وعلم أصول الفقه، تظل علوما أصيلة، وممثلة لفلسفة إسلامية هي نتاج للعبقرية الإسلامية في تفاعلها مع الوحي الإلهي من جهة، ومع بيئتها الثقافية والاجتماعية من جهة أخرى. وهذه الفلسفة هي ما يمثل المأصول الفكري الفلسفي الإسلامي الخالص، دون أن يعني هذا طبعا نزع أي أصالة عن الفلسفة الإسلامية الأخرى الممثلة في فلاسفة مسلمين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد وغيرهم. وبالتالي، فإن اختلاط المنتوج الفكري الإسلامي بالمنتوج الفكري الأجنبي، سواء على مستوى المواضيع والقضايا أو على مستوى المناهج والآليات الاستدلالية، سيطرح مشكلة أصالة المنتوج الإسلامي والتمييز فيه بين ما هو دخيل وما هو أصيل؛ أي بين ما هو منقول وما هو مأصول.

2- بين المنقول والمأصول في التراث الفكري الإسلامي

قبل التطرق في الفقرات التالية ليس فقط إلى إشكالية المنقول والمأصول في الإنتاج الفلسفي الإسلامي عند عبد الرازق، وإنما أيضا إلى التأصيل التاريخي للمنتوج الفلسفي الإسلامي، نود أن نشير باختصار شديد إلى مكونات التراث الإسلامي وحيثياته، ثم إلى الموقف الرازقي من التسمية التي ينبغي أن ننعت بها المنتوج الفلسفي العربي الإسلامي، وما إذا كان علينا الحديث عن فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية.

2-1 عن التراث الفكري الإسلامي

حينما نتحدث عن التراث الفكري الإسلامي، فإننا ندل به على ما وصلنا عن المسلمين السابقين من منتوج فكري، سواء اتخذ هذا المنتوج طابعا فلسفيا أو دينيا، وسواء ارتبط بالعلوم العقلية أو ما كان يسمى بعلوم الأوائل، أو ارتبط بالعلوم الدينية التي تشتغل تحت سقف النص الديني مثل أصول الفقه والكلام والتصوف. فقد أنتج المسلمون في عهدهم الزاهر أنواعا عديدة من العلوم والمعارف، منها العقلية والنقلية، الفلسفية والدينية، حيث كانت بعض ألوان هذه المعارف والعلوم إنتاجا إسلاميا خالصا، انبثقت عن تربة ثقافية واجتماعية خاصة بالمسلمين، تمثلت من جهة في القرآن الكريم والسنة النبوية كمصدرين أساسيين لهذه العلوم، وتمثلت من جهة أخرى في الملابسات التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية التي نمت فيها هذه العلوم والمعارف وترعرعت. وينطبق هذا الأمر على العلوم الدينية بصفة خاصة، مثل الفقه والحديث والكلام والتصوف وما إلى ذلك، غير أن هذه العلوم نفسها قد تأثرت بالعلوم العقلية الدخيلة على الثقافة الإسلامية، ولاسيما مع بداية ترجمة علوم الأوائل وانفتاح الحضارة الإسلامية على باقي الحضارات الأخرى أثناء الفتوحات الإسلامية، مما جعل المأصول من العلوم الإسلامية يتداخل مع المنقول من العلوم الأجنبية. أضف إلى ذلك ظهور منتوج إسلامي منطقي وفلسفي من جراء التأثير المباشر لعلوم الأوائل وللفلسفة اليونانية على وجه الخصوص. وكل هذا يطرح مسألة جدلية المأصول والمنقول في المنتوج الفكري والفلسفي الإسلامي في العصر الوسيط.

أما مصطفى عبد الرازق، فقد تحدث عن فلسفة إسلامية أصيلة، تمثلت في المنتوج الفكري الفقهي والكلامي الذي ظهر في البيئة العقلية الإسلامية قبل أن يتعرف المسلمون عن الفلسفة اليونانية. وإذا كنا نعلم أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالمنطق، وأن الكلام والتصوف قد اختلطا بالفلسفة، فإن هذا سيجعل الباحثين والدارسين، سواء من المسلمين أو من غيرهم، يختلفون في التمييز بدقة بين ما هو مأصول وما هو منقول في المنتوج الفكري العربي الإسلامي. لهذا السبب سنعمل في ما يلي على تسليط الضوء على مقاربة مصطفى عبد الرازق القائلة بوجود فلسفة إسلامية خالصة وأصيلة، انطلاقا من تأصيله التاريخي للمنتوج الفكري الإسلامي، وتسليط الضوء على مبررات تفضيله لتسمية الفلسفة الإسلامية على تسمية الفلسفة العربية.

2-2 فلسفة إسلامية أم عربية؟

يتبدى المنهج المقارن عند مصطفى عبد الرازق أيضا في مقارنته بين مختلف الآراء حول التسمية المناسبة للإنتاج العقلي في الحضارة العربية الإسلامية، وما إذا كانت التسمية المناسبة لهذا الإنتاج العقلي الفلسفي هو أن نقول عنه إنه يمثل فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية. ويقدم الشيخ عبد الرازق، في هذا السياق، موقفين متعارضين أحدهما يتبنى التسمية الأولى والثاني يتبنى التسمية الثانية، ويعرض للحجج والمبررات التي يستند إليها كل فريق.

من المتبنيين لتسمية "فلسفة عربية" نجد موريس دي ولف[51] وإميل برييه[52] ولطفي باشا السيد؛ وذلك من منطلق أن أصحاب هذه الفلسفة كانوا يكتبون ويعبرون عن أفكارهم باللغة العربية. أما الذين يتحدثون عن "فلسفة إسلامية"، فنجد منهم هورتن[53] ودي بور[54] وجوتييه[55] وكارا دي فو[56]، وغيرهم. وحجتهم في إطلاق هذه التسمية هو أن معظم من ألف في هذه الفلسفة لم يكن عربيا، وأن هؤلاء المفكرين جميعا عربا أو غير عرب كانوا متأثرين بالديانة الإسلامية، وواقعين تحت تأثير الحضارة الإسلامية.

يدلي الشيخ عبد الرازق بدلوه في هذا الخلاف الدائر حول التسمية، ويتبنى تسمية الفلسفة الإسلامية؛ وذلك تحت مبرر أن «هذه الفلسفة قد وضع لها أهلها اسما اصطلحوا عليه فلا يصح العدول عنه، ولا تجوز المشاحة فيه».[57] وهو يقصد اسم "الفلسفة الإسلامية". أما أهلها، فيقصد بهم الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين القدماء الذين تحدثوا عن هذه التسمية وتبنوها في كتبهم. ومن أمثال هؤلاء يذكر عبد الرازق؛ ابن سينا الذي تحدث عن "المتفلسفة الإسلامية"، والشهرستاني وابن خلدون اللذين استعملا تعبير "فلاسفة الإسلام"، وأبا الحسن البيهقي الذي سمى كتابا له ب "تاريخ حكماء الإسلام"، وشمس الدين الشهرزوري الذي تحدث عن "تاريخ الحكماء من الإسلاميين". انطلاقا من هذا، خلص مصطفى عبد الرازق إلى نتيجة رأى من خلالها أن علينا «أن نسمي الفلسفة التي نحن بصددها كما سماها أهلها "فلسفة إسلامية"، بمعنى أنها نشأت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، من غير نظر لدين أصحابها ولا لغتهم، ولا نرى في هذه التسمية موضع نقد يدعو للتفكير في تبديلها».[58]

يبدو لنا أنه، سواء تعلق الأمر بفلسفة عربية أو بفلسفة إسلامية أو حتى بفلسفة عربية إسلامية، فإن بيت القصيد هنا لا يكمن في اختيار تسمية ما في حد ذاتها، بل في درجة الأصالة والإبداع الكامنة فيها. فهل أنتج العرب والمسلمون فكرا فلسفيا يميزهم عن غيرهم؟ وأين تتجلى أصالة الفلسفة الإسلامية؟

2-3 الفلسفة الإسلامية بين المنقول والمأصول

يرى عبد الرازق أنه «لم يكن للعرب في جاهليتهم حظ من الفلسفة من حيث هي علم له موضوعه وأسلوبه في البحث وغايته. لكن هذا العلم كان موجودا عند أمم من غير العرب، وانتقل منها إلى العرب في ريعان دولتهم الناهضة».[59] ولذلك نجده يستشهد بابن خلدون الذي يرى في "المقدمة" أن الفرس والروم هما الحضارتان اللتان أبدعتا في مجال العلوم العقلية. كما يأتي عبد الرازق بنصوص لكتاب ومؤرخين إسلاميين أمثال القفطي وصاعد الأندلسي والشهرستاني وابن النديم وابن خلدون وابن أبي أصيبعة، لكي يبين من خلالها أن العلوم الفلسفية هي علوم دخيلة على الثقافة العربية الإسلامية. وبالتالي فهي علوم منقولة، في مقابل العلوم المأصولة والمستحدثة في البيئة الإسلامية. ومن هنا يذهب عبد الرازق إلى أن «اعتراف مؤلفي العربية بأن علوم الفلسفة دخيلة عليهم، ظاهر في شيوع وصفها في كتبهم بأنها من علوم الأوائل والعلوم القديمة، في مقابل العلوم المحدثة في الملة الإسلامية».[60]

من هنا انتهى الشيخ عبد الرازق من خلال استقرائه لمجموعة من النصوص إلى أن «الرأي السائد عند المؤلفين الإسلاميين هو أن الفلسفة الإسلامية ليست إلا مقالات أرسطوطاليس مع بعض آراء أفلاطن»[61]، و«أن افتتان الجمهرة من متفلسفة الإسلام بأرسطو وبالمشائين وغيرهم من حكماء اليونان كان أمرا غير خفي».[62] أكثر من هذا، فإن متفلسفة الإسلام المشتغلين بالفلسفة اليونانية والدائرين في فلكها، قد وقعوا في الكثير من التحريف والتزييف في نقلهم لتلك الفلسفة. لهذا السبب «لم يغفل المؤلفون الإسلاميون التنبيه إلى ما وقع من الخطأ والتحريف في ترجمة الكتب الفلسفية ونقلها إلى العربية».[63] وإذا كانت الفلسفة الإسلامية، من هذا المنظور، قد تأسست على ما تم نقله وترجمته من العلوم اليونانية، ولم تخرج عنه إما بالشرح أو التلخيص أو ما شابه ذلك، فإن علم الكلام وعلم التصوف هما علمان إسلاميان خالصان، وهما من العلوم الإسلامية الأصيلة، وإن كان قد شابهما تأثير الفلسفة في مراحلهما المتأخرة. ولهذا نجد مصطفى عبد الرازق يخلص إلى أن «جملة القول: إن المؤلفين الإسلاميين لا يعدون علم الكلام وعلم التصوف من العلوم الفلسفية في حقيقة أمرهما، ولكنهم يرونهما قريبي الشبه بهذه العلوم، ويرون أن الفلسفة طغت عليهما في بعض أدوار تدرجهما؛ فصبغتهما بالصبغة الفلسفية».[64]

بالإضافة إلى علم الكلام وعلم التصوف، يرى عبد الرازق أن «علم أصول الفقه لم يخل من أثر الفلسفة أيضا».[65] ويدعم موقفه هذا بنصوص لابن خلدون صاحب "المقدمة"، ونصوص لطاش كبرى زاده صاحب "مفتاح السعادة"، حيث جعل هذا الأخير فروع أصول الفقه أربعة علوم، هي علم النظر وهو علم منطقي يبحث في أحوال الأدلة السمعية وحدود الأحكام الشرعية، وعلم المناظرة، وعلم الجدل، وعلم الخلاف.[66] وسيستنتج عبد الرازق من ذلك أن «كل هذه العلوم من العلوم العقلية الفلسفية؛ وجعلها فروعا لعلم أصول الفقه يدل على مبلغ اصطباغ هذا العلم بالصبغة الفلسفية».[67]

بعد أن قام مصطفى عبد الرازق بتحليل رسالة الشافعي في أصول الفقه، انتهى إلى إبراز مظاهر للتفكير الفلسفي فيها، بل ذهب إلى أنه يجد «في الرسالة نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية».[68] ومن مظاهر التفكير الفلسفي في رسالة الشافعي يذكر عبد الرازق ما يلي: وضع التعاريف والحدود بشكل منطقي، استخدام الحوار الجدلي المشبع بأساليب الاستدلال المنطقي، البحث في علل الأحكام وترتيب الأصول.[69] وهكذا فإن الطابع النسقي والمنظم في "الرسالة"، قد جعل الشيخ عبد الرازق يعتبر أنها تمثل بداية التفكير الفلسفي الأصيل في الإسلام، وهو تفكير وليد البيئة الثقافية الإسلامية الخالصة، وله ارتباط وثيق بمصادر الفكر الإسلامي الداخلية وفي مقدمتها القرآن الكريم، ولا علاقة له بالمؤثرات الثقافية الخارجية، سواء كانت يونانية أو غيرها.

