مونية الطّراز: مضمون التحرير النسائي بين وهم الاتصال بقضايا الأمة وواقع انفصاله عنها


فئة :  حوارات

مونية الطّراز: مضمون التحرير النسائي بين وهم الاتصال بقضايا الأمة وواقع انفصاله عنها

 مونية الطّراز:

مضمون التحرير النسائي بين وهم الاتصال بقضايا الأمة وواقع انفصاله عنها


أحمد زغلول شلاطة: تظلّ الإشكاليّات المتعلّقة بقضايا المرأة في الفكر الإٍسلاميّ مثار جدلٍ مستمرٍّ، خاصّة في ظلّ الأزمات النّاتجة عن غياب الإصلاح الدّينيّ، واختلاف مرجعيّات الحركات النّسويّة الشّرقيّة، الّتي لم يتمايز خطابها عن مثيلاتها في الغرب تبعًا لاختلاف السّياقات، فكان تصادمها مع النّمط المحافظ الغالب على مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، بشكل خاصّ، الّذي حال دون التّفاعل الإيجابيّ مع هذه القضايا، ومن أجل تفيكك هذه الإشكاليّات، كان اللّقاء مع السّيدة "مونية الطّراز"؛ هي باحثة في مركز الدّراسات والبحوث في القضايا النّسائيّة، في الإسلام التّابع للرّابطة المحمديّة للعلماء بالمغرب، وحاصلة على دبلوم الدّراسات العليا المعمّقة في التّفسير وعلوم القرآن، والدّكتوراه ببحث بعنوان: "التّجديد في التّفسير في العصر الحديث منطلقاته وأهمّ اتجاهاته".

لمونية الطّراز العديد من الدّراسات المحكمة وأوارق العمل في العديد من المؤتمرات الدّوليّة، ومن أبرز أعمالها "التّفسير الموضوعيّ: أغراضه وتطوّر مفهومه"، و"تفسير القرآن: وظيفة بيانيّة وحاجة عمرانيّة"، و"المرأة في الخطاب القرآنيّ"، و"سلطات الرّجل في الحديث النّبويّ نحو إعادة الفهم وضرورة التّصحيح"، و"الدّرس البلاغيّ في تفسير ابن عاشور - جماليّة المبنى ودروس المعنى".

أزمات حركات التّحرير النّسائي

أحمد زغلول شلاطة: ظلّت حركة التّحرير النّسائيّ رهينة التّنازع بين التّصورات النّمطيّة، الّتي تنظر من زوايا فلسفيّة نشأت في أحضان الفكر الغربيّ، وتصوّراته عن الإنسان، وبين الرّؤية الفقهيّة التّقليديّة المناهضة لمثل هذه الدّعوات، لماذا يستمرّ هذا التّصادم رغم تأكيد عموم الفقهاء على إنصاف الإسلام للمرأة؟

مونية الطّراز: أوّلًا؛ أودّ أن أشكركم على هذه الضّيافة الكريمة، وأتمنّى أن أكون عند حسن ظنّ قرَّائِكم بي. نعم هناك تعارض وتصادم تبرّره الأصول المرجعيّة لكلّ طرف، ولا يمكن الحكم على النّتائج إلا بمساءلة المقدّمات، فالحكم على الشّيء فرع عن تصوّره، كما يقول المناطقة، ولا يمكن الحديث عن المنظور التّحرريّ للحركة النّسائيّة، دون ربطها بأصول التّفكير الفلسفيّ الّذي شهدته أوربا خلال ما سميّ بـ (عصور الأنوار)؛ إذ تعدّ هذه الفترة محطّة حاسمة في تاريخ الفكر الغربيّ، من حيث القطع مع أنماط التّفكير الدّينيّ الكنسيّ ورؤيته للإنسان؛ فحركة التّحرّر النّسائيّة - على غرار غيرها من الحركات التّحرّريّة - لم تكن نشازًا في تصوّراتها الأولى عن مناخ التّفكير الفلسفيّ العامّ، في طرحها لقضيّة التّحرير والمساواة، خصوصًا، ومفاهيم أخرى كانت تتنفّس دلاليًّا من الواقع الاجتماعيّ المتحرّك، قبل أن توجهها الحركة إلى وجهتها ومطلوبها الإصلاحيّ، وكان من ضمن المفاهيم الّتي نالها النّظر النّسائيّ: مفهوم الحرّيّة والقمع والعنف والمساواة، وغيرها من المفاهيم الحاكمة والفرعيّة؛ حيث شمل النّظر النّسويّ التّثويريّ الأساسيّات النّظريّة لعدد من المفاهيم، وولد منها فروعًا جديدة كان وقعها صادمًا على الثّقافات المتنوّعة؛ كالجنوسة والجندر، وغير ذلك ممّا صعُبَ تَقبّل بعضه من طرف العموم، وحتّى من طرف بعض التّيارات الّتي كانت تتقاسم مع الحركة النّسائيّة نفس الأهداف والغايات.

وممّا ورثته حركات التّحرّر النّسائيّة من عصور التّنوير بشكلٍ خاصّ، أسلوب الصّراع في تدبير المواقف الجديدة، وهذا الأسلوب انتقل إلى العالم العربيّ والإسلاميّ، يلفّ المطالب النّسائيّة دون اعتبار لسياقات النّشأة وأحوال الفكر الدّيني في أوربا، واختلاف محل التّنزيل في العالم العربيّ والإسلاميّ، فكان من الطّبيعيّ في هذه الحالة أن يُستغرب الطّرح من قِبل الأغلبيّة المحافظة، وأن يجابه بقضيّة الهويّة الثّقافيّة والثّوابت الدّينيّة، وما إلى ذلك من دوافع الممانعة. وطبعًا، كان الواقع الاجتماعيّ متحمّسًا للصّدّ، في غياب تحضير سابق يجعله أكثر قدرة وأهليّة لتفكيك الخطاب التّحرريّ، ونخل المعلول فيه من المعقول، وهذا، في نظري، من أهمّ أسباب التّعارض الكبير، وهو ما جعل النّقاش فضفاضًا، مُعرِضًا عن الجوهر، ومنكبًّا على الخلفيّات والنّوايا.

