ناجية الوريمي بوعجيلة في مقاربة نصوص التّراث (الجزء الأول)


فئة :  حوارات

ناجية الوريمي بوعجيلة في مقاربة نصوص التّراث (الجزء الأول)

 

ناجية الوريمي بوعجيلة في مقاربة نصوص التّراث (الجزء الأول)([1])

د. نادر الحمامي: نرحّب في هذا الحوار المتجدّد ترحيباً خاصّاً بالأستاذة ناجية الوريمّي بوعجيلة ونشكرها شكراً كبيراً على قبولها أن تكون ضيفتنا اليوم، لنتحاور معها انطلاقاً ممّا أصدرته من بحوث ودراسات، وليس أفضل من تقديم باحث أو أكاديمي أو مفكّر أو أستاذ، بما قدّمه للفكر والنّقد من إضافة علميّة؛ ونقدّر أنّ الأستاذة ناجية قد أسهمت خلال السّنوات الأخيرة إسهامات مهمّة في مجالات متقاربة ومتقاطعة، تلتقي فيها قراءات النّصوص التّراثية بالمناهج الحديثة، ونحسب أنّ انطلاقتها المهمّة كانت أطروحتها لنيل شهادة الدّكتوراه التي نشرت منذ سنوات، وهي "في الائتلاف والاختلاف وثنائية السّائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم"، وقد نزّلت من خلالها قراءتها لنصوص متعدّدة من التّراث العربي والإسلامي بصورة عامّة، تلتها مؤلّفات وكتب أخرى قيّمة وجديرة بالانتباه والدّرس، فقد صدر لها لاحقاً كتاب حول "الإسلام الخارجي"، وكتاب "حفريّات في الخطاب الخلدوني، الأصول السّلفيّة ووهم الحداثة العربيّة"، ثمّ كتاب "الاختلاف وسياسة التّسامح" الذي اهتمّت فيه بسياسة الرّشيد والبرامكة والمأمون، بالإضافة إلى كتابها حول "زعامة المرأة في الإسلام المبكّر". لن نتعرّض إلى هذه المؤلّفات بكل جزئيّاتها وتفاصيلها فالسّياق لن يسمح بذلك، ولكن سنتعرّض إلى بعض الأفكار والمباحث التي اهتمّت بها دون تسلسل تاريخيّ، فهي مباحث متداخلة، وتكمّل بعضها البعض، بل إنّها تقوم أحياناً على مراجعات لما كتب في بعضها الآخر، فحين نقارن مثلاً ما كتبته الأستاذة حول الشّافعي في الباب الخاص بأصول الفقه من أطروحتها بما جاء لاحقا في كتابها الاختلاف وسياسة التّسامح، سنجده معدّلاً. لذلك، سننطلق في هذا الحوار من الأفكار الكبرى التي تقود فكر الأستاذة ناجية، وأساساً من العنوان الفرعي لكتابها حول "الخطاب الخلدوني" الذي أحدث منعرجا في نظرة الكثيرين إلى ابن خلدون (732-808 ه/ 1332-1406 م)، فعنوان الكتاب الفرعيّ ربط فكر ابن خلدون بما أسمته الأصول السّلفيّة في مقابل ما أسمته وهم الحداثة العربيّة، على خلاف ما درجت عليه دراسات كثيرة من اعتبار ابن خلدون رمزاً أو علامة من العلامات الكبرى للحداثة في التّاريخ الإسلامي، حتى أنّ بعض النّدوات قد عُقدت لاعتبار ابن خلدون قد يصلح منطلقاً لحداثة عربيّة، في حين أنّ الأستاذة ناجية اعتبرت أن هذا وهماً من أوهام الحداثة العربيّة.

دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: أودّ أوّلاً، أن أشكرك على هذه الدّعوة الكريمة، وأن أشكر كامل الفريق العامل معك، وأشكرك على التّقديم الذي قدّمتني به وقدّمت به كتاباتي. صحيح ما قلتَ، وربّما اختيارك موفّق في ما يتعلّق بهذا العنوان الفرعي الذي ورد في كتاب "حفريّات في الخطاب الخلدوني"، فينبغي أن أُقرّ، وربّما لم أقل هذا سابقاً بشكل رسميّ، أن لا مشكلة لي مع ابن خلدون، فلكلّ نصّ أو فكر مشروعيّة وجود، ولكنّ مشكلتي في هذا الكتاب كانت مع من أخرج فكر ابن خلدون من سياقه التّاريخي والإبستيمولوجي والدّيني، وحمّله دلالات اعتبرها مؤسّسة لحداثة عربيّة مخصوصة، فهناك نوع من الأزمة الأيديولوجيّة يعيشها الفكر العربي المعاصر، وقد راح يبحث بموجبها عن مؤشّرات لحداثة خاصّة تختلف عن الحداثة الكونيّة، وفي إطار هذا البحث عن الخصوصيّة برز ابن خلدون واعتُبر أرضيّة خصبة لقراءات مسقطة أخرجت الكتابة الخلدونيّة عموماً من سياقها وحمّلتها دلالات كثيرةً، تنتهي إلى الافتخار بنوع من الخصوصيّة الحداثيّة، وهذا وهمٌ، وفي كامل الكتاب لم أهاجم ابن خلدون ولم أنقد كتابته، ولكن بيّنت كيف أنّ الدّلالات التي ينتجها الخطاب الخلدوني تسير في خطّ معاكس تماماً لمؤسّسات الحداثة ولشروطها عموماً، لذلك لم أركّز كثيراً حول ما كُتب عن ابن خلدون باعتباره حداثيّاً، ولكن بيّنت في كل فصل من فصول الكتاب، أن لا علاقة لابن خلدون بالحداثة، وهذا ليس عيباً في ابن خلدون، بل في من أراد أن يُنطقه بخطاب حداثيّ هو عنه بعيد.