لكن هل يمكن فعلا اعتبار ما قام به الشافعي من تقعيد لأصول الفقه تفكيرا فلسفيا؟ ألا يظل عمل الشافعي محصورا في مجال ما هو فقهي ولا يتعداه إلى مجال ما هو فلسفي؟ وهل استخدام العقل في التصنيف والتبويب للأحكام الشرعية يعد تفكيرا فلسفيا؟ ألا يظل تفكير الشافعي في "الرسالة" محدودا بسقف النص الديني وواقعا تحت تأثيره، خصوصا وأن «الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلمة ويجعلها أصولا؟»[70] إن هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا نسائل هذه الأطروحة الرازقية، ونبين حدودها، خصوصا وأن الحماسة تشتد بصاحبها لكي تجعله يعتبر أن أصول الفقه هو الممثل الفعلي للفلسفة الإسلامية المأصولة، وهذا ما قد يعني ضمنيا أن ما أنتجه فلاسفة الإسلام، من الكندي إلى ابن رشد، يظل في عداد الفلسفة المنقولة وغير المأصولة.

فإذا كان علم أصول الفقه علما إسلاميا خالصا وأصيلا فعلا، وهذا ما لا نختلف فيه، فإنه يظل مع ذلك علما من العلوم الدينية وليس علما من العلوم العقلية الفلسفية، ويظل العقل فيه يشتغل تحت سقف النص الديني مقتصرا على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية، ولا ينتج معرفة نظرية انطلاقا من التفكير المباشر في الكون والحياة. كما تظل مفاهيمه ومصطلحاته ذات طابع شرعي وفقهي، وغير مستنبطة انطلاقا من العقل الإنساني الحر والخالص. ومن ناحية أخرى، فإن ما أنتجه فلاسفة الإسلام من تفكير عقلي وفلسفي، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، يظل هو الآخر حاملا للطابع الإسلامي ولصيقا بالثقافة الإسلامية، رغم تأثره بالفلسفة اليونانية. فلم يكتف هؤلاء الفلاسفة بنقل المنتوج الفلسفي الأجنبي، وإنما استوعبوه وقدموا له إضافات، وأبدعوا أشياء جديدة لا نجدها عند فلاسفة اليونان. من هنا يتعين البحث عن الأصالة الفلسفية الإسلامية عند فلاسفة الإسلام هؤلاء الذين تفاعلوا مع الفكر الفلسفي اليوناني، وتأثروا به وأثروا فيه، وأبدعوا انطلاقا مما اكتسبوه من مفاهيم وآليات في الاستشكال والاستدلال أخذوها من الفكر الفلسفي الأجنبي، واستعملوها لصالحهم من أجل إنتاج أفكارهم الخاصة، المرتبطة بقضايا مجتمعهم العربي الإسلامي.

لهذا فوضع حدود فاصلة بين ما هو منقول وما هو مأصول في المنتوج الفلسفي الإسلامي، يظل أمرا يصعب الحسم فيه بشكل قاطع، بل ينبغي من جهة الاتفاق حول ما يمكن تسميته تفكيرا فلسفيا وما لا يمكن تسميته كذلك، أي وضع ضوابط اصطلاحية معينة لما يمكن أن ندرجه في العلوم الفلسفية تمييزا لها عن باقي العلوم الأخرى، المختلفة عنها أو المتقاطعة معها. كما ينبغي من جهة أخرى الرجوع إلى النصوص ذاتها من أجل فحصها، والكشف عما يمكن أن يوجد فيها من مؤشرات تجعلنا نقول عنها أنها فلسفية أو ليست كذلك.

على العموم، إذا رجعنا إلى مصطفى عبد الرازق سنجده ينظر إلى علم الفقه وعلم التصوف وعلم الكلام كعلوم إسلامية أصيلة، ويعتبرها علوما فلسفية إسلامية يحضر فيها المنطق والنظر العقلي بمختلف أصنافه ومستوياته. ولذلك، فهذه العلوم المأصولة هي ما يشكل في نظره ما يمكن تسميته بالفلسفة الإسلامية الأصيلة، تلك التي تعبر عن ثقافة البيئة الإسلامية الحقيقية. وهو الأمر الذي سيدفعه إلى التأصيل لها في التاريخ الإسلامي المحلي.

2-4 التأصيل التاريخي للمنتوج الفلسفي الإسلامي الخالص

عمل الشيخ عبد الرازق من خلال منهجه التاريخي على إبراز المجالات المعرفية التي تعبر بشكل حصري عن الإبداع الفلسفي الإسلامي، والذي لم يظهر تحت تأثير العلوم العقلية الدخيلة، بل كان وليد التربة الإسلامية الأصيلة والخالصة. في هذا السياق، يذهب مصطفى عبد الرازق إلى القول إن الاجتهاد بالرأي هو البذرة الأولى للتفكير العقلي في الإسلام، وهو تفكير إسلامي أصيل، انبثق عنه علم التصوف وعلم الفقه وعلم أصول الفقه، هذا الأخير الذي يعده الشيخ عبد الرازق علما فلسفيا إسلاميا أصيلا. هكذا فإن «هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين. وقد نما وترعرع في رعاية القرآن، وبسبب من الدين. ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم "أصول الفقه"، ونبت في تربته التصوف أيضا كما سنبينه، وذلك من قبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فعلها في توجيه النظر عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة والإلهيات على أنحاء خاصة».[71] وإذا كان الاجتهاد بالرأي يشكل بداية النظر العقلي عند المسلمين، فإنه «على الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقا من أساليب البحث العلمي له أصوله وقواعده؛ لأن الاجتهاد بالرأي هو بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين».[72]

باعتماد المنهجية التاريخية إذن، سعى عبد الرازق إلى تتبع تطور "الرأي" في تاريخ الثقافة الإسلامية، باعتباره التفكير العقلي الأصيل فيها. فبين أن النبي ﷺ كان متعبدا بشريعة العقل قبل نزول الوحي، [73] وأبرز أسباب الخلافات التي حصلت في الرأي في عهد الخلفاء الراشدين، ثم انتقل بعد ذلك إلى توضيح تشعب وجوه الاختلاف في الرأي في عهد بني أمية، لكي ينتقل إلى مرحلة تدوين العلم، ويبين سبق الشيعة إلى تدوين الفقه. وبعد هذا انتقل إلى مرحلة العصر العباسي الأول، لكي يبين تطور معنى كلمة الفقه في هذا العهد، ولكي يميز بين ظهور مدرستين بارزتين في الفقه هما مدرسة أهل الرأي بالعراق، ومدرسة أهل الحديث بالحجاز؛ فقد «كانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مرتبة، إلا أن اعتماد أهل الحديث على السنة أكثر من اعتمادهم على الرأي».[74]

انتقل عبد الرازق بعد ذلك إلى مرحلة الشافعي، لكي يتحدث عن نشأته ومذهبه وتوجيهه للدراسات الفقهية، ويعتبره واضع أصول الفقه، وأول من وضع مصنفا في العلوم الدينية على منهج علمي. كما قام عبد الرازق بتحليل رسالة الشافعي في الفقه، لكي يبرز ما سماه بمظاهر التفكير الفلسفي فيها، حيث ذهب إلى أنه «إذا كنا نلمح في الرسالة نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، فإننا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى: منها الاتجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أولا، ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، ومنها الإيماء إلى مباحث من علم الأصول تكاد تهجم على الإلهيات أو علم الكلام».[75] هذا ما جعل عبد الرازق حسب التفتازاني يعتبر «أستاذنا الإمام الشافعي فيلسوفا إسلاميا؛ لأنه حاول أن يجعل من أصول الاستنباط الفقهي وقواعده علما ممتازا، وأن يجعل الفقه تطبيقا لقواعد هذا العلم، وحلل رسالته في الأصول مبينا أن فيها مباحث تكاد تهجم على الإلهيات أو علم الكلام. واعتبر أستاذنا علم أصول الفقه علما مصطبغا بصبغة فلسفية ليس إلى إنكارها من سبيل، وهو يدخل علمي الكلام والتصوف في إطار الفلسفة الإسلامية بمعناها العام. ولم يسبق أستاذنا – فيما أعلم – إلى هذا الرأي».[76] ويؤكد عبد الرازق على الصلة الموجودة بين الفلسفة وعلم أصول الفقه بقوله: «وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما، فإن علم أصول الفقه المسمى أيضا علم أصول الأحكام ليس ضعيف الصلة بالفلسفة».[77] وهذا ما جعل البعض يعتبر أن مصطفى عبد الرازق «هو أول من جعل علم أصول الفقه مبحثا من مباحث الفلسفة الإسلامية».[78] وأكد على «الصلة العميقة التي تربط علم أصول الفقه بكل من التصوف وعلم الكلام والفلسفة بحيث يتم ضبط علم أصول الفقه في علاقته بهذه الفروع ضبطا محكما. وحقيقة القول: إن هذه النقطة بالذات تعد أحد أهم إبداعات الشيخ ومن أهم نقاطه التجديدية».[79]

إذا كانت الآليات المنهجية التاريخية قد أفضت بشيخنا عبد الرازق إلى إثبات الأصالة لإنتاج عقلي إسلامي فقهي وكلامي، نظر إليه باعتباره الممثل الحقيقي للفلسفة الإسلامية، قبل اتصالها بالفلسفة اليونانية لاحقا من خلال الترجمة التي ازدهرت في العهد العباسي، ولاسيما مع الخليفة المأمون، فإن هذا الاتصال المشار إليه سينتج عنه بروز فلاسفة مسلمين افتتنوا بهذه الفلسفة الدخيلة، وحاولوا التوفيق بينها وبين العقيدة الدينية الإسلامية. وهذا ما انبثقت عنه الإشكالية المعروفة في ذلك الوقت، وهي إشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة. وسيعمل عبد الرازق على مقاربة هذه الإشكالية الأخيرة عند فلاسفة الإسلام من خلال استخدامه للمنهجية الاستقرائية للنصوص.

3- المنهجية الاستقرائية للنصوص وجدلية الصلة بين الفلسفة والدين

يلاحظ القارئ في كتابات مصطفى عبد الرازق التي تتعلق بدراسته للفلسفة الإسلامية، ونخص بالذكر كتاب "التمهيد"، أنه يعتمد على المنهج الوصفي الاستقرائي من خلال استخدامه المكثف للنصوص، وتقديمها بأقصى شكل ممكن من الدقة والأمانة، وذلك بالإحالة إلى مصادرها ووصف محتوياتها، واستنباط الأفكار المتضمنة فيها، وتقديمها إلى القارئ بشكل تعليمي وبارد؛ وذلك قبل أن يعمد لاحقا إلى اتخاذ موقف معين منها. وقد بينا سابقا أن مصطفى عبد الرازق استخدم هذه المنهجية الاستقرائية في دراسته لنصوص المستشرقين، والآن سنبرز استخدامه لنفس هذه الآلية المنهجية في دراسته لنصوص الإسلاميين، ولاسيما فيما يخص معالجتهم لإشكالية الصلة بين الفلسفة والدين، أو بين الحكمة والشريعة. فإذا تأملنا في الفصل الثالث من كتاب "التمهيد"، نجد أن مصطفى عبد الرازق يتوخى الكثير من الدقة والصرامة والموضوعية في استقرائه للنصوص ووصف محتوياتها، حيث خصصه لتعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، واكتفى في تلك التعريفات والتقسيمات التي تخص الفلسفة بإيراد نصوص لفلاسفة الإسلام، أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وإخوان الصفا، وعمل على استنتاج مضامينها فيما يشبه الخلاصات في بعض الأحيان، دون أن نجده يحدد موقفا معينا من تلك المضامين التي احتوتها تلك النصوص. وهذا يوضح أنها كانت نصوصا تعليمية موجهة للطلاب، وكان غرضها الأساسي تعليميا وتلقينيا، مما فرض على صاحبها توخي الكثير من الدقة والصرامة في النقل والإخبار.