وقد تابعنا المنازعة الّتي ارتبطت بمصطلحات الجندر، والنّوع، والجنوسة، والبطريركيّة وغيرها من المصطلحات الجديدة، وشهدنا حالات الصّدام الّتي رافقت تسويق الأفكار ذات الصّلة، في محيط غير مستعدّ للقبول بهذا الطّرح الجديد، مع أنّ ظاهر المطالب كان يدفع للتّفهّم والنّقاش، وأقصد بظاهر المطالب دعوى المساواة بين الجنسين، ورفع القهر عن النّساء، ورفض العنف والتّمييز ضدّهنّ، وتمكينهنّ من الحرّيّات، ..إلخ، فكلّ هذه الأمور لم تكن مرفوضة في جوهرها، لو تفهمتها التّيارات ذات المرجعيّة الإسلاميّة بعيدًا عن الاعتبارات المصدريّة، وأقول المرجعيّة الإسلاميّة، وليس الفقهاء بالتّخصيص؛ لأنّه لم يكن هناك تأسيس فقهيّ سابق لخطاب إسلاميّ بروح تجديديّة؛ بل كلّ ما وُجِد محض أحكام فقهيّة جاهزة، تشوبها العديد من الشّوائب الّتي كانت تستحقّ المراجعة، بعيدًا عن العواطف وعقليّة التّبرير، وهذا لم يتميّز فيه الفقهاء عن غيرهم، كما أن هذا الخطاب الّذي بنته التّيارات الإسلاميّة على مبدأ التّكريم الّذي حظيت به المرأة في الإسلام، قدّمته على أنّه بديل للتّحرير النّسائيّ، إلّا أنّها لم توفّق في بلورة حقيقة التّكريم الإنسانيّ الّذي توخّاه القرآن الكريم في الجنسين، فالخطاب لم يُسند بقوّة تعليليّة، تساعده على إبراز حقيقة الشّعارات الّتي تقرّر أنّ الإسلام كرّم المرأة، وأنزلها المنزلة الّتي تستحقها، وذلك بسبب ادّعاءات موهومة بحقوق ومحاسن لم تعكسها الكثير من الأحكام التّقليديّة.

أحمد زغلول شلاطة: كيف يمكن تجاوز هذا التّضادّ الحادث في الرّؤى؟

مونية الطّراز: أظنّ أنّه لو عُولجت القضايا المعروضة من قِبل كل الأطراف بشكل يخلو من الاندفاع، لما كان هناك مشكل يذكَر، فالتّوصيف النّسويّ لم يكن مرفوضًا في جوهره، لولا بعض الحمولات الّتي كانت تحتاج إلى النّظر فعلًا، وكذلك مضمون الدّعاوى الحقوقيّة في الخطاب النّسائيّ لم يكن سوى محصّلَ فكرٍ إنسانيّ واجتهاد بشريّ، تجوز فيه المراجعة على كلّ حال، ثمّ إنّ التّشبّث ببعض الأحكام غير القطعيّة من طرف التّيار الإسلاميّ، لم يكن أسلوبًا سليمًا في دين يقبل بالتّعدد، ورسالة خالدة أساسها التّجدد؛ فالقرآن الكريم لم يُنزَّل للمسلمين حصرًا؛ بل أنزل للنّاس كافّة، وهذه الخصوصيّة فيه تدعو إلى الاستيعاب وليس إلى الإقصاء، ومن مقتضيات الاستيعاب؛ التّوافق حول القيم المشتركة: كالمساواة والعدالة الاجتماعيّة، والكرامة الإنسانيّة، والإحسان، والتّسامح، وعدد من القيم المعتبرة، لولا أنّها غلّفت بالخلفيّات المسبقة.

أحمد زغلول شلاطة: أشرتم في مناسبات مختلفة إلى أن مضمون التّحرير النّسائيّ ظلّ يعبّر عن قضايا لا تعكس مشكلة الأمّة الّتي تشكّل المرأة عصبها؛ فالمرأة المسلمة فاعلة عمرانيّة في مضمون التّصوّر القرآنيّ، ومعنيّة بالاستخلاف كأفق ليس بعده أفق، بيد أنّ قضيّتها حُصرت في حقّ ضاعَ وجب انتزاعه من الرّجل، فمن المسؤول عن هذا التّوجّه؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الأزمة؟

مونية الطّراز: مفهوم الاستخلاف؛ مفهوم قرآنيّ أصيل لم يُلتفت إليه بما يُناسب دلالته العميقة، فهو يرتبط بالأساس الوجوديّ، الّذي يرفع الذّكر والأنثى إلى المستوى الرّفيع لخطاب التّكليف سامي المصدر، ويسمو به إلى المقام العالي لوظيفة الإعمار، وهذا السّموّ يبرّره اتّساع فضاء السّيادة المخوّلة للإنسان فوق الأرض، وتشابك المفاهيم القرآنيّة الّتي تتعلّق بالوظيفة الوجوديّة للإنسان؛ كمفهوم الاستخلاف، ومفهوم الإعمار والأمانة، وغيرها من المفاهيم، يعكس في بنيته فلسفة قائمة للوجود، ورؤية مكتملة لكلّ قضايا الكون والحياة والإنسان، وضمن هذه الرّؤية تندرج قضايا المرأة، بما هي فرع من أفق واسع لا أستسيغ أن تتنازل المرأة عنه، فتجعل قضيتها مَحصورة في حقّ صغير ضاع، ومطلب فرعيّ تقاتل من أجله.

أصبحت المرأة في صراعها المستميت حول الجندر، ومن أجل التّمييز الإيجابيّ، وفي ذودها عن بعض الفروع من شجرة الحرّيّات والمساواة والمناصفة، تبدو وكأنها كائن ثانويّ اضطهده الكائن الأصليّ وضيَّع حقوقه، فهو يسعى لاسترداد حقّ مغتصب، والحقيقة أن قضيّة المرأة المسلمة وواجب تحريرها، أكبر بكثير من حجاب يجب أن يُنزع، أو حرية جنسيّة يجب أن تتساوى فيها الأنثى مع "المحظوظ" الذّكر؛ بل إنّ الكثير من مطالب المساواة في الحقوق، كما يعكسها خطاب التّحرّر النّسائيّ، تظهر شاردة عن الواقع ومتوهّمة، من ذلك: مطلب المساواة في سنّ الزّواج داخل البوادي، فهذا المطلب، وهو لا يغني عن غيره، يكشف إلى أيّ حدّ قفزت بعض المطالب على الأولويّات الحقيقيّة، الّتي يحتاجها الإصلاح في قضيّة المرأة.

المرأة في العالم العربيّ والإسلاميّ، كانت تحتاج إلى استرجاع وعيها، وقد تأخّر هذا المطلب حين استُنزف العمل النسائيّ في معارك كبيرة حول مطالب صغيرة، أو هكذا تبدو حين تكون المرأة الّتي يطلب تحريرها - بدافع إديولوجيّ - خارج الوعي بوظائفها الحقيقيّة، وحين تكون جاهلة أميّة لا تكاد تبيّن.

لذلك، أظنّ أنّ قضيّة التّحرير النّسائيّ يجب أن تتوجّه - أوّلًا - إلى تحرير الذّات النّسائيّة من القيود الّتي كبّلت عقلها بها، فبعض النّساء أكثر ذكوريّة من الذّكور، وأرضى وأقنع بوضعهنّ التّافه؛ بل هنّ غير مستعدّات لتغيير وظائفهنّ الخاملة، وهذا ملخّص رأيي حول ما يطلب في مسعى التّحرير النّسائيّ.