د. نادر الحمامي: يمكن أن نعتبر ابن خلدون منطلقاً فحسب، لأنّ هناك نماذج أخرى كثيرة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة اعتُبرت سنداً لحداثة خصوصيّة، نذكر منها ابن رشد (520-595 ه/ 1126-1198 م) مثلاً، وطبعاً ليس العيب في هذا الخطاب القديم، لأنّه يجب أن يوضع في سياقه الحضاري وفي إطار البنية الفكريّة التي أنتجته في كافّة الأحوال، لكن العيب في المشاريع التي ترفع شار الحداثة، والتي اعتبرت أن ابن خلدون وغيره نقاط انطلاق لحداثة عربيّة. فهل يمكن القول إن ذلك كان سبباً وراء فشل الكثير من المشاريع الحداثيّة في البلدان العربيّة؟

دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: في ما ذكرتُ ثمّة مستويان ينبغي أن نميّز بينهما؛ أولاً ليس هناك تناقض جوهريّ بين الحداثة والماضي، أو بين الحداثة والتّراث؛ فكلّ حداثة تنطلق من ماضيها، وأعتقد أن آخر الدّراسات التي كُتبت في مجال مفهوم الحداثة، لم تنف علاقة الحداثة بالماضي ولا بالتّراث، فالحداثة في تعريفها الموجز هي رفض لأن يكون الماضي أنموذجاً يُتّبع، وليست رفضاً للماضي في حدّ ذاته؛ أي أنّ العلاقة بين الماضي والحداثة علاقة تواصل، ولكنّه تواصل يعترف لكلّ مرحلة بخصوصيّتها، يمكن لمرحلة ما أن تؤثر في المرحلة الموالية، ولكن لا يمكن أن تكون معياراً لها. إنّ مشكلتنا اليوم في الفكر العربي هي أنّ تيّارات عديدة تعتقد أن النّموذج الأمثل للعرب في جميع المجالات هو أن يسترجعوا ماضيهم، هذه الدّعوة الماضويّة ضد الحداثة، لأنّ الحداثة ترفض اعتبار الماضي نموذجاً، وهي مع ذلك تقبل أن تقيم جسور تواصل معه، لأنّ الفكر البشري كانت له دائماً نقاط مضيئة ومنظومات يمكن أن تدفع إلى التّطوّر. ومع ذلك، فالمشاريع الفكريّة الكُبرى التي حاولت أن تبحث عن مؤشّرات للحداثة في التّراث ليست مخطئة من حيث المبدأ؛ ذلك أنّنا يمكن أن نجد في التّراث مواقف ورؤى قديمة، ولكنّها تعتبر درجة من درجات العقلانيّة والاعتراف بالآخر والفكر النّقدي الذي يقبل الحقائق مبرّرةً، ولكن أعتقد أنّ مشاريع كثيرة منها قد حادت عن مسألة الخصوصيّة التي ينبغي أن تراعي حيّز كل فكر في زمانه، وأصبحت تتّخذ أيقونات في الماضي وتحمّلها كلّ دلالات الحداثة، وتوظّفها في المعركة التّقليدية بين الغرب والشّرق، وبين المسلمين والمسيحيّين في أوروبا خاصّة؛ فتعتبر أنّ كل ما جاءت به الحداثة الغربيّة اليوم، سبق أن قاله العرب أو أعلام من الفكر العربي الإسلامي، وهذا وهم وخطأ.

ينبغي أن نعترف أنّ لكل خطاب خصوصيّة، فخطاب ابن رشد ليس خطاب ابن خلدون، وعندما قمتُ بتحليل هذا الأخير وتفكيكه وإعادة تركيبه، تبيّن لي أنّ له منطقاً خاصّاً ينبني على اعتبار الماضي أنموذجاً، ولذلك اعتبرت ابن خلدون سلفيّاً، فهو الذي نجح في جعل المنظومة السنّية منظومة قانونيّة، وقد رفع ثوابت تلك المنظومة إلى مرحلة القانون الاجتماعي والفكري العام، وهذا خطير؛ فله الحق تماماً في أن يكون سنّياً كما لغيره الحق في أن يكون شيعيّاً أو خارجيّاً أو معتزليّاً، ولكنّه قام بعمل خطير، عندما حاول أن يقدّم لنا ثوابت الفكر السنّي في إطار عام سمّاه "قوانين العمران البشري"، هذه الفكرة كان يمكن أن تظل مقبولة ما دامت في إطار هويّتها المذهبيّة، ولكن عندما تدّعي أنّها تمثّل الحقيقة عامّة، فهنا ينبغي أن نرفع علامة "قف"، ونقول لا. ولعلّ أهمّ عمل قمت به في كتابي عن ابن خلدون هو التّنبيه إلى هذا التّجاوز الذي أصبح الفكر السنّي الأرثوذوكسي بموجبه يتجرّأ، ويقول إنّه يمثّل الحقيقة في