أما في الفصل الرابع من نفس الكتاب، فقد عالج عبد الرازق إشكالية الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين باستحضار نصوص عديدة لهؤلاء؛ فنجده يقدم النص كما هو عن طريق الإحالة إلى مصدره، ثم يعمل على التعليق عليه من خلال استخلاص فكرته الأساسية، أو تبيان ما قد أغفله ولم يشر إليه من أفكار وتصورات. هكذا نجده يقدم آراء الفلاسفة من إشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين؛ فيبدأ بنص لابن حزم مأخوذ من كتاب "الفصل في الملل والنحل"، يؤكد من خلاله على أن الفلسفة والشريعة تلتقيان على مستوى الغاية الأخلاقية، إذ إن إصلاح النفس وأحوال الناس هو الغرض الأساسي منهما معا. وقد استخلص الشيخ عبد الرازق هذه الفكرة بدقة وأمانة من نص ابن حزم، إلا أنه سمح لنفسه بتوجيه ملاحظة نقدية له، تتمثل في أن «معنى كلام ابن حزم هو أن غرض الفلسفة والشريعة غرض عملي، وليس ذلك بمذهب الفلاسفة ولا هو بمذهب الدينيين».[80] ولعل السبب في توجيه عبد الرازق لهذه الملاحظة النقدية لابن حزم، راجع إلى إغفال هذا الأخير أن هناك في الفلسفة مستوى نظريا إلى جانب المستوى العملي.

كما جاء عبد الرازق بعد ذلك بنصوص أخرى عمل على استقرائها للكشف عن المواقف الكامنة فيها، بخصوص علاقة الفلسفة بالدين. وهكذا جاء بنص لابن رشد من كتاب "فصل المقال"، ونص للشهرستاني من كتاب "الملل والنحل"، ونص للفارابي من كتاب "تحصيل السعادة"، وهي نصوص تؤكد على التقاء الفلسفة والدين على مستوى الغاية المتوخاة منهما، والمتمثلة أساسا في معرفة الحق وتحصيل السعادة. كما استخلص عبد الرازق من موقف الفارابي بأنه يرى أن «لا فرق بين الحكمة والدين من جهة غايتهما، ولا من جهة مصدرهما وطريق وصولهما إلى الإنسان. والفرق بين الدين والفلسفة عند الفارابي هو من جهة أن طرق الفلسفة يقينية، أما طريق الدين فإقناعي. ومن جهة أخرى تعطي الفلسفة حقائق الأشياء كما هي، ولا يعطي الدين إلا تمثيلا لها وتخييلا».[81] وأورد عبد الرازق أيضا رأيا لابن سينا مأخوذا من رسالة له في "الطبيعيات"، مفاده أنه يوجد فرق بين الدين والفلسفة، يتجلى في أن الدين عملي بالأصالة في حين أن الفلسفة نظرية بالأصالة.

يكاد عبد الرازق يكتفي بتقديم النصوص كما هي، متوخيا الكثير من الدقة والأمانة في النقل، وتكاد تعليقاته تكون أحيانا مجرد تحصيل حاصل لما يوجد في تلك النصوص ذاتها، أو يبدي بعض الملاحظات المختصرة والمحتشمة. ولعل الهاجس التعليمي والتحصيلي الطاغي على كتاب "التمهيد"، باعتباره في أصله سلسلة دروس موجهة للطلاب، هو السبب وراء هذا الأمر. فنحن نجده، مثلا، يكتفي هنا بالتعليق على نصوص الفلاسفة حول علاقة الدين بالفلسفة، بالقول: «هذه خلاصة رأي الفلاسفة الإسلاميين في العلاقة بين الدين والفلسفة. وإذا كان الفلاسفة يحاولون غالبا التوفيق بين الشريعة والحكمة في أسلوب ليس فيه عنف ولا نزوع إلى كبرياء، فإن لبعضهم أساليب تكاد تكون مهاجمة للدينيين أو دفاعا بعنف».[82]

فضلا عن هذه النصوص التي أشرنا إليها أعلاه، فإن هناك نصوصا كثيرة يعج بها كتاب "تمهيد لتاريخ الفلسفة" لم نشأ أن نوردها هنا تجنبا للإطالة، وهي نصوص تتعلق بقضايا ومسائل متعددة. وما نرمي الإشارة إليه هو أن مصطفى عبد الرازق استخدم النصوص بشكل مكثف في دراسته للفلسفة الإسلامية، وطبق عليها منهجية وصفية استقرائية تتميز بنسبة عالية من الدقة والموضوعية؛ لأنها تضع القارئ أمام النصوص والمصادر مباشرة، وتتيح له إمكانية استخلاص الأفكار منها لوحده دون أي وساطة، وتسمح له بالمقارنة بين ما قد يفهمه منها من جهة، وبين ما يورده عبد الرازق عليها من استنتاجات وتعليقات وملاحظات من جهة أخرى.

على العموم، إن الاستناد إلى النصوص في الدراسات والأبحاث الفلسفية عامة، وتلك المتعلقة بالفلسفة الإسلامية خاصة، يجنب الباحث قدرا مهما من المزالق المتعلقة بالإسقاطات والقراءات الإيديولوجية، التي تجعل أصحابها يبحثون في النصوص عما يريدونه هم، لا ما يوجد فيها فعليا، وهو ما يفقدهم الحس التاريخي والمقاربة الموضوعية للأفكار والمعارف. إذا كنا قد كشفنا في هذا المبحث عن الآليات المنهجية المتعلقة بالوصف والاستقراء والمقارنة والنقد، والتي استعملها مصطفى عبد الرازق في قراءته للنصوص ومعالجته لمختلف القضايا والإشكالات التي تخص الفلسفة الإسلامية، ولاسيما إشكالية المنقول والمأصول في المنتوج الفلسفي الإسلامي، فإننا سنشتغل في المبحث الموالي على المنهج التاريخي الذي هو المنهج الرئيس المستخدم من قبل عبد الرازق في دراسته لتاريخ الفلسفة الإسلامية، وذلك بالعمل على تبيان خصائص هذا المنهج وتجلياته التطبيقية عند عبد الرازق، وكذا إبراز نتائجه ورهاناته وحدوده.

ثالثا: المنهج التاريخي في دراسة عبد الرازق للفلسفة الإسلامية

 

إذا كان مصطفى عبد الرازق قد استخدم في دراسته للنصوص، سواء كانت إسلامية أو استشراقية، مناهج محددة في البحث والدراسة ارتكزت على وصف تلك النصوص واستقرائها ونقدها والمقارنة بينها، وهو ما أبرزناه سابقا، فإن هذه الآليات المنهجية تظل مرتبطة وخادمة لمنهج رئيس عنده هو المنهج التاريخي، الذي وإن أشرنا إلى بعض جوانبه في العنصر السابق من دراستنا، فلا بد من الوقوف في هذا العنصر عند خصائصه وأهميته أولا، مع الكشف عن تطبيقاته وتجلياته في دراسة عبد الرازق للفلسفة الإسلامية وتاريخها ثانيا، دون أن نغفل الإشارة إلى رهاناته وحدود النتائج التي يفضي إليها أخيرا.

1- خصائص المنهج التاريخي وأهميته

لا يقتصر المنهج التاريخي على مجال معرفي محدد، بل هو حاضر في مجالات علمية ومعرفية متعددة؛ تاريخية وعلمية وفلسفية ودينية وأدبية وغيرها. ويتميز بخصائص من أهمها اعتماده على الوثائق المتعددة، وفحصها ونقدها ودراستها من أجل معرفة الوقائع التاريخية بأقصى كيفية ممكنة من الدقة والموضوعية؛ فهو يتجه صوب أحداث وقعت في الماضي، من أجل معرفة حقيقتها الواقعية؛ وذلك بالعمل على محاولة فهمها وتفسيرها، من أجل ربطها بالحاضر والاستفادة منها في حل إشكالياته. كما يتميز المنهج التاريخي في مجال التأريخ للفكر، بربط الأفكار والنظريات بالظروف التاريخية والاجتماعية التي أفرزتها، وبتتبع مسار الأفكار والمعارف وتسلسلها الزمني، من أجل ربط اللاحق بالسابق. من مزايا المنهج التاريخي كذلك أنه يتبع أسلوبا دقيقا وصارما في البحث؛ يتجلى ذلك في اتباع خطوات محددة من أهمها؛ تحديد المشكلة، ووضع الفروض، وتحليل الوثائق ونقدها، وصياغة خلاصات ونتائج. وحينما يتم تحديد المشكلة، ينبغي العمل على تجميع النصوص والوثائق المتعلقة بها، ثم العمل على نقد وتحليل ودراسة تلك النصوص والوثائق للتأكد من صحتها وسلامة مضمونها.[83] وينبغي على الباحث المستخدم للمنهج التاريخي أن يتحلى بالروح العلمية والنقدية والموضوعية في دراسة الوثائق، سواء كانت نصوصا أو غيرها، كما يجب عليه أن يمتلك قدرا كافيا من الحس النقدي والحس التاريخي والثقافة الواسعة، من أجل الانتهاء إلى تسطير نتائج قابلة للتطبيق والاستلهام في الحاضر والمستقبل، مادام أن الرجوع إلى الماضي التاريخي لا يكون بهدف الاستمتاع أو السياحة الأثرية، وإنما بهدف استلهام الدروس والعبر والاستفادة منها في حل مشاكل الراهن واستشراف آفاق المستقبل.

مادامت غاية المنهج التاريخي هي بلوغ الحقيقة التاريخية قدر المستطاع، فعلى الباحث أن يزود «نفسه بالثقافة اللازمة له، ثم اختيار موضوع البحث، وجمع الأصول والمصادر، وإثبات صحتها، وتعيين شخصية المؤلف وتحديد زمان التدوين ومكانه، وتحري نصوص الأصول وتحديد العلاقة بينها، ونقدها نقدا باطنيا إيجابيا، وسلبيا، وإثبات الحقائق التاريخية، وتنظيمها وتركيبها، والاجتهاد فيها، وتعليلها، وإنشاء الصيغة التاريخية، ثم عرضها عرضا تاريخيا معقولا».[84] لكن مع ذلك، ففي مجال الإنسانيات، تظل مع ذلك نسبية، نظرا لصعوبة معرفة أحداث الماضي من جهة، ونظرا لتدخل العوامل الذاتية والإيديولوجية للباحث في قراءة النصوص والوثائق من جهة أخرى. ولهذا «هناك خصائص واتجاهات ينبغي توافرها في كل باحث، خاصة في ميدان البحث التاريخي للتأكد من صحة الفكرة التي لا يمكن إخضاعها للملاحظة المباشرة، وهي مراعاة الدقة، والصحة، والأمانة الفكرية، وعدم التحيز للأهواء والرغبات الشخصية والعنصرية، والعقائدية، وتوخي كفاية الأدلة للتوصل إلى النتائج والأحكام».[85]

على العموم، فإن أهمية المنهج التاريخي المطبق في مجال الفكر تكمن في أنه يمكننا من ربط الأفكار بسياقها التاريخي، وفهم العوامل والأسباب التي أفرزتها. كما يجعلنا نتتبع تسلسلها وتطورها الزمني، ونقف على العلاقات الكامنة بين حلقاتها المختلفة. كما تكمن أهميته في جعل الباحث يتحرى أقصى حد من الموضوعية، عن طريق اعتماد الوثائق والنصوص، ودراستها دراسة نقدية وعلمية عن طريق استنباط النتائج والخلاصات انطلاقا من عمل وصفي واستقرائي، لا يتم إسقاطه على تلك النصوص من الخارج، بل يكون نابعا من داخلها. من هنا، فإن أهمية هذا المنهج تتجلى أيضا في جعل الباحث يتحلى بخاصيتين علميتين أساسيتين هما الحس التاريخي من جهة، وتحري الموضوعية من جهة أخرى. فالحس التاريخي يجعل الباحث يقف على أرض صلبة عن طريق ربط الأفكار بالوقائع، ويجنبه الوقوع في الأوهام والأفكار القبلية المسبقة. أما الموضوعية، وإن كانت نسبية فهي مع ذلك أفضل بكثير من الإسقاطات الذاتية والإيديولوجية التي من شأنها تشويه الموضوع المدروس، وفهمه على غير حقيقته الأصلية. ولهذا فارتكاز المنهج التاريخي على الوقائع التاريخية من جهة، وعلى النصوص من جهة أخرى، يجعل الباحث يتحلى بأقصى ما يمكن من الدقة في التحليل والتأني في استخلاص النتائج والخلاصات. إذا كان الأمر كذلك، فمن حقنا أن نتساءل عن الكيفية التي طبق بها مصطفى عبد الرازق المنهج التاريخي في دراسته للفلسفة الإسلامية وعن تجليات ومظاهر تلك التطبيقات. ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في الفقرة الموالية.