المرأة، في نظري، تخلّفت باختيارها، قبل أن تُفرض عليها العزلة، حين أخلفت المَوعد مع مضمون الخطاب الوجوديّ بالاستخلاف، وحين رضِيَت بالهامش، وعدّت نفسها موجودًا من المستوى الثّاني، غير معنيّة بالبناء الإنسانيّ، ولا المشاركة الاجتماعيّة، ولا بالفعل العمرانيّ؛ بل غير معنيّة بالوعي قبل أن تكون معنيّة بما يقتضيه، وللتّوضيح أقول: إنّ المرأة حين غابت عن وظيفتها، لم تغب من جهة الفعل والجسد فقط، لكنّها غابت حين غاب عنها هذا الوعي، الوعي بحقيقة كرامتها الّتي تزيد بكثير عما تروّج إليه الدّعوات المختلفة من كرامة موهومة، وكذلك الوعي بإنسانيّتها الّتي تسمو عن مجرد نوع إنسانيّ، ثمّ التّشبّع بثقافة الواجب نحو الإعمار، وتقلّد المسؤوليّة، والسّعي إلى ذلك سعيها لنيل الحقّ المهضوم، ولا يعني مطلب استعادة الوعي أنّ غرضه مرتبط بقصد دينيّ؛ فالقصد العمرانيّ في القرآن الكريم مطلق ومرتبط بالصّلاح والفساد، وأساسه ومحوره هو الإنسان الّذي يستحقّ الكرامة والسّمو، الإنسان العاقل المبدع، والمفكّر المؤهّل للنّظر، ولا يختلف في هذا الاعتبار جنس عن جنس، ولا يقيّده دين أو معتقد؛ فسعي المرأة إلى استرجاع هذه الإنسانيّة مطلب تفرضه الأهليّة الفطريّة، لذلك؛ فإنّ معركتها الحقيقيّة تتمثّل في تأهيل الذّات، على نحو يرفع من مستويات الحريّة الّتي تستحقّها، ومن سقف الكرامة، بالقدر الّذي يناسب حقيقة وظائفها الوجوديّة، كما أنّ أولويّتها المعقولة: هي أن تجعل من هذه التّوعية همًّا مستعجلًا، ومقصدًا إنسانيًّا، ومطلبًا شرعيًّا، وغاية تنمويّة، قبل أن تجعل من قضيّتها معركة كبيرة لانتزاع حقوق تبعيّة، ضيقة الأفق ومحدودة الأهداف، من هذا الباب؛ أظنّ أنّ حركة التّحرير النّسائيّ في العالم الإسلاميّ، تحتاج إلى المراجعة، وأجزم أنّ الوعي له نواظم في أقطاره يجب فهمها، وقضيّة المرأة محكومة بها، وأحسب أنّ حسن تقدير الأولويّات من أهمّ ما يجب استصحابه في هذا السّعي.

أحمد زغلول شلاطة: هل أدلجة قضيّة التّحرير النّسائيّ هي المخرج من مساحات الجدل إلى الفعل أم هي مزيد من التّأزيم؟

مونية الطّراز: قضيّة التّحرير النّسائيّ قيمة إنسانيّة لا يمكن أن تؤدلج من قبل أيّ طرف؛ فهي قضيّة إنسان ترفعه إنسانيّته على الحسابات الإيديولوجية، ولا أجد أسوأ من التّوظيف الإيديولوجيّ والاسترزاق السّياسيّ على قضيّة المرأة، التّحرير النّسائيّ يجب أن يُبنى على أساس إنسانيّ يتّفق عليه الجميع؛ فهناك قيم مشتركة كبرى يجب العمل عليها، أمّا الحواجز الّتي تحول بين الجميع، فهي حواجز نفسيّة لا تدعو إلى التّنافر على الإطلاق، إن أُحسن الكلّ تدبير الحوار، وتخلّصوا من النّزعات الإيديولوجيّة ذات النَفَس المأزوم، وإن أبدوا ما يكفي من استعداد لتحقيق المصالح الحقيقيّة الّتي لا نزاع حولها، وتتعلّق المصلحة - في هذا الموضوع - برفع القهر عن النّساء، وتحقيق العدل والكرامة الإنسانيّة لهنّ، وتمكينهنّ من المحفّزات الذّاتيّة للتّحرير، ومادامت المناسبة شرط، وجب التّذكير، أيضًا، أنّ حركات التّحرّر النّسائيّ في العالم العربيّ والإسلاميّ أبدت مراجعات كثيرة، أهمّها: إبداء الاستعداد لتفهّم الثّقافات المحليّة، الّتي يشكّل الدّين أساسًا لها، وهذا مؤشّر إيجابيّ ينبئ بحسن النّوايا، وتغليب المصلحة الإنسانيّة في الموضوع، داخل محيط محكوم بمكوّن مرجعيّ إسلاميّ لا يمكن القفز عليه، وقد تنبّهت بعض القوى النّسائيّة الجديدة لهذا الأمر، فأمسكت العصا من الوسط، وكان لها أثر كبير في تلطيف الأجواء المشحونة، ومن يقارن بين خطابات الحركات النّسائيّة أواسط القرن العشرين وبداية الألفية الثّالثة، سيظهر له بالملموس ذلك الميل إلى قبول المكوّن الدّينيّ في المجتمع، ومحاولة فهم خطابه، والنّظر في مقاصده، وتلك نقلة نوعيّة تُحسب لهذه التّيارات، وتجعلها قريبة من باقي المكوّنات الّتي لها نظر مغاير حول موضوع المرأة، ورأي يراعي المكوّن الدّينيّ في التّغيير، وليس في العالم الإسلاميّ فحسب؛ بل الدّين أصبح له حضور في كلّ المقاربات، وبكلّ الملل في العالم بأسره.

لو عُولجت القضايا المعروضة دون الاندفاع من قبل كلّ الأطراف، لما كان هناك مشكل يذكر، فالدّعاوى الحقوقيّة والتّوصيف النّسويّ، لم يُرفضا في جوهرهما لولا بعض الحمولات الّتي كانت تبدو عنيدة ومتحيّزة إديولوجيًّا، وتحتاج إلى النّظر فعلًا، فما كان مضمون الدّعاوى في الخطاب النّسائيّ إلّا فهمًا بشريًّا، لا يمكن فرضه ولا تقديمه كما يقدّم المقدّس، كذلك التّشبّث ببعض الأحكام غير القطعيّة من طرف التّيار الإسلاميّ، أمر غير مقبول حين يكون هناك ما يدعو إلى مراجعته، بما يلزم من لينٍ وتفهّم في التّعامل مع الآخرين، فالاستيعاب من خصائص الدّين الاستيعاب لا الإقصاء، وهذا ما لم يلتفت إليه إلّا نادرًا، فبقي الخطاب حول المرأة بعيدًا عن حاجاتها الحقيقيّة، وأولويّاتها في الإصلاح والتّحرير، وكان موسومًا بالصّراع الإديولوجيّ، ومطبوعًا بالمغالبة الفكريّة، ومجالًا لاختبار القدرات الحجاجيّة، وهذا أسلوب ظهرت عيوبه، وانكشفت مساوئ استخدامه.

المرأة والحقل الدّينيّ

أحمد زغلول شلاطة: ظلّت الغلبة للخطابات الدّاعية لتهميش النّساء في عموم الحقل الدّينيّ في غالب الدّول الإسلاميّة، في حين كان هناك نوع من التّمايز في التّجربة الدّينيّة المغربيّة، الّتي سعت إلى دمج المرأة في الشّأن الدّينيّ، كيف تقرئين فلسفة هذه التّجربة وملامحها في ضوء السّياقات المتعلّقة بموقع المرأة المسلمة في الوعي الذّكوريّ؟

مونية الطّراز: تجربة إصلاح الحقل الدّينيّ الّتي دشّنها المغرب خلال العشريّة الأخيرة، كانت وفق مقاربة تشاركيّة وشموليّة، دمجت المرأة في تدبير الشّأن الدّينيّ بعد أن كانت مستبعدة عنه من قبل، بفعل معتقد موروث يرى أنّ الرّجل دليل المرأة للتّدين، ووسيلتها لتعلّم ما يُعلّم من الدّين بالضّرورة، ولا شأن لها بتعلّم أحكام الدّين في غير المجال المتعلّق بالطّهارة والنّفاس؛ بل حتّى أحكام الزّواج والطّلاق لم تكن مقصودة بالتّعلم في غير المُمَدرسات، أمّا التّشعّبات العلميّة للشّريعة، فلم تكن واردة على الإطلاق، فما دام هذا هو المنظور الّذي يُنظر من زاويّته إلى وضع المرأة، كيف لناظره أن يقبل بها عالمة أو واعظة أو مفكّرة أو فقيّهة أو مفسّرة أو مُفتية، وكيف يقبل بها مساهِمة في تدبير الشّأن الدّينيّ في البلد؛ فأمر الدّمج - في حدّ ذاته - مكسب كبير وخطوة جبّارة على طريق التّصحيح، لكن هناك مقاصد مهمّة توخّاها دمج المرأة في تدبير الحقل الدّينيّ، وإعداد أطر دينيّة نسائيّة فاعلة، من أهمّها؛ تطويق نسبة الأميّة المرتفعة في صفوف النّساء، وخلق مناعة ضدّ التّشدّد في الدّين، الذي كان أكثر انتشارًا في الأسر الفقيرة والمعدمة، وتحقيق وحدة اجتماعيّة لا تضيق بتنوّع أجناسها، وقد سعى مشروع إصلاح الشّأن الدّينيّ - في هذا الصّدد - إلى تأهيل الحقل بالوسائل المادّيّة والبشريّة واللّوجستيكيّة، لتوسيع دائرة التّأطير وضمان نتائجه، وهذا ما تحقّق بالفعل بعد مدّة من العمل، وكان العنصر البشريُّ الأساس المتين والرّكن الرّكين في هذا المشروع؛ حيث فُتحت الأبواب للمرأة المؤهّلة لتعمل على التّصحيح والبناء وفق التّصوّر الجديد، وكان ذلك في اتّجاهين؛ أحدهما نظريّ يسعى إلى صياغة منظومة فكريّة جديدة، متحرّرة من المقاربات السّطحيّة لقضايا المرأة في الشّريعة، وفق تصوّرات واضحة ومتكاملة ومنتظمة، يربط بينها المألوف الفقهيّ الجامع، والمذهب العقديّ الواحد، أمّا الاتّجاه الثّاني؛ فكان عمليًّا، اشتغل على عدّة واجهات: أهمّها؛ تفعيل "فقه القرب" بالمجالس العلميّة المحليّة الّتي تباشر مهام التّواصل الدّينيّ اليوميّ، وصار ضمن عضوياتها نساء بموجب مخطّط الإصلاح المُحدث، وهنّ عالمات يباشرن التّوجيه والفتوى، ويستقبلن المستفتين، ممّا شجّع النّساء على قصد هذه المؤسّسات، للتّواصل مع العالمات وليخبرهنّ بما لم يكن بمقدورهنّ البوح به من قبل للعلماء، الّذين كانوا يحيطون أنفسهم بجدار منيع من الوقار، وما يلزمه من واجب التّحفظ المطلوب في العلماء، أو هكذا كان يُظنّ، وإلى جانب العضويّة العلميّة، أُحدثت فرق جديدة من المؤطّرات الدّينيّات والواعظات الرّسميّات، اللّواتي ينتشرن في المساجد لزيادة تقريب الخدمة الدّينيّة إلى طالباتها، كما أحدثت هيئة دينيّة عُليا، أطلق عليها اسم (المجلس العلميّ الأعلى)، أسند إليها البتّ في المستجدّات ذات الطّابع العامّ.

وجدير بالذّكر أنّ جميع المؤسّسات الّتي تباشر الشّأن الدّينيّ في المغرب - وهي عديدة ومختلفة الوظائف - تحتضن مكوّنات نسائيّة تقارب نسبتها الرّبع في كلّ الهيئات.

أحمد زغلول شلاطة: ما هي فرص تكرار هذا النّموذج في دول أخرى؟ وما أبرز العوائق الّتي تحول دون التّطبيق؟