2- تجليات المنهج التاريخي في الدراسة الرازقية

يستخدم مصطفى عبد الرازق المنهج التاريخي أثناء تأريخه للفكر الإسلامي، وتناوله لمختلف القضايا والإشكالات المتعلقة بالفلسفة الإسلامية. ويتجلى ذلك في عدة مواضع، من أبرزها تتبع مواقف المستشرقين وكذا الإسلاميين من الفلسفة الإسلامية بالإضافة إلى المساهمة في تأريخ الفكر الإسلامي عموما.

2-1 المنهج التاريخي في تتبع الموقف الاستشراقي من الفلسفة الإسلامية

يتجلى المنهج التاريخي عند الشيخ عبد الرازق في تتبعه لآراء المستشرقين والغربيين من الفلسفة الإسلامية، منذ بداية القرن التاسع عشر إلى الفترة التي عاش فيها مصطفى عبد الرازق. ولهذا نجده يستخدم مصطلحات وتعابير لها علاقة بالمنهج التاريخي مثل: "تتبع"، "تطور"، "منذ.. إلى.." وما شابه ذلك. فنحن نجده في حديثه عن المستشرقين يعلن ما يلي: «نريد أن نتتبع جملة نظر الغربيين إلى الفلسفة الإسلامية وحكمهم عليها منذ استقرت معالم النهضة الحديثة لتاريخ الفلسفة إلى أيامنا هذه، أي منذ صدر القرن التاسع عشر [...] ثم نتتبع بعد ذلك نماذج من تطور هذا الرأي حتى نصل إلى عهدنا الحاضر».[86] يتضح من هنا أن مصطفى عبد الرزاق يعتمد على المنهج التاريخي في دراسته لآراء المستشرقين، فيعمل على تتبع تطور آرائهم تاريخيا أولا، وعلى استقراء نصوصهم وتحليلها ثانيا. ولهذا تشكل هذه النصوص وثائق أساسية يستند إليها الباحث عبد الرازق من أجل استخلاص مواقف المستشرقين بشكل علمي ودقيق، مما سيسمح له بعد ذلك بالدخول في حوار نقدي معها، سواء على مستوى تثمين بعض ما بدا له موضوعيا ومصيبا فيها، أو على مستوى دحض وتفنيد ما بدا له ذاتيا ومجانبا للصواب. لقد عرض آراء بعض المستشرقين من الفلسفة الإسلامية في القرن التاسع عشر، أمثال "رينان" و"تنمان" و"مونك"، ثم انتقل إلى عرض «آراء الغربيين في الفلسفة الإسلامية في القرن الحاضر»[87]، متتبعا بذلك المسار الذي قطعته الفلسفة الغربية في مواقفها المختلفة من الفلسفة الإسلامية؛ حيث ذكر عبد الرازق «قول العلماء الغربيين من المستشرقين ومؤرخي الفلسفة في الفلسفة الإسلامية [وتتبع] نظرهم إليها وحكمهم عليها منذ تأسيس تاريخ الفلسفة بالمعنى الحديث إلى أيامنا هذه».[88] وسيتضح من خلال الفقرة الموالية أنه لم يفعل ذلك مع الغربيين والمستشرقين فقط، وإنما قام بنفس الأمر مع الإسلاميين وبين مواقفهم من الفلسفة الإسلامية باتباع منهجية التتبع التاريخي الاستقرائي.

2-2 المنهج التاريخي في استقراء مواقف المؤلفين الإسلاميين من الفلسفة الإسلامية

بعد أن أبرز مصطفى عبد الرازق مواقف المستشرقين والمؤلفين الغربيين من الفلسفة الإسلامية، معتمدا في ذلك منهج التتبع التاريخي الذي يرصد الأحداث الفكرية بحسب تطورها في الزمن، نجده يصرح بأنه سيبذل كل ما في جهده لاعتماد نفس الإجراءات والخطوات المنهجية التاريخية، وهو بصدد استقراء مواقف الإسلاميين، أو ما يسميهم المؤلفين الشرقيين من أهل البلاد الإسلامية، وتبين وجهات نظرهم في الفلسفة الإسلامية وحكمهم عليها، ويظهر ذلك في قوله: «وقد يكون من العسير أن نسلك في هذا البحث نفس النسق الذي سلكناه في الفصل الأول، خصوصا فيما يتعلق بمراعاة الترتيب التاريخي في سرد الآراء وملاحظة تطورها، على أننا سنبذل جهدنا في التقريب بين مناهج البحثين».[89] فأين تجلى المنهج التاريخي في دراسة الشيخ عبد الرازق لمقالات الإسلاميين ومواقفهم من الفلسفة العربية الإسلامية؟ يلجأ عبد الرازق إلى نصوص الإسلاميين من مؤرخين ومتكلمين ومفكرين، ويعرضها حسب تسلسلها التاريخي، لكي يستخرج منها مواقف هؤلاء من علاقة الفلسفة بالعرب، ويعمل على المقارنة بينها من أجل استخلاص ما يمكن استخلاصه من نتائج. ومن هنا، نجد عبد الرازق يظل وفيا للمنهج التاريخي في دراسته للقضايا المتعلقة بالفلسفة الإسلامية، إلا أنه مع ذلك يستخدم كما أسلفنا الذكر مناهج أخرى موازية ومكملة لهذا المنهج التاريخي، من قبيل المنهج الوصفي الاستقرائي الذي يعمل من خلاله على تحليل النصوص واستخراج الأفكار منها، والمنهج المقارن الذي يقارن من خلاله بين الأفكار المختلفة التي يتم استقراؤها من تلك النصوص، والمنهج النقدي الذي بموجبه ينتقد هذا الطرح ويبين تهافته، ويثمن الطرح الآخر ويبين وجاهته. في هذا السياق، جاء الباحث عبد الرازق بنصوص لصاعد الأندلسي صاحب كتاب "طبقات الأمم"، وتلاها بنصوص للشهرستاني مؤلف كتاب "الملل والنحل"، ثم نصوص للجاحظ صاحب كتاب "البيان والتبيين"، فنصوص لأحمد أمين صاحب كتاب "فجر الإسلام"، وأخرى لابن خلدون صاحب "المقدمة"، ثم عمل على مقارنة الآراء المتضمنة فيها، والتي تخص علاقة العرب بالفلسفة، لكي يخلص إلى «أن هذا الفيلسوف الاجتماعي [ابن خلدون] لا يرى رأي القائلين بأن في طبيعة العرب ما يصدهم عن الفلسفة ويضعف استعدادهم لها، إذ هو لا يقسم البشر أجناسا لكل جنس طبيعة لازمة، على نحو ما يميل إليه صاعد والشهرستاني فيما يؤخذ من كلامهما، بل هو يرد صفات الشعوب الحسية والمعنوية إلى عوامل طارئة من الهواء واختلاف أحوال العمران».[90] فلا توجد طبيعة باطنية فطرية تمنع العرب من التفلسف وإنتاج العلوم، وإنما الأمر يعود إلى عوامل خارجية ذات طبيعة تاريخية واجتماعية مرتبطة بطبيعة العمران وأحوال السياسة وأثر البيئة الجغرافية. في هذا الصدد، يلاحظ مصطفى عبد الرازق على المؤلفين الإسلاميين أنهم لم يؤرخوا لتاريخ الفلسفة بالمعنى الحديث للتأريخ، بل ورد عندهم هذا التأريخ في كتب الطبقات والتراجم والفرق والملل والنحل، وما شابه ذلك. ولهذا، فإن «كلام الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، مع قصوره عن تكوين منهج تاريخي، هو في غالب الأمر يعنى ببيان نسبة هذه الفلسفة إلى العلوم الشرعية، وحكم الشرع فيها».[91]

لقد تبين لنا في بعض المواضع من هذه الدراسة أن الهاجس الأساسي المحرك للبحث عند عبد الرازق في تاريخ الفلسفة الإسلامية هو هاجس التأصيل، الذي يريد من خلاله البحث في التاريخ الإسلامي عن أصول لفلسفة إسلامية خالصة ومتميزة عما عداها. لذا نجده يستنجد بآليات المنهج التاريخي من أجل الرجوع إلى البواكير الأولى للإنتاج العقلي الإسلامي الذي يمثل في نظره المقدمات الأولى لنشأة الفلسفة الإسلامية لاحقا في أصول الفقه، ومع الإمام الشافعي على وجه الخصوص. هذا الأمر سيجعلنا نعمل على الكشف عن هذا المسلك المنهجي التاريخي الذي اعتمده عبد الرازق في التحقيب للتفكير العقلي الإسلامي، عن طريق الرجوع إلى إرهاصاته الأولى وتتبع أطواره اللاحقة.

2-3 المنهج التاريخي في تحقيب مراحل النظر العقلي في الإسلام

يتجلى المنهج التاريخي في دراسة مصطفى عبد الرازق للفلسفة الإسلامية، في رجوعه إلى ما يسميه بالجراثيم الأولى للتفكير العقلي في التاريخ العربي الإسلامي، ثم في العمل على تتبع تطورها بشكل تدريجي ومتلاحق إلى أن أصبحت تفكيرا فلسفيا مكتمل العناصر. من أجل هذا، رأى عبد الرازق «أن البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نساير خطاها في أدوارها المختلفة، من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرا فلسفيا. وجريا على هذه الخطة نشرع في البحث عن بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين. والبحث في بداية التفكير الفلسفي الإسلامي يستدعي إلمامة بحال الفكر العربي واتجاهاته حين ظهر الإسلام».[92] يظهر جليا من هذا النص أن الخطة أو المنهج الذي اتبعه عبد الرازق هو منهج تاريخي، يبحث في البدايات والإرهاصات الأولى للفكر العربي الإسلامي، من أجل البحث عن خصوصيته وأصالته وتميزه، ثم يكشف عن مختلف مراحل تطوره عبر السيرورة التاريخية، إلى أن يكتمل ويختلط مع التيارات الفكرية الثقافية الأجنبية. لهذا، تتبع مصطفى عبد الرازق بمنهجه التاريخي تطور النظر العقلي في تاريخ الثقافة الإسلامية، حيث نجده يميز بين خمس مراحل أساسية مر منها هذا النظري العقلي، وهي: مرحلة الدعوة النبوية، ومرحلة الخلفاء الراشدين، ومرحلة الحكم الأموي، ومرحلة العصر العباسي الأول، ومرحلة النضج التي ظهر فيه المذهب الجديد للإمام الشافعي.