مونية الطّراز: فرص تكرار هذه التّجربة مُرتبطة بدرجة أساسيّة بالسياقات المُحيطة، فبعد أكثر من عقد من التّخطيط للإصلاح، استطاع المغرب أن يؤسّس لخطاب إسلاميّ أصيل، لا يضيق بنسائِه، ويدفع أكثر نحو استرجاع الوحدة والتّآلف والانسجام، الّذي سبق وعرفته البلاد، ولكن على نحو تجديديّ مُنفتح على العوالم الخارجيّة والقيم الإنسانيّة، كما استطاع الإصلاح أن يُناقش داخليًّا وبدوافع ذاتيّة وإرادة حُرّة، عددًا من القضايا الّتي كانت في الماضي من قبيل المستبعد المستحيل، وحتّى التّيارات الإسلاميّة أصبحت أكثر تفهّمًا - في إطار سياسة الانفتاح - للخطاب المخالف، وأصبح المخالفون أكثرَ تقبّلًا لظروف الواقع، وحلَّ التّأصيل محلّ النّزاع، ولم تعد النّساء محورًا ومضمونًا للخطاب الدّينيّ؛ بل أصبحن فاعلات فيه، وهذا أمر جدير بالاهتمام ويدعو إلى التّوقف والنّظر، فمشكلة العالم العربيّ والإسلاميّ؛ أنّه لا يولي اهتمامًا كبيرًا بموضوع المرأة من بوابة الاجتهاد الفقهيّ، ومن جهة التّأسيس بدل التّكديس، فترديد مقولة (الإسلام كرّم المرأة رغم أنف الحاقدين)، خطاب لا يمكن أن يغلّف النّظرة المتخلّفة إلى المرأة عند حملة هذا الخطاب الجاهز، حتّى لو تلبّس التّحقير بالنّصوص، ولوي عنقه ليدلّ على غير ذلك، كما أنّ ثقافة القرب لا بدّ أن تحظى بما تستحقّ من عناية وعزم، ولا بدّ من تسويقها بناء على غرض واضح في جمع الشّتات على أساس التّسامح واللّين، ولا بدّ - قبل ذلك وأثناءه - من تحقيق مصالحة بين الجميع، فلكلّ أطياف المجتمع غيرة على الوطن وعلى الدّين، حتّى إن بدا غير ذلك للبعض بدافع الإقصاء، وأمّا الاستثناء النّادر فلا حكم له، وأظنّ أنّ من أهمّ ما يجب التّركيز عليه، بهذا الشّأن تحقيق المصالحة مع التّيارات الإسلاميّة الوسطيّة، وإشراكها في العمل، فالكثير من العاملين من هذه التّيارات يتطلّع إلى الخدمة بدافع التّعبد، وقد يتحوّل إلى التّقوقع الإيديولوجيّ، وحتّى العدوانيّة إذا حيل بينه وبين الدّعوة والإصلاح، وهذه قيمة يمكن استثمارها وتهذيبها في اتجاه الانفتاح، ولا يختلف أمر دمج النّساء عن دمج الرّجال، فأغلب قصص النّجاح في الإعلام الدّينيّ الرّسميّ في المغرب، صنعه نساء من أصول حركيّة اقتنعت بالثّوابت الدّينيّة الوطنيّة، وساهمت من خلالها في ترسيخ الوحدة المجتمعيّة، وتثبيت الأمن الرّوحيّ، ولا يُمكن للمؤسّسات الرّسميّة أن تشتغل وحدها، مع وجود طاقات مجرّبة تحتاج إلى من يمد لها اليد ويبادرها بالثّقة، كما أنّ التّركيز على الفقهاء من أهل التّجديد أمر مهمّ، والتّشجيع على التّجديد من خلال المراكز البحثيّة جزء من هذا المطلوب، لكنّ السّعي إلى التّأليف وبناء أجواء الثّقة بين المؤسّسات الرّسميّة وباقي المكوّنات، أمر من أهمّ منافذ التّصحيح والبناء السّليم، وأظنّ أنّ العالم الإسلاميّ ضيّع عليه الكثير من الفرص بهذا الصّدد؛ حيث كان بالإمكان أن يتحقّق الانسجام منذ مدّة بين التّيّارات الإسلاميّة المختلفة والمؤسّسات الدّينيّة، منذ بدايات القرن العشرين، في مصر وسوريا والعراق، وفي تونس، وفي عدد من الدّول الّتي كنّا نرى فيها طاقات علميّة ونسائيّة لم تُسثمر، كما كنّا نتابع عددًا من المعارف والاجتهادات الهائلة، ولكنّها كانت مهدرة.

تأسّست تيّارات نسائيّة في مصر، لكنّها كانت غير واعية بحقيقة وظيفتها، في الوقت الّذي كان الأزهر يسير في طريق تجديد غير مسبوق، في فهم الدّين والقرآن الكريم في بداية القرن العشرين، كذلك كان الحال في عدد من أوطان العالم الإسلاميّ، ومضى الزّمن، فساء الوضع وزاد التّنافر، وضعفت الهمم والعزائم، وتعثّر الإصلاح، فلا نريد للوقت أن يزيد تبديدًا، ولا للطّاقات أن تزيد هدرًا في عموم العالم الإسلاميّ المليء بالمؤهلات والإمكانيّات، لكنها مغيّبة.

أحمد زغلول شلاطة: نلاحظ في السّنوات الأخيرة تغيّرات في نوع حاملي الأفكار المتطرّفة، فلم يعد الأمر يقتصر على الذّكور - كما تعوّدنا - بل أصبحنا نجد انتشارًا لهذه الأفكار بين النّساء والمراهقات بصورة غير مسبوقة، فهل من اختلاف في دوافع التّطرّف الدّينيّ لدى النّساء عنها في الرّجال؟

مونية الطّراز: أرى أنّ هناك عدّة عوامل تدفع - بشكل عامّ - إلى التّشبّع بالأفكار المتطرّفة، دون تمييز بين الذّكور والإناث؛ فالانفتاح على المحيط الدّوليّ قد يكون سببًا في التّشبّع بالأفكار المتطرّفة، كما يكون سببًا لإشاعة الرّوح الإيجابيّة والمعارف المفيدة على حدّ سواء، فواقع العولمة فرض هذا الوضع، ولا يمكن الاستعاضة عن الانفتاح بالتّقوقع على الذّات، كما أنّ وسائل الإعلام المفتوحة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، تتيح انتقال التّجارب الإيجابيّة والمحفّزة من المجتمعات الأخرى، كما تنقل الظّلم والاستبداد الدّوليّ، وتنقل معه حالة اليأس الّتي تعيشها المجتمعات الإسلاميّة، والهيمنة الّتي تمارسها القوى العظمى على العالم الثّالث والعالم الإسلاميّ ضمنه، كذلك التّضييق السّياسيّ، وتقييد الحرّيّات، وعدم تكافؤ الفرص في الدّاخل، كلّ ذلك يدفع إلى هذا المنحى الّذي قد يظنّ اليافعون والشّباب المتحمّس أنّه وسيلة للتّمرّد بعنف، خصوصًا أنّ الاندفاع الّذي تعرفه هذه المرحلة العمريّة، قد لا يحدّه أفق إذا لم يهذّب، فكلّ هذه العوامل تشحن النّفوس، وتدفعها إلى التّبرّم واليأس، وهناك عوامل أخرى: كالجهل، والفقر، وغياب العدالة الاجتماعيّة، وضعف الوازع الدّينيّ، وضعف الخطاب المقنع في طرحه، وغياب الاعتدال والتّسامح فيه، وانتشار الفكر المتطرّف في ظلّ واقع عالميّ مشحون.

أمّا ما يفسّر ظاهرة تأثّر الفتيات بهذا الخطاب بشكل غير مسبوق، فمردّه - في نظري - إلى الواقع الّذي أصبح يكسّر التّمييز بشكل تدريجيّ، فلا عجب إن تساوى الذّكور والإناث في هذا الاندفاع، لكنّ الملاحظ أنّ الفكر المتطرّف إنّما يخاطب العواطف، وليس العقول، فكلّما غاب العمق في التّفكير وتحليل الظّواهر، حلّ محلّه العنف في تحديد المواقف وردود الأفعال، هذا مع أنّ هناك ملاحظة تستحقّ الإشارة هنا، هي أنّ أغلب حالات التّطرّف في صفوف النّساء، كانت مرتبطة بمحيط أسريّ سبق الرّجال فيه إلى التّطرّف والتّطرّف العنيف، وفي الغالب تتعلّق هذه الحالات بأوساط فقيرة، تعيش على الهامش دون تكوين علميّ متين، ودون انشغالات علميّة أو فنيّة تشعر فيها الفتاة بقيمتها الإنسانيّة، زد على ذلك حال التّفاهة الّذي أصبحت تعيشه أغلب الفتيات بفعل الإعلام التّافه، الّذي يسهم في إهدار الطّاقات بمعروضاته الحالمة، وأتحدّث هنا عن الغالب، وليس عن الاستثاء.

لذلك؛ ينبغي العمل على رفدِ المتلقّي بخطاب إسلاميّ يفهمه ويحرّك فيه التّساؤلات، ويشغل ذهنه بالقيم الصّحيحة والمعقولة، ولا ينبغي أن يترك الشّباب هَمَلًا، فالطّبيعة لا تقبل الفراغ.

عوائق الإصلاح الدّينيّ

أحمد زغلول شلاطة: لمفهوم التّأويل غرض واضح في تصحيح التّعامل مع النّصّ القرآنيّ - بشكل خاصّ - انطلاقًا من وعي مسبق بأهميّة التّأسيس المصطلحيّ في ردّ الفهوم المغلوطة، الّتي قد تتطوّر إلى ممارسات عنيفة، فهل يمكن أن يقدّم التّأويل إضافات للإشكاليّات المتعلّقة بقضايا المرأة المسلمة؟ وما هي أبرز العوائق أمام حدوث ذلك؟

مونية الطّراز: لنتّفق - أوّلًا - على مفهوم التّأويل، هذا المصطلح - ما دمنا نتحدث عن علوم القرآن - يتعلّق بكلام الله تعالى، ويقصد الرّجوع به إلى المراد من كلامه، وبيان مقاصده من الخطاب، ولا يختلف بهذا المعنى مع مقصود التّفسير في حمل الألفاظ على دلالاتها الظّاهرة، وهذا لا يكون إلا بقرائن واضحة، كدلالة اللّفظ على المعنى دلالة ظاهرة، وقد تكثر المعاني المحتملة للدّلالة على لفظ واحد، فيستقلّ مفهوم التّأويل عن التّفسير لاحتياجه لقرائن خارجيّة، وهنا، يقصد به: صرف اللّفظ عن المعنى الرّاجح إلى المعنى المرجوح بدليل يقترن به، وفي هذه الحالة قد يقع اختلاف في اعتبار الأدلّة الّتي ترجح المعاني على بعضها، فيتسبّب ذلك في صراعات فقهيّة وعقديّة، قد تؤدّي إلى الفرقة أحيانًا، وحتّى إلى التّكفير، وهذا المنحى يكون مستبعد الوقوع حين ينضبط التّأويل لمقاصد خطاب التّنزيل وكليّات الشّريعة، فمن هذه الزّاوية يمكن السّعي إلى تأسيس جديد يرتكز - بشكل خاصّ - على تحديد المفاهيم، وهذا المدخل سيكون فتحًا مبينًا على تنظيم الخطاب وتهذيبه، فمشكلة المفاهيم مشكلتنا الحقيقية، وهي تكون قاتلة حين تكون فتيلًا للعنف؛ فمفهوم الجهاد ومفهوم الخلافة ومفهوم الأمة ومفهوم الشّهادة ومفهوم الحاكميّة، وغير ذلك من المفاهيم، تحتاج - بشكل خاصّ - إلى تأسيس جديد يستنقذ دلالاتها من التّأويلات المتعسّفة، وهو ما تسعى إلى تحقيقه جهود مؤسّسات وشخصيّات علميّة وازنة؛ حيث سبق أن قدّمت الرّابطة المحمديّة قبل أشهر إلى العلماء في المغرب - على سبيل المثال - مشروعًا يسعى إلى تحقيق هذا الغرض، ويشتغل معهد الدّراسات المصطلحيّة في فاس، ومؤسّسات أخرى أكاديميّة وجامعيّة على مثل هذا المشروع.

وبالنسبة إلى موضوع المرأة؛ يشكّل العنف مصدر قلق مجتمعيّ، بسبب التّحولات القيميّة الجديدة، وانتشار المخدّرات، كذلك بسبب ضعف الوازع الدّينيّ المقرون بالفراغ والجهل والأميّة والفقر، هذا إلى جانب المفاهيم المغلوطة المتعلّقة بوظيفة المرأة في المجتمع، وانتشار أفكار الماضي الّتي تعكس نظرة التّحقير والتّنقيص تجاه المرأة، فكلّ هذا يدعو إلى النّظر في عدد من المفاهيم الأساسيّة؛ كمفهوم القوامة، ومفهوم الولاية، ومفهوم الحقّ، ومفهوم العفاف، ومفهوم الطّاعة، وغير ذلك من المفاهيم الّتي تحتاج إلى تأسيس جديد، يردّها إلى مقاصدها السّليمة، ولا يمكن تخليص دلالاتها من الشّوائب إلّا بمراجعة سياقات ورودها في النّصوص، وحملها على قرائن صحيحة ومعقولة.

وبطبيعة الحال، هناك عدد من المعيقات النّفسيّة الّتي تؤخّر تجديد الأبنية المفهوميّة، المفيدة في الحدّ من ظاهرة العنف المسلّط على المرأة، وأظنّ أنّ أخطرها؛ هو التّوجس الّذي قد ينتاب المرأة نفسها من مراجعة تلك المفاهيم الموروثة، الّتي أصبحت تتعبّد بها الله تعالى، وحاشاه أن يُتعبّد بالجهالة في الدّين.