لقد سعى عبد الرازق، بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم وبعض النصوص الأخرى، إلى تبيان طبيعة التفكير عند العرب أثناء ظهور الدين الإسلامي في جزيرتهم، وانتهى من ذلك إلى «أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يتشبثون بأنواع من النظر العقلي يشبه أن تكون من أبحاث الفلسفة العلمية، لاتصالها بما وراء الطبيعة من الألوهية وقدم العالم أو حدوثه، والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك [...] وقد كان عند العرب نوع آخر من التفكير عملي دعت إليه حاجة الجماعة البشرية».[93] ومن هنا فقد كان لدى العرب، أثناء ظهور الإسلام، فكر يقوم على الجدل الديني والعقائدي، حيث كان يحفزهم على ذلك دفاعهم عن موروثهم الديني المرتبط بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. كما «كان عندهم نوع من النظر العقلي هو أهدأ من هذا وأقل عنفا، هو علم الطبقة المميزة، وهو علم الحكمة النافعة في الحياة».[94]

هكذا يتبع مصطفى عبر الرازق منهجا تاريخيا، بموجبه يعود بنا إلى "الاجتهاد بالرأي" كبداية للتفكير العقلي عند المسلمين، ثم يرصد تطوره لاحقا لكي يبين أن التصوف والفقه وأصوله قد انبثقت عنه، لتشكل كل هذه العلوم التفكير العقلي الإسلامي الأصيل الذي ظهر في تاريخ الإسلام قبل أن تتم عملية ترجمة الفلسفة اليونانية، والتي سيكون لها تأثير على الثقافة الإسلامية، تختلف درجته من حقل معرفي إلى آخر. فالاجتهاد بالرأي «هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين. وقد نما وترعرع في رعاية القرآن، وبسبب من الدين. ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم "أصول الفقه"، ونبت في تربته التصوف أيضا».[95] إذا كان الاجتهاد يمثل، حسب عبد الرازق، بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، فإنه يلزم على الباحث في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية «أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقا من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده. يجب البدء بهذا البحث؛ لأنه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأن هذه الناحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثرا بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا التفكير مخلصا بسيطا يكاد يكون مسيرا في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم».[96] لهذا، نجد عبد الرازق يعطي الأولوية في الدراسة والبحث لأشكال التفكير السابقة زمنيا في تاريخ الإسلام، لكي يربط اللاحق بالسابق، ويبين كيف ينمو الفكر ويتطور بشكل تدريجي انطلاقا من قوته الذاتية أولا، وانطلاقا مما يلحقه من تأثيرات خارجية ثانيا. كما نجد المنهجية التاريخية بارزة في دراسة عبد الرازق لعلم الكلام الإسلامي؛ إذ عمل أولا على تعريفه انطلاقا من رصد تاريخي لنصوص مؤرخين وفلاسفة ومتكلمين، وهي نصوص متلاحقة ومتتابعة في الزمن. فقدم تعريفات لهذا العلم مأخوذة من كتاب "إحصاء العلوم" للفارابي، ومن كتاب "التعريفات" للجرجاني، ومن كتاب "المنقذ من الضلال" للغزالي، ومن كتاب "المقدمة" لابن خلدون، ومن كتاب "المواقف" لعضد الدين الإيجي، ومن كتاب كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي، ومن كتاب "المقاصد" للتفتازاني، ومن كتاب "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" لطاش كبرى زياده، لينتهي إلى تقديم تعريف لعلم الكلام وارد في "رسالة التوحيد" لمحمد عبده. ويظهر من هذا أن عبد الرازق يعتمد آليات منهجية تتأرجح بين التأريخ والاستقراء والمقارنة، وهي آليات رصدناها في عدة مواضع قام بدراستها في كتابه الرئيس "التمهيد".

لقد انتهى عبد الرازق من رصده لمختلف التعاريف التي قدمت إلى علم الكلام، إلى خلاصة مفادها أن كلم الكلام هو دفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، إلا أن هناك خلافا حول ما إذا كان العقل يبرهن على تلك العقائد أم يكتفي بالدفاع عنها كما هي موجودة في النصوص الشرعية؟ فهو يقول في هذا الشأن: «وجملة القول أن المتكلمين متفقون على أن علم الكلام يعتمد على النظر العقلي في أمر العقائد الدينية، ثم هم يختلفون في أن الكلام يثبت العقائد الدينية بالبراهين العقلية كما يدافع عنها، أو هو إنما يدفع الشبه عن العقائد الإيمانية الثابتة بالكتاب والسنة».[97] بعد تأريخه لتعريف علم الكلام بالاعتماد على عملية استقراء النصوص والمقارنة بينها، نجد مصطفى عبد الرازق يؤرخ أيضا لعلم الكلام، بالعودة إلى نشأته الأولى وتتبع مختلف الأدوار التي مر بها. ومادام أن موضوع علم الكلام هو العقائد الدينية، فقد قدم عبد الرازق تقريرا عن هذه العقائد في عهد النبي ﷺ بالاستناد إلى نصوص من القرآن الكريم والحديث الشريف، حيث كان المسلمون في الصدر الأول «يرون ألا سبيل لتقرير العقائد إلا بوحي، أما العقل فمعزول عن الشرع وأنظاره كما يقول ابن خلدون. وكانوا يرون أن التناظر والتجادل في الاعتقاد يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، فقررت عقائد الدين في القرآن الكريم المقطوع به في الجملة والتفصيل».[98]

كما انتقل عبد الرازق بعد ذلك إلى الحديث عن العقائد الإيمانية في عهد الخلفاء الراشدين، وأشار إلى أنها بقيت في عهدهم كما كانت في عهد النبي ﷺ، إلا أن خلافات في أمور اجتهادية كمسألة الإمامة وغيرها برزت إلى السطح وكان لها تأثير على ظهور خلافات في مسائل عقدية، أدت إلى بروز مذاهب وفرق إسلامية متعددة، كالشيعة والخوارج وغيرهما. وانتقل بعد ذلك إلى الحديث عن العقائد الدينية في عهد الأمويين، لكي تبرز مسألة القدر التي «كانت أول ما خاض فيه المسلمون وتجادلوا من مسائل الاعتقاد».[99] وقد كان معبد الجهني وغيلان الدمشقي أول من تكلم في القدر ودعا إليه، حيث ارتبط ذلك بمشكلة مرتكب الكبيرة، وانقسام الفرق في الحكم عليه بين من كفره كالخوارج، ومن أقر له بصحة الإيمان والعقيدة كالمرجئة، ومن اتخذ منزلة بين المنزلتين وقال بفسقه كالمعتزلة. ومن هنا شاع النزاع بين هؤلاء حول أمور عقائدية ذات جذور سياسية، فاستخدمت أدلة عقلية وأخرى نقلية في هذا النزاع، مما ترتب عنه ظهور علم الكلام والفرق الكلامية التي تطورت لاحقا واشتد عودها. وسيتبع عبد الرازق آلية الجرد التاريخي لكي يحدثنا عن العقائد الدينية في عهد العباسيين، حيث «في صدر هذا العهد ظهر التدوين وألفت الكتب في علم الكلام، كما ألفت في غيره من العلوم الإسلامية».[100] وقد ذكر الشيخ عبد الرازق مجموعة من المصنفات الكلامية التي ميزت هذا العهد، ومن أبرزها ما أنتجه أعلام فرقتين بارزتين هما المعتزلة والأشعرية. لقد تطور علم الكلام إلى أن ظهرت طريقة المتأخرين التي اختلط فيها علم الكلام بالفلسفة والمنطق، وكان «أول من كتب في الكلام على هذا المنحى الغزالي، وتبعه فخر الدين الرازي، وبعد ذلك توغل المتكلمون في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه واحدا، واختلطت مسائل الكلام بمسائل الفلسفة».[101] كما نجد ذلك مثلا عند البيضاوي سنة 691 هجرية أو عند عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 750 هجرية. وإذا كان المذهب المعتزلي قد انحسر وضعف بسبب المحاربة القوية التي لقيها من قبل أقطاب علم الكلام الأشعري، فإن للعامل السياسي أيضا دوره في هذا الانحسار. من هنا، فقد كان لسلطان السياسة «كبير الأثر فيما ناله مذهب الاعتزال من القوة والسيادة أولا، وكان له أثر في نزوله عن عرشه أخيرا».[102] وقد عمل ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية على مقاومة المذهب الأشعري، وإحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة. وضعفت الكتابات في علم الكلام بعد ذلك، «أما النهضة الحديثة لعلم الكلام، فتقوم على نوع من التنافس بين مذهب الأشعرية ومذهب ابن تيمية. وإنا لنشهد تسابقا في نشر كتب الأشعري وكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ويسمي أنصار هذا المذهب الأخير أنفسهم بالسلفية، ولعل الغلبة في بلاد الإسلام لا تزال إلى اليوم لمذهب الأشاعرة».[103]

انطلاقا من هذا، يتبين بوضوح استخدام الشيخ عبد الرازق للمنهجية التاريخية في تتبع الحقب والمراحل التي مر منها علم الكلام الإسلامي، معتمدا في ذلك على استقراء النصوص وتحليلها، والمقارنة بين السابق واللاحق منها، وربط الأفكار بالظروف والسياقات السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو ما يساعده على تسطير استنتاجات وخلاصات نابعة من تلك النصوص أولا، ومن منظوره الخاص في القراءة والتأويل ثانيا. لقد سعى، ومعه العديد من تلامذته ممن ينتمون إلى مدرسته الفكرية، إلى الدفاع عن أصالة الفلسفة الإسلامية المتمثلة في الكلام والفقه والتصوف، وربط هذه العلوم بالبيئة الاجتماعية والثقافية والعقلية الإسلامية الخاصة. وهذا ما نلمسه عند الباحث إبراهيم مذكور، وهو أحد تلامذة مصطفى عبد الرازق المميزين، حينما يقول: «كيفما كانت الأفكار الأجنبية التي سرت إلى المسلمين، فإنهم استطاعوا أن يخلقوا بيئة عقلية خاصة بهم ويكونوا حياة فكرية مستقلة، ومن الخطأ أن نحاول تفسير ظواهر هذه الحياة في ضوء المؤثرات الخارجية وحدها التي يظن أنّها لم تهضم ولم تتأقلم ولم تنسجم مع العالم الإسلامي، أو أن نستهين بشأن العوامل الداخلية التي امتزجت بها فكانت أوثق اتصالاً وأنفذ أثراً [...]، فهناك علم وفلسفة إسلاميان[...] فإنهما، وإن كانا قد استمدا الكثير من المصادر الأجنبية، إنّما قاما على جهود المسلمين، ودرسا بروح وعقلية إسلامية. وفي وسعنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فنقرر أنّه ليس ثمة بحث عقلي عرفه المسلمون إلا وله نقطة بدء إسلامية. بدأ أولاً في ضوء تعاليم الإسلام، وشبّ تحت كنفه، وتغذى ما استطاع من الكتاب والسنّة، ثم لم يلبث أن سعى وراء غذاء خارجي ومدد أجنبي، فنما وترعرع وتفرع وتشعب، ولكنه بقي وثيق الصلة بالبيئة التي نشأ فيها والظروف المحيطة به».[104] نفس الموقف نجده عند تلميذه الآخر علي سامي النشار الذي يجعل علم الكلام هو الممثل الأصيل لفلسفة الإسلام الحقيقية، بينما "الفلاسفة" بالمعنى المدرسي أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد يمثلون في نظره مجرد مقلدة للفلسفة اليونانية، وما يوجد لديهم من أصالة عقلانية إنما هو مستمد من فلاسفة الإسلام الحقيقيين من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من المتكلمين. لهذا يرى علي سامي النشار أن «الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد "مقلدة اليونان"، و"المقلد غير عقلاني". إنّ ما لدى الكندي وابن رشد من عقلانية أصيلة إنّما هي عقلانية مستعارة من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من مفكرين مسلمين […]، كان هؤلاء [ويقصد الفلاسفة] متفلسفة وليسوا فلاسفة. أسميهم بأصحاب الفلسفة الإسلامية، وليسوا بأصحاب الفلسفة المسلمة. لقد بدأ الإبداع الفلسفي في الإسلام لدى المعتزلة، وأعقبهم الأشاعرة، والشيعة. وهنا تكمن فلسفة الإسلام الحقيقية».[105]