أحمد زغلول شلاطة: هذا يدفع إلى الحديث عن الخطاب الإسلاميّ الّذي يُعاني من أزمة غياب الاجتهاد، في المقابل؛ عندما يقدّم شخص ما اجتهادًا في قضيّة ما يواجه بالتّكفير، فكيف يمكن تحقيق الاجتهاد في ظلّ هذا المناخ؟

مونية الطّراز: هذه مشكلة أخرى، وهي من أهمّ معوّقات التّصحيح، وقد حذّر العلماء قبل قرون من آفة التّقليد الّتي كانت تكبّل العقول، وتمنع من الإبداع، ففي القرن الثّامن ألّف ابن القيّم كتابًا سمّاه "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين"، كان حول الاجتهاد والتّقليد، فأنكر فيه على المقلّدة، وحذّر من الموت بسبب الجمود، كما دعا إلى الحياة من خلال الاجتهاد، وفي القرن الثّامن - أيضًا - نبّه ابن خلدون في مقدّمته على خطورة الوضع الجامد في عصره على المستوى الفقهيّ، وتحسّر على ما سيؤول إليه الوضع، في الغرب الإسلاميّ - خصوصًا - وكذلك فعل السّيوطيّ في كتابه "الرّدّ على من أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الاجتهاد في كلّ عصر فرض"، فلا عجب في أنّ هذا الوضع الذي نعيشه، هو من محصّلات الإهمال في الماضي، فبوادر الإعاقة كانت سابقة، وكان أهل النّظر على وعي وبصيرة بعواقب تلك المقدّمات الّتي أدركوها، ثمّ كانت صدمة الاستعمار، فرأينا كيف ضاعت منّا عزّة الدّنيا، ولسنا على يقين أنّنا لم نُضع الآخرة.

لقد تابعنا استدراكات ثلّة من أهل البصيرة والاستبصار، فوجدناهم ينظرون إلى ما بين اليد من دوافع تدعو إلى الحياة، وإلى المستقبل بكلّ أمل وبكلّ قوّة، وأبدوا لذلك ما يكفي من إمكانيّات للاجتهاد والتّصحيح، إلّا أنّ التّجديد والاجتهاد كان صعبًا على نفوس ألفت تقديس الأقوال واحتقار الذّات، بداعي أنّ الّذي مضى لم يدع للّذي قد يحضر فضل علم سوى أخذه بالأثر، وأنّ معارف المتأخّرين أقلّ من المتقدّمين، وتديّنهم أهون من السّابقين، وتلك ذرائع كانت تخفي الهوان النّفسيّ، كما كانت تخفيها ذرائع بعض المتقدّمين، ولا حديث عن الكسل وضعف الهمّة والتّنصّل من المسؤوليّة، فكلّ ذلك من أسباب التّقاعس عن الفعل الاجتهاديّ، الّذي يستدعي بذل الجهد، واستفراغ الوسع، وإعمال النّظر، لاستخراج الأحكام الفرعيّة والتّصورات الجزئيّة من أدلّتها التّفصيليّة، وكما قلت في السّابق: بعض النّاس من فرط الجمود على النّقول، خلطوها بالعقائد، فصار من الصّعب نقاشهم حول قضايا تعدّ - في نظرهم - مُسلَّمات، وهذا يدفع للتّكفير والتّطاحن والمشاحنات.

وأرى أنّ العمل البحثيّ في إطار المؤسّسات العلميّة الجادّة، والمتخصّصة في شتّى أصناف المعارف الإنسانيّة، كفيل برد الوضع إلى الصّواب عبر بوابة الاجتهاد الجماعيّ بمفهومه الشّرعيّ، وليس بمفهومه اللّغويّ، وذلك بغرض إنتاج رصيد معرفيّ قويّ، يكون أساس التّجديد في المستقبل، وأرضيّة تجميع الطّاقات العلميّة وتوجيهها نحو هذا الأمر، وعدم إهدارها في ترويج خطاب غير مؤسّس، فربّ كلمة قويّة عميقة تقال، خير من خطبة مملّة لا يكون لها أثر.

أحمد زغلول شلاطة: أصبح إصلاح الخطاب الدّينيّ مطلبًا آنيًّا - بالفعل - وضرورة ملحّة يستدعيها الواقع الّذي صار إليه حال المسلمين اليوم، الذي يعاني - بلا شكّ - من التّخبّط والفوضى. كيف ترين واقع هذه الدّعوات وأزماتها في ظلّ تأكيدك - في كتابات سابقة - أنّ الدّعوة إلى إصلاح الخطاب الدّينيّ لم تتأسّس نظريًّا بعد، حتّى نقيس من خلالها مستويات الإصلاح في الخطاب الإسلاميّ المزعوم؟

مونية الطّراز: إصلاح الخطاب الدّينيّ مشروع له مدلول منفلت، أقبله في بعض وجوهه الّتي تتّصل بالحاجة إلى مراجعة طريقتنا في التّعامل مع النّصوص، فذلك - في نظري - مطلب آنيّ وملحّ، وحاجة مستعجلة، تنتابنا في كلّ مرّة ننظر فيها إلى الواقع الإسلاميّ وما يعانيه من تخبّط وفوضى، يسهل تتبّع أصولها في وجهات النّظر المختلفة حول النّصوص الشّرعيّة، وما تختزنه تأويلاتها من دلالات متباينة، تنتج أحكاما متعارضة، فإذا كان المقصود بالخطاب الدّينيّ؛ هذا المضمون الّذي يروج بين الطّوائف والتّيارات المنتسبة للمرجعيّة الإسلاميّة، ويعبّر عنه الفقيه والخطيب والدّاعية والمفكّر وإمام المسجد، فهو لا يعدو أن يكون تعبيرًا بشريًّا يستند إلى اجتهادات بشريّة - فقهيّة أو تفسيريّة - ترجع في أصلها الأوّل إلى التّأويلات المتباينة للنّصوص، فإذا ساءنا الخطاب من إحدى نواحي ارتباطه بالنّص، وعدم قدرته على عكس جوهر التّنزيل، وحياده عن الفهم المعقول، فالتّصحيح يكون واجبًا من هذا الباب، كذلك، إذا لاحظنا خمولًا في العقل الإسلاميّ، واكتشفنا أثر الجمود في النّقول السّابقة، وعدم انسجامها مع ظروف الوقت، فذلك يدعو - بدوره - إلى التّصحيح، وهذا باب عظيم من أبواب الإصلاح الّذي نحتاجه، ذلك أنّ الإدراك الإنسانيّ العامّ ارتفع إلى معدّلات غير مسبوقة، فلا يعقل أن ننكفئ على منتوجات فكريّة أغلبها بشريّ، ثمّ نجعل منها الغاية والمنتهى - خاصّةً - أننا نجد الكثير من الممارسات والفتاوى الّتي تستند إلى الدّين في طرحها الظّاهر، تناقض في الجوهر روحه ومقاصده في الإنسان، ومن الأمثلة الفاضحة عن ذلك؛ سوق الفتاوى الّتي تطلق اليد في القتل بدون ضابط، وقد عصم الله الدّماء، والفتاوى الّتي تهدر كرامة الإنسان، وقد صانها الله تعالى منذ خلَقَه أوّل مرّة، وبثّ فيه من روحه.