يبدو أن مصطفى عبد الرازق لا يشاطر تلميذه علي سامي النشار في موقفه هذا المبالغ فيه؛ إذ يميل الشيخ إلى الموقف الذي يرى أن الفلسفة الإسلامية أخذ وعطاء؛ فقد تأثر المفكرون والفلاسفة المسلمون بالفلاسفة السابقين عليهم، لكنهم قدموا بعض الإضافات والإسهامات التي يتعين التنقيب عليها في نصوصهم، حتى نتوخى الدقة والأمانة العلمية، ولا نسقط في النظرة التحقيرية التبخيسية ولا في النظرة التبجيلية التفخيمية. فالفلاسفة من الكندي إلى ابن رشد، مرورا بالفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة وابن طفيل، افتتنوا بالفلسفة اليونانية وتشربوها وتأثروا بها، لكنهم لم يكتفوا فقط بشرحها وتلخيصها بل تحاوروا معها وقدموا بعض الاجتهادات والإضافات التي أملتها عليهم بيئتهم وثقافتهم العربية الإسلامية. أما الفقهاء والأصوليون والمتكلمون، ولاسيما المتقدمون منهم، فإنهم ولا شك أصحاب فكر إسلامي أصيل وليد التربة الإسلامية الخالصة. ومثل هذا الرأي يتبناه إبراهيم مذكور؛ إذ يرى أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة «ذات طابع خاص وشخصية مستقلة، أخصّ خصائصها التوفيق والاختيار[...]، ففي الفلسفة الإسلامية أخذ وتأثر بما قبلها، كما أنّ فيها خلقاً وابتكاراً أضافت به جديداً إلى الثروة الفكرية العامة[...]، هذه الفلسفة اطراد واستمرار للفكر الإنساني، بل تقدّم له في بعض النواحي، أخذت ما أخذت عن الفلسفات القديمة، ثم ساهمت في تنقيحها وإضافة جديد إليها، ومهدت لما جاء بعدها من فلسفات أخرى».[106]

لم ينكر الشيخ عبد الرازق تأثر الفكر الإسلامي بالعوامل الأجنبية المتعددة في مراحل من تطوره التاريخي، إلا أنه مع ذلك يظل فكرا متميزا في جوهره، وله خصوصيته التي لم تستطع رياح العوامل الثقافية الخارجية اقتلاعها. ولهذا، فإن «العوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من شأنها، فهي أحداث طارئة عليه، صادفته شيئا قائما بنفسه، فاتصلت به لم تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع، لكنها على كل حال لم تمح جوهره محوا».[107] من هنا سعى الشيخ عبد الرازق إلى إبراز أصالة الفكر الإسلامي وإبراز نشأته الإسلامية الخالصة، قائلا إنه «نبت في أرض إسلامية ونما وأينع في ظل الإسلام، ثم دخلت عليه عناصر أجنبية فتفاعل معها واستمد منها قدرة على مزيد من النمو والازدهار. وتبنى هذه الوجهة من النظر جمهرة تلاميذه من بعده، وأشاعوها في الجامعات وخارجها».[108]

إذا كانت المدرسة الفكرية الرازقية قد دافعت عن أصالة فكر فلسفي إسلامي متفرد ومتميز، واعتمد مؤسسها على المنهج التاريخي كمنهج رئيس في الدراسة والبحث والتقصي، فإن من خصائص هذا المنهج التاريخي كما رأينا أنه لا يدرس الماضي في حد ذاته، من أجل معرفته فقط، بل هو يدرسه من أجل ربطه بالحاضر والمستقبل. فهناك إذن غايات ورهانات يتوخاها عبد الرازق، ومن سلك مسلكه، من خلال تبنيهم لموقف محدد من الأصالة الفلسفية الإسلامية المفترضة. وهذا ما سيفرض علينا الكشف عن هذه الرهانات، وتبيان حدود الخلفية النظرية والمنهجية التي تحكم تلك الرهانات وتؤطرها.

3- رهانات المنهج الرازقي وحدود تصوره للفلسفة الإسلامية

بعد تعريفنا سابقا للمنهج التاريخي وتحديدنا لخصائصه وأهميته في البحث العلمي، وكذا إبرازنا لمظاهره وتجلياته في نصوص مصطفى عبد الرازق، سنسعى الآن من خلال هذه الفقرة إلى الوقوف عند الغايات والرهانات التي رام تحقيقها عبد الرازق من خلال تبنيه لهذا المنهج في دراسته للفلسفة الإسلامية وتأريخه للفكر العربي الإسلامي، دون أن يفوتنا مع ذلك الإشارة إلى بعض الصعوبات التي يثيرها تطبيق هذا المنهج على النصوص الفكرية، وإبراز حدود التصور الرازقي للفلسفة الإسلامية، والمترتب طبعا عن تبنيه للمنهج التاريخي في البحث والتقصي.

3-1 مميزات ورهانات المنهج الرازقي

لقد حاولنا من خلال هذه الدراسة إبراز أهم المعالم والسمات التي ميزت المنهج الذي اعتمده مصطفى عبد الرازق في دراسته للفكر الإسلامي. كما أوضحنا الآليات والإجراءات العملية التي تجلى من خلالها هذا المنهج، من مقارنة ونقد واستقراء للنصوص وتتبع لمراحل تطور الأفكار. ويمكن القول انطلاقا من ذلك، إننا أمام مدرسة فكرية متفردة وقائمة بذاتها، تناولت التراث الفلسفي الإسلامي وعملت على دراسته واتخذت موقفا معين منه، وهو موقف جاء كرد فعل ضد الرؤية الاستشراقية غير المنصفة للتراث الفلسفي الإسلامي، والتي نفت الأصالة عن الفلسفة الإسلامية واعتبرتها مجرد نسخ وتكرار للفلسفة اليونانية. من هنا، فقد راهن الشيخ عبد الرازق من خلال المنهج الذي اعتمده على أمر أساسي هو السعي إلى إثبات الأصالة للفلسفة الإسلامية، من خلال البحث عن جذورها في البيئة الثقافية المحلية الخالصة. وهذا ما جعله يعود إلى الاجتهاد بالرأي الذي يشكل البذور الأولى للتفكير العقلي في الإسلام، والذي تطور لاحقا واكتملت عناصره في علم أصول الفقه وعلم الكلام وعلم التصوف.

لهذا، فقد سعى عبد الرازق إلى الدفاع عن فكرة تكاد تكون غير مسبوقة حينها، وهي المتمثلة في القول إن علم أصول الفقه وعلم الكلام وعلم التصوف هي العلوم التي تتجلى فيها الفلسفة الإسلامية الأصيلة، التي تشكلت في تفاعلها مع النصوص الدينية التأسيسية، ونمت في أحضان المجتمع العربي الإسلامي، قبل أن تختلط فيما بعد بالفلسفات الأجنبية، وفي مقدمتها الفلسفة اليونانية. فهذا الاختلاط لم يفقدها جوهرها الأصلي، بل بقيت محافظة على خصوصيتها وأصالتها؛ لأن العوامل الأجنبية الخارجية تظل أحداثا طارئة على الفكر الإسلامي ولم تخلقه من عدم. يبدو من هذا أن الشيخ عبد الرازق يسعى إلى إثبات هوية فلسفية إسلامية قائمة بذاتها، لها خصائصها ومقوماتها التداولية الخاصة بها، مقللا بذلك من شأن التأثيرات الأجنبية التي غزت الفكر الإسلامي وفعلت فعلها فيه. ولهذا نجده يعتبر أن فلاسفة الإسلام الذين تأثروا بقوة بالفلسفة اليونانية، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، لم يكونوا مجرد شارحين وناقلين لها، بل قدموا إضافات وإبداعات ينبغي على الدارس البحث عنها في نصوصهم، لكي نتجاوز الموقف الاستشراقي الإقصائي الذي يعتبر أن فلسفات هؤلاء كانت بمثابة جزر غريبة وشاذة في بحر الثقافة العربية الإسلامية الوسيطية. إن عبد الرازق يراهن على تخطي هذا الموقف الاستشراقي المتمركز حول الذات الأوروبية، لكي يعمل بالمقابل على إبراز ما تميزت به الذات العربية الإسلامية من قدرات وإمكانات فكرية في الخلق والإبداع، مراهنا على ضرورة الاعتزاز بهذا الموروث الإسلامي وتطويره عن طريق العودة إلى نصوصه، والعمل على دراستها والاستفادة منها في معالجة قضايا الراهن العربي الإسلامي، وفتح آفاق الإبداع أمام الذات الإسلامية من أجل الخلق والابتكار في مجال الثقافة عموما، وفي مجال الفكر الفلسفي على وجه الخصوص. لقد عول عبد الرازق في إبراز أصالة الفلسفة الإسلامية على المنهج التاريخي الذي اعتمده، والذي ارتكز على النصوص كوثائق، حيث أكثر من استخدامها والاعتماد عليها، كما قام بتحليلها واستقرائها، لكي ينتهي إلى ما انتهى إليه من نتائج وخلاصات، جعلته صاحب مدرسة فكرية لها موقف متميز من التراث الفلسفي الإسلامي، ولها تلاميذ وأتباع تبنوا أطروحتها وروجوا لها من خلال دروسهم الجامعية وكتاباتهم الفكرية.

هكذا يمكن القول مع أبي الوفا التفتازاني إن منهج مصطفى عبد الرازق ارتكز في دراسته للفكر الإسلامي على جملة من المبادئ الرئيسية، التي تمثلت أولا في «الجمع بين القديم والحديث في بناء الثقافة وإعادة مجد الأمة [...] ثانيا: تصحيح الأحكام الخاطئة عن التراث الفلسفي الإسلامي، والتي يذهب إليها عدد من الباحثين في الغرب [...] ثالثا: البحث دائما عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية [...] رابعا: الرجوع إلى مصادر الفلسفة الإسلامية، ونشر ما لم ينشر من مخطوطاتها ليتبين دورها في بناء التراث الفلسفي العالمي [...] خامسا: البذور الأولى للتفكير الفلسفي الإسلامي إسلامية، ولا بد من الرجوع إلى النظر العقلي في بساطته الأولى وتتبع مدارجه في ثنايا العصور وأسرار تطوره».[109] لكن مع كل هذه المميزات التي تحسب للمنهج الرازقي، فإن هذا لا يمنع من الوقوف عند حدوده ونقد تصوره للفلسفة الإسلامية.

3-2 حدود المنهج الرازقي وتصوره للفلسفة الاسلامية

تقارب هذه الدراسة مسألة المنهج في دراسة الفكر العربي الإسلامي، وهي مسألة خاضت فيها العديد من أقلام الباحثين والمفكرين المحدثين والمعاصرين سواء كانوا مستشرقين أو إسلاميين، حيث ظهرت عدة مدارس واتجاهات فكرية تميزت كل واحدة منها بمنهج معين في قراءة التراث الإسلامي. فنجد النزعة الاستشراقية التي ارتكزت على المنهج الفيلولوجي الذي يرد التراث العربي الإسلامي إلى التراثات السابقة عليه، والتي تشكل "أصولا" بالنسبة إليه، كالتراث اليهودي أو المسيحي أو الفارسي أو اليوناني، وبالتالي فالقراءة الاستشراقية تنزع عن التراث العربي الإسلامي خصوصيته، وتختزله في كونه مجرد امتداد أو قراءة لتراث سابق عليه، مع وجود استثناءات تخص بعض المستشرقين الذين تعاملوا مع النصوص الفلسفية الإسلامية بنوع من الحياد وبينوا ما يوجد فيها من أصالة وإبداع. كما نجد التيار السلفي الديني الذي ارتكز على العودة إلى الماضي، من أجل استعادته وتوظيفه توظيفا إيديولوجيا من أجل مواجهة تحديات الحاضر، ورد الاعتبار إلى الذات الإسلامية في مواجهة الأخطار التي بدأت تأتيها من الحضارة الغربية. وقد كانت بداياته الأولى مع الأفغاني وعبده، بحيث تم رفع شعار التجديد وترك التقليد سواء تعلق الأمر بتقليد الموروث الإسلامي المنحدر من عصر الانحطاط الإسلامي، أو تعلق الأمر بتقليد ثقافة الغرب وفكره. وقد كان التجديد يتمثل من هذا المنظور الديني السلفي في إحياء "الإسلام الحقيقي"، وذلك بالرجوع إلى النصوص الأصلية و"الفترة الذهبية" من أجل الارتكاز على "الأصالة" والسعي نحو تحقيق النهضة العربية الإسلامية المنشودة. كما يمكننا الإشارة هنا إلى القراءة اليسارية الماركسية للتراث العربي الإسلامي، والتي حاولت قراءته انطلاقا من قوالب ماركسية جاهزة، جعلتها قراءة إسقاطية تسعى جاهدة إلى البحث في التراث عن الصراع الطبقي أو عن الصراع بين المادية والمثالية، مما جعلها قراءة إيديولوجية وغير موضوعية. بالإضافة إلى تلك القراءات نجد القراءة "الإبستمولوجية" التي تجد تجلياتها عند الجابري وأركون مثلا، بحيث حاولا معا توظيف المكتسبات المعرفية والمنهجية في الفلسفة والعلوم الإنسانية المعاصرة، من أجل قراءة التراث العربي الإسلامي قراءة مغايرة حاولت ما أمكن أن تكون أكثر علمية وتاريخية وموضوعية. وإذا نظرنا إلى الفترة الزمنية التي ظهرت فيها القراءات السالفة الذكر، فإننا سنلاحظ أن قراءة مصطفى عبد الرازق للتراث الإسلامي جاءت بعد القراءتين الاستشراقية والسلفية، وقبل القراءتين الماركسية والإبستيمولوجية. ولذلك، نجد عبد الرازق يحاور الموقف الاستشراقي ويشتغل على نصوصه، كما يتبنى ولو بشكل ضمني بعض المبادئ التي ترتكز عليها القراءة السلفية الدينية، لكنه طبعا لا يمكنه أن يستحضر ما جاءت به القراءتين اللاحقتين اليسارية والإبستيمولوجية من مستجدات معرفية ومنهجية، لأنها بكل بساطة كانت غائبة عن تفكيره وظهرت في سياق تاريخي لاحق عليه.

كان من مزايا المنهج الرازقي اعتماده المكثف على النصوص واستقراؤه لها، من أجل صياغة أفكاره ومواقفه من الفلسفة الإسلامية، لكن قراءة شيخنا لهذه النصوص لا تخلو من منظور ذاتي وخاص، قد لا يشاطره فيه الرأي العديد من الدارسين والباحثين. ويظهر هذا الأمر مثلا في أطروحته القائلة بأن علم أصول الفقه هو علم فلسفي، وأننا «نلمح في الرسالة (رسالة الشافعي) نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية»[110]، إذ لا يكفي أن نجعل من الشافعي فيلسوفا بمجرد أنه ضبط الفقه وعمل على تقعيده، حتى ولو افترضنا أنه استخدم المنطق العقلي في ذلك. كما لا يكفي أن يستند الشيخ عبد الرازق إلى نصوص لابن خلدون وطاش كبرى زاده للقول إن علم الفقه هو علم فلسفي، أو إنه «لم يخل من أثر الفلسفة»[111]، وذلك من منطلق أن تلك النصوص ترى أن في هذا العلم جدالات وخلافات ومناظرات بين المذاهب والآراء الفقهية، باستخدام الاستدلالات والأقيسة العقلية.

إن علم أصول الفقه هو علم ديني في أساسه، والعقل الفقهي فيه يشتغل تحت سقف النص الديني المقدس، وغاية الاجتهادات فيه هي استنباط الأحكام الشرعية. ولهذا من الصعب إدراجه ضمن الأقاويل الفلسفية، إذ علينا أولا أن نصطلح على ما نسميه بنعت "فلسفة". وعبد الرازق نفسه لم يحدد لنا ما معنى الفلسفة، لكي يقول لنا انطلاقا من تعريفه لها بأن الاجتهاد بالرأي أو أصول الفقه أو الكلام أو التصوف هي ما يمثل الفلسفة الإسلامية المأصولة. وفي غياب هذا النوع من التعريف والتحديد الاصطلاحي للفظ الفلسفة، لا يسعنا إلا أن نقول بأن هذه المجالات المعرفية الإسلامية قد تأثرت فعلا في مراحل من مراحلها بالفلسفة، لكن أن تكون هي في حد ذاتها "فلسفة"، فهذا ما لا يمكن قبوله إلا على نحو فضفاض وعام. فقد نعتبر أن الفقيه أو الصوفي أو المتكلم يعبرون عن رؤية فلسفية معينة لله والعالم والإنسان، لكننا لا نقول ذلك إلا كما نقول أن الفنان أو الشاعر أو المؤرخ أو الروائي يعبرون هم أيضا على مثل تلك الرؤية الفلسفية. ومثلما أنه لا يكفي أن يعبر الشاعر أو الروائي أو المؤرخ عن مثل هذه الرؤية الفلسفية لكي يكونوا فلاسفة، فكذلك لا يكفي أن نجد لدى الفقيه أو المتكلم أو الصوفي مثل هذه الرؤية لكي نقول عنهم أنهم فلاسفة، بالمعنى الخاص لهذا المصطلح. ونحن نجد أن مصطفى عبد الرازق نفسه يستخلص قائلا: «وجملة القول: إن المؤلفين الإسلاميين لا يعدون علم الكلام وعلم التصوف من العلوم الفلسفية في حقيقة أمرهما، ولكنهم يرونهما قريبي الشبه بهذه العلوم، ويرون أن الفلسفة طغت عليهما في بعض أدوار تدرجهما؛ فصبغتهما بالصبغة الفلسفية».[112] انطلاقا من هذا الاعتبار، ينبغي أيضا البحث عن الأصالة الفلسفية الإسلامية في كتابات فلاسفة الإسلام، أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وأمثالهم، لأنه فضلا عن شرح هؤلاء للفلسفة اليونانية وتلخيصهم لها، فإنهم استفادوا من جهازها المفاهيمي وآلياتها الاستشكالية والاستدلالية في إنتاج أفكار فلسفية مختلفة عن تلك التي نجدها عند فلاسفة اليونان، وتعبر عن شخصيتهم الإسلامية المرتبطة بالمجال التداولي الذي فكروا من داخله. هذا ما عبر عنه إبراهيم مذكور حينما اعتبر أن للفلسفة الإسلامية شخصيتها وطابعها الخاص، وأن فيها خلقا وابتكارا، وأن في «هذه الفلسفة اطراد واستمرار للفكر الإنساني، بل تقدم له في بعض النواحي، أخذت ما أخذت من الفلسفات القديمة، ثم ساهمت في تنقيحها وإضافة جديد إليها، ومهدت لما جاء بعدها من فلسفات أخرى».[113] أما دون هذه الفلسفة الإسلامية، فيمكن الحديث عن فكر إسلامي أصيل تجلى في الفقه وعلم الكلام قبل امتزاجهما بالفلسفة اليونانية، وهو فكر له خصوصيته الإسلامية التي جعلت من أهم سماته ارتباطه بالنص المقدس، وبما تقرر في الشريعة الدينية الخاصة بالمسلمين.

خاتمة

لقد تناول بحثنا المقاربة المنهجية التي سلكها مصطفى عبد الرازق في دراسته للفلسفة الإسلامية. وقد تبين لنا أننا كنا أمام مدرسة فكرية حديثة في مقاربة تاريخ الفلسفة الإسلامية. وما جعل الشيخ عبد الرازق صاحب مدرسة فكرية متميزة وقائمة الذات هو اتباعه لمنهج محدد في دراسة الفكر الإسلامي. وقد بينا أنه استخدم آليات منهجية متجانسة ومتكاملة في دراسة النصوص واستخلاص النتائج؛ آليات تعتمد أساسا على المنهج التاريخي الذي يؤصل للأفكار ويبحث عن جراثيمها الأولى ويربطها بسياقها الثقافي والاجتماعي، كما تعتمد على وصف النصوص واستقرائها ونقدها والمقارنة بينها. فأهم ما يميز المقاربة الرازقية في دراسة الفكر الإسلامي هو استخدامها المكثف للنصوص، إذ يستشهد عبد الرازق بنصوص كثيرة ومتنوعة ويحيل إليها، قبل أن يستخلص منها النتائج ويقدم تصوره الخاص حول القضية التي يعالجها. ولعل أهمية هذه القاعدة تكمن في جعل القارئ يقارن بين ما قدمه مصطفى عبد الرازق وما قدمته الدراسات التي يؤرخ لها وينتقدها، لكي تكتمل له الصورة بوضوح ويكون بإمكانه أن يدرك الإضافات التي قدمتها المقاربة الرازقية للفلسفة الإسلامية، مقارنة مع المقاربات التي نجدها سواء عند الغربيين أو الشرقيين، عند المستشرقين أو الإسلاميين. فضلا عن الارتكاز على النصوص واستقرائها، فإن المقاربة المنهجية لدى مصطفى عبد الرازق تقوم على أساسين مهمين؛ يتمثل أحدهما في نقد التصور الاستشراقي المجحف للفلسفة الإسلامية، هذا التصور الذي أوضحنا أنه ينزع الأصالة والإبداع عن الفلسفة العربية الإسلامية ويعتبرها مجرد تقليد واستنساخ للفلسفة اليونانية، ويتمثل ثانيهما في إثبات الأصالة للفلسفة الإسلامية، من خلال القول أولا إن فلاسفة الإسلام أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد لم يكتفوا بمجرد شرح وتلخيص النصوص الفلسفية اليونانية، وإنما قدموا بعض الإضافات إليها وناقشوا إشكالات خاصة بثقافتهم الإسلامية مثل إشكالية الحكمة والشريعة، والقول ثانيا إن هناك فلسفة إسلامية أصيلة تمثلها إنتاجات فكرية أبدعها المسلمون قبل أن يطلعوا على الفكر الفلسفي اليوناني الذي انتقل إليهم لاحقا عبر الترجمة، وتتمثل في الإنتاجات الفكرية الفقهية والكلامية والصوفية، والتي رغم تأثرها بالعوامل الأجنبية فإن هذه العوامل تظل حسب عبد الرازق طارئة على الفكر الإسلامي، ولم تمح جوهره أو تخلقه من عدم. ولذلك لم يتردد عبد الرازق في إدراج علم أصول الفقه ضمن العلوم الفلسفية الإسلامية، فهو أول من جعل هذا العلم الديني مبحثا من مباحث الفلسفة الإسلامية، واعتبر رسالة الشافعي بداية لنشأة التفكير الفلسفي في الإسلام.[114] بل ورأى البعض أن مصطفى عبد الرازق اعتبر أن الإمام الشافعي فيلسوفا إسلاميا، وهو الرأي الذي لم يسبق لأحد أن قاله قبل مصطفى عبد الرازق.[115] مهما يكن فقد قدم عبد الرازق تصورا جريئا للفلسفة الإسلامية، حاول الدفاع عنه باعتماد عدة منهجية صارمة ارتكزت على المنهج التاريخي واستقراء النصوص، إلا أننا بينا في معرض ملاحظاتنا النقدية أن هذا التصور لم يخل من حماسة ومبالغة في تمجيد الموروث الفقهي الإسلامي، وبالتالي فالمنهج التاريخي المعتمد لم يخل من النزعة الذاتية والمنظور الإيديولوجي المبطن، مما يؤثر لا محالة – وبهذا القدر أو ذاك – على درجة الموضوعية التي ينبغي أن يتسم بها هذا المنهج.

كما أن جعل علم أصول الفقه علما فلسفيا هو تصور لم يقدم صاحبه الحجج الكافية للتدليل عليه، لأنه لا يكفي استخدام بعض الآليات المنطقية في هذا العلم للقول بأنه يعبر عن فكر فلسفي، مادامت الفلسفة تفكيرا ينبني على الاستخدام الجريء والمطلق للعقل، ويرتكز على القوة الاستشكالية والطرح النقدي والبناء المفاهيمي للأفكار، وليس على مجرد استنباط الأحكام من النص الديني كما هو الشأن في علم أصول الفقه، أو على تقديم الحجج العقلية لتبرير العقائد الإيمانية كما هو الشأن بالنسبة إلى علم الكلام الإسلامي، أو على إطلاق العنان لأفكار الذوق والكشف والإشراق الروحي كما هو الأمر في مجال التصوف، بل إن هذه العلوم الإسلامية الأخيرة لم تتخذ صبغة فلسفية واضحة إلا حينما بدأت تستخدم أدوات ومفاهيم مستمدة من مجال التفكير الفلسفي، كما هو الشأن مثلا في التصوف الفلسفي لدى الشيخ الأكبر ابن عربي.