في نظري؛ كلّ خطاب يُنسب إلى الدّين، ويفرّق في مضمونه أكثر ممّا يجمع، يحتاج - بلا شكّ - إلى إصلاح، وكلّ خطاب يُعقّد الحياة والتّديّن، وقد أمر الله بالتّيسير في الدّين، يحتاج - أيضًا - إلى إصلاح، وكلّ خطاب يُنسب إلى الدّين، ويخلط بين قدسيّة المصدر وقدسيّة المٌصدِّرين للقول الدّينيّ - المشايخ والفقهاء - يحتاج كذلك إلأى إصلاح، كما أنّ كلّ خطاب يُنسب إلى الدّين، ويدّعي النّفع لأهل القبور والتّزلّف للأموات، يحتاج - بدوره - إلى الإصلاح والتّصحيح؛ بل إنّ الخطاب الدّينيّ الّذي لا يصنع بمضمون خطابه سعادة الإنسان، ونهضته، وعمرانه، ويبني بالقرآن تماسكه الاجتماعيّ، ويُنشئ باستنباطه فضاء يستوعب الجميع، ولا يضيق بالخلق، هو يحتاج إلى الإصلاح كذلك؛ لأنّ الوحي حين تنزّل كان هدفه أن يعيش الإنسان حياة طيّبة بالقرآن، فإذا لم يحياها، فلا بدّ أن يُنتبَه إلى وجود خلل في فهمه، وفي ما يعبّر عنه من أقوال وتصوّرات وفهوم، قد تحتاج إلى النّظر، هكذا أفهم المقصود من دعوى إصلاح الخطاب الدّينيّ، وهي دعوى لا يجب أن تطلق على العواهن؛ فقد رأينا من يجعل الخطاب الدّينيّ يدلّ على كلّ ما له صلة بالمضمون الإسلاميّ - فروعًا وأصولًا - وإن سمَت الأصول في علوّها، فتّتسع دائرة الخطاب لتشمل السّنّة، ومنهم من يزيد في توسيعها، فيجعلها مطلقة في النّصّ القرآنيّ الّذي يفتحه على القراءة الحرّة، ويفرّغه من كلّ مضمون غيبيّ، أو مقصود تشريعيّ، ويساويه بالخطاب الإنسانيّ، ويجعل من هذا المنطلق سُلّمًا لتقويم مستويات الإصلاح الدّينيّ في السّاحة الإسلاميّة، وميزانًا للحكم على الخطابات الدّينيّة المختلفة؛ حيث يظنّ أنّ أقوى طرق الإصلاح الدّينيّ، ما كان أكثر جرأة على إفراغ النّصوص من أبعادها المصدريّة، لذلك قلت من قبل: إنّ الدّعوة إلى إصلاح الخطاب الدّينيّ لم تتأسّس نظريًّا بعد، كي يمكن أن نبني عليها مشروعًا متّفَقًا عليه للإصلاح، وستبقى الدّعوى ملتبسة ما شاء الله ذلك، كما ستبقى معبّرة عن مقاصد مختلفة، ولكن لا يمكن رفضها بعد عمليّة التّمحيص والتّحرير، ويصحّ أن ندرج ضمن خطة الإصلاح، إصلاح المؤسّسات الدّينيّة، وطرائق الاستنباط من النّصوص ومناهجها، وآليّات صناعة الفتوى، وكلّ ما يتعلّق بالخطاب الدّينيّ.

أحمد زغلول شلاطة: شكّلت الحرّيّة الفرديّة مجالًا خصبًا للجدال بين التّيارين المحافظ والحداثيّ؛ يدعو التّيار الأوَّل: إلى عدم التّسامح مع بعض الممارسات الفرديّة الّتي تسيء إلى الدّين، وتشكّل ضربًا لهويّة وتقاليد المجتمع، ويرفض الطّرف الثّاني ذلك، ويعدّه اعتداء على الحرّيّة الفرديّة. كيف نفضّ الاشتباك بين التّيارين، في ظلّ الثّورة المعلوماتيّة الحادثة في المجتمعات الإسلاميّة، الّتي أصبح من غير المجدي معها الحديث عن ارتباط ضروريّ بين إطلاق الحرّيّات وتهديد الهويّة المجتمعيّة؟

مونية الطّراز: النّقاش حول الحرّيّات الفرديّة ليس إلّا واجهة للصّراع حول المرجعيّات المتناقضة، وهذا الصّراع جرّبناه في النّقاش حول المرأة، وهو نقاش عقيم لا يمكن حلّه بعيدًا عن الفلسفات المؤسّسة، فإذا شئنا المطارحة بين المرجعيّات، فلتكن بين الفلسفة الإسلاميّة والفلسفة الحداثيّة - بشكل خاصّ - والفلسفة الوضعيّة - بشكل عامّ - وأرى أنّ الفكر الوضعيّ حين أرسى قواعده الأولى في الغرب، كان عنيدًا في ذلك، فقدّمها كما لو أنّها بديل عقديّ بمضمون إنسانيّ غير خاضع لقوى خارج الطّبيعة، وهذا المبدأ لا يقع فيه التّبديل والنّظر؛ إنّما يقع النّظر في طرق إخراج هذا التّصور، وأحسب أنّ الطّريقة الأسلم لمقاربة موضوع الحرّيّات الفرديّة، أو غيرها من فروع العقائد المادّيّة؛ هو التّوافق على المشترك من أجل التّعايش بلا تشنّجات، كما كان يفعل النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - مع أصحاب العقائد المخالفة، وليقع النّقاش بعد ذلك حول قابليّة تلك العقائد للتّوجيه، هذا - في نظري - أقرب المسالك إلى تجنّب الانفلات داخل مجتمع نتقاسمه جميعًا، وأرى أنّ الفقه ما دام متمسّكًا بالأصول، وغير مقيّد بالفروع، سيتقبّل الانفتاح والتّعايش داخل التّنوع، وهذا الرّأي ستّتسع دائرته مع الوقت، وسيتّسع معه محيط الفهم الدّينيّ القويّ، وسواد تابعيه.

أمّا الحرّيّة الفرديّة - بالمحتوى الّذي يقدّمه دعاتها اليوم - فهي موضة لا يمكن أن تدوم صلاحيّتها، وإن طالت، وستتبدّل لأنّها لا تمتلك المقوّمات العقليّة الّتي تضمن صمودها، ويكفينا للحكم عليها ما تدفع إليه من اختلالات على المستوى الأسريّ - خاصّة - وعلى المستوى الاجتماعيّ - عمومًا - ويكفينا منها - أيضًا - أنّها تدفع إلى الأنانيّة والاستعلاء والانعزال، وهذا لا ينسجم مع الطّبيعة المدنيّة والاجتماعيّة للإنسان.