من ناحية أخرى، لاحظنا أنه رغم الاستخدام المكثف للنصوص من طرف الشيخ عبد الرازق، فإنه لم يشتغل على نصوص كثيرة للفلاسفة "الرسميين" أو "المدرسيين" في التراث الإسلامي، من الكندي إلى ابن رشد، ولم ينقب فيها عن الأصالة الفلسفية الإسلامية الموجودة فيها، مما يبين أن نظرته للتراث لم تخل من الميل والانحياز إلى قطاعات معرفية دون أخرى، مما جعلها نظرة تجزيئية وغير شمولية. والسبب في ذلك، ولا شك، هو أن المنهج المتبع من طرف عبد الرازق كان محكوما برؤية وخلفية مسبقة أثرت على تطبيقه، وعلى النتائج التي أفضى إليها.

إضافة إلى هذا، فإن المقاربة المنهجية الرازقية تظل ناقصة من المفاهيم والأدوات المنهجية التي أفرزها تطور العلوم الفلسفية والإنسانية في الغرب، من إبستيمولوجيا وأنثروبولوجيا ولسانيات وعلم نفس تحليلي وفلسفة تفكيكية وغير ذلك، خصوصا وأننا نعلم أن من شأن هذه المفاهيم والمناهج أن تمكن الباحث من تسليط التحليل والنقد على النصوص التراثية بشكل أوسع وأعمق، وتجعله يكشف عن مناطق منسية ومغمورة فيها. ولعل هذا هو ما حاولت القيام به بعض المقاربات المنهجية العربية المعاصرة للتراث الفكري الإسلامي، مثل مقاربة محمد عابد الجابري ومقاربة محمد أركون.

 

المصادر والمراجع

بالعربية:

- ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة.

- بدوي عبد الرحمن، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977م.

- البهي محمد، الفكر الإسلامي في تطوره، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1981

- التفتازاني أبو الوفا الغنيمي، مدرسة مصطفى عبد الرازق، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997

- جعفر محمد كمال، دروس من فكر الشيخ مصطفى عبد الرازق، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997

- حلمي محمد عبد الوهاب، مقدمة كتاب مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2011م.

- دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية وعلق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، بيروت.

- سرحان محمد علي المحمودي، مناهج البحث العلمي، دار الكتب، صنعاء، ط3، 2019

- سيد سليمان عبد الرحمن، مناهج البحث، علم الكتب، 2014م.

- شوقي ضيف، النقد، الطبعة الخامسة، دار المعارف، القاهرة.

- الشيباني عمر التومي، مناهج البحث الاجتماعي، ط2، طرابلس، الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1975م.

- الصباغ ليلى، دراسة في منهجية البحث التاريخي، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق، 1978م.

- صليبا جميل، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1973م.

- الطويل توفيق، شيخنا الأكبر مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997

- الطويل توفيق، أسس الفلسفة، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة، القاهرة.

- عبد الرازق مصطفى، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2011م.

- عثمان حسن، منهج البحث التاريخي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة.

- علبي عاطف، المنهج المقارن مع دراسات تطبيقية، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2006.

- عليان ربحي مصطفى وعثمان محمد غنيم، مناهج وأساليب البحث العلمي؛ النظرية والتطبيق، ط.1، مطبعة دار صفاء، الأردن، 2000م.

- عويضه محمد كامل محمد، الفلسفة الإسلامية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م.

- كرو العزاوي رحيم يونس، مقدمة في منهج البحث العلمي، دار دجلة، الأردن، ط.1، 2008م.

- الكيلاني رعد شمس الدين، الفكر الإسلامي؛ النشأة والتطور والتحديات المعاصرة، شمس الأندلس للطباعة والنشر، بغداد، ط.1، 2017

- مختار أحمد عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلد الأول، الطبعة الأولى، عالم الكتب، القاهرة.

- مذكور إبراهيم، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، الجزء الأول، سميركو للطباعة والنشر، طبعة ثانية منقحة ومزيدة.

- معمر علي عبد المؤمن، مناهج البحث في العلوم الاجتماعية؛ الأساسيات والتقنيات والأساليب، ط.1، منشورات جامعة 7 أكتوبر، 2008

- النشار علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، دار المعارف، الطبعة التاسعة.

بالفرنسية:

- Benmakhlouf Ali, Pourquoi lire les philosophes arabes; l’héritage oublié, Albin Michel, 2015

- Gilson Etienne, La philosophie au moyen âge de Scot Erigène à Saint Bonaventure, Payot, PARIS, 1922

- Gilson Etienne, L’être et l’essence, Ed.2, Vrin, Paris, 1981

- Renan Ernest, Averroès et l'averroïsme: essai historique, 2.Ed, Michel Lévy frères Libraires éditeurs, 1861

[1]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1973م، ص.435

[2]- عبد الرحمن سيد سليمان، مناهج البحث، علم الكتب، 2014م، ص.21

[3]- توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مكتبة النهضة، القاهرة، ط3، ص.111

[4]- عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977م، ص.5

[5]- المصدر السابق، ص.3

[6]- عمر التومي الشيباني، مناهج البحث الاجتماعي، ط2، طرابلس، الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1975م، ص.78ـ80

[7]- عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977، ص.19

[8]- علي معمر عبد المؤمن، مناهج البحث في العلوم الاجتماعية؛ الأساسيات والتقنيات والأساليب، ط.1، منشورات جامعة 7 أكتوبر، 2008، ص.279

[9]- ربحي مصطفى عليان وعثمان محمد غنيم، مناهج وأساليب البحث العلمي؛ النظرية والتطبيق، ط.1، مطبعة دار صفاء، الأردن، 2000م، ص.33

[10]- عاطف علبي، المنهج المقارن مع دراسات تطبيقية، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2006، ص.132

[11]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1973، ص.405

[12]- محمد سرحان علي المحمودي، مناهج البحث العلمي، دار الكتب، صنعاء، ط3، 2019، ص.72

[13]- المصدر السابق، ص.71

[14]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1، ص.72

[15]- محمد سرحان علي المحمودي، مناهج البحث العلمي، ص.72

[16]- ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، ص.4517

[17]- أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلد الأول، عالم الكتب، القاهرة، ط.1، ص.2264

[18]- نفس المصدر والصفحة.

[19]- المصدر السابق، ص.2265

[20]- شوقي ضيف، النقد، دار المعارف، القاهرة، ط.5، ص.9

[21]- نفس المصدر والصفحة.

[22]- كامل محمد محمد عويضه، الفلسفة الإسلامية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م، ص.3

[23]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، ص ص.154-155

[24]- محمد البهي، الفكر الإسلامي في تطوره، مكتبة وهبة، القاهرة، ط.2، 1981م، ص.6

[25]- رعد شمس الدين الكيلاني، الفكر الإسلامي؛ النشأة والتطور والتحديات المعاصرة، شمس الأندلس للطباعة والنشر، بغداد، ط.1، 2017، ص.4

[26]- المصدر السابق، ص.4

[27]- Ernest Renan, Averroès et l'averroïsme: essai historique, 2.Ed, Michel Lévy frères Libraires éditeurs, 1861, p.V-VIII.

[28]- De Boer

[29]- دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية وعلق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، بيروت، ص.53.

[30]- Etienne Gilson (1844-1978)

[31]- Jean Jolivet (1925-2018)

[32]- Guillaume Théophile Tennemann (m.1819)

[33]- Ernest Renan (1823-1892)

[34]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.13

[35]-Victor Cousin (m.1847)

[36]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.14

[37]- المصدر السابق، ص.18

[38]- المصدر السابق، ص.20

[39]- المصدر السابق، ص.42

[40]- Salomon Munk (1803-1867)

[41]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.39

[42]- Ernest Renan, Averroès et l’averroïsme, (1925), préface, 8e éd. P.89

ورد في كتاب: مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.19

[43]- Gustave. Dugat (1824-1894)

[44]- Dugat, G. Histoire des philosophes et des théologiens musulmans, Paris 1878, préface, p.XVI-XVII.

ورد في كتاب: مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.22

[45]- Etienne Gilson, La philosophie au moyen âge de Scot Erigène à Saint Bonaventure, Payot, Paris, 1922, p.101

[46]- Etienne Gilson, L’être et l’essence, Ed.2, Vrin, Paris, 1981, p.124

[47]- Ibid, p.124

[48]- Ali Benmakhlouf, Pourquoi lire les philosophes arabes ; l’héritage oublié, Albin Michel, 2015, p.11.

[49]- المصدر السابق، ص.14

[50]- انظر نفس المصدر والصفحة.

[51]- Maurice de Wulf

[52]- Émile Bréhier (1876-1952)

[53]- Horten

[54]- De Boer

[55]- L.Gauthier

[56]- Carra de Vaux

[57]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.30

[58]- المصدر السابق، ص.32

[59]- المصدر السابق، ص.59

[60]- المصدر السابق، ص.61

[61]- المصدر السابق، ص.63

[62]- المصدر السابق، ص.66

[63]- المصدر السابق، ص.67

[64]- المصدر السابق، ص.117

[65]- نفس المصدر والصفحة.

[66]- أنظر نصا لطاش كبرى زاده وارد في الصفحة 119 من كتاب "التمهيد" لمصطفى عبد الرازق.

[67]- المصدر السابق، ص.119

[68]- المصدر السابق، ص.357

[69]- المصدر السابق، ص.358

[70]- المصدر السابق، ص.367

[71]- المصدر السابق، ص.185

[72]- توفيق الطويل، شيخنا الأكبر مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص.41

[73]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2011م، ص. 232

[74]- المصدر السابق، ص.316

[75]- المصدر السابق، ص ص.357-358

[76]- أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، مدرسة مصطفى عبد الرازق، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص ص.78-79

[77]- مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2011م، ص42

[78]- محمد حلمي عبد الوهاب؛ مقدمة كتاب مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2011م، ص64

[79]- نفس المصدر والصفحة.

[80]- المصدر السابق، ص.122

[81]- المصدر السابق، ص.123

[82]- المصدر السابق، ص.126

[83]- ليلى الصباغ، دراسة في منهجية البحث التاريخي، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق، 1978م، ص.139

[84]- حسن عثمان، منهج البحث التاريخي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة، ص.20

[85]- رحيم يونس كرو العزاوي، مقدمة في منهج البحث العلمي، دار دجلة، الأردن، ط.1، 2008م، ص.80

[86]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2011م، ص.8

[87]- المصدر السابق، ص.26

[88]- المصدر السابق، ص.49

[89]- نفس المصدر والصفحة.

[90]- المصدر السابق، ص ص.56-57

[91]- المصدر السابق، ص.149

[92]- المصدر السابق، ص.153

[93]- المصدر السابق، ص.158

[94]- المصدر السابق، ص.169

[95]- المصدر السابق، ص.185

[96]- نفس المصدر والصفحة.

[97]- المصدر السابق، ص.384

[98]- المصدر السابق، ص ص.395-396

[99]- المصدر السابق، ص.416

[100]- المصدر السابق، ص.418

[101]- المصدر السابق، ص.428

[102]- المصدر السابق، ص.421

[103]- المصدر السابق، ص.429

[104]- إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، الجزء الأول، سميركو للطباعة والنشر، طبعة ثانية منقحة ومزيدة، ص ص.195-196

[105]- علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، دار المعارف، الطبعة التاسعة، ص.18

[106]- إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، الجزء الأول، سميركو للطباعة والنشر، طبعة ثانية منقحة ومزيدة، ص.197-199

[107]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.150

[108]- توفيق الطويل، شيخنا الأكبر مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص.44

[109]- أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، مدرسة مصطفى عبد الرازق، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص.75-78

[110]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.357

[111]- المصدر السابق، ص.117

[112]- المصدر السابق، ص.117

[113]- إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، الجزء الأول، ص.197-199

[114]- مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص.357

[115]- أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، مدرسة مصطفى عبد الرازق، ضمن الكتاب التذكاري عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، ص ص.78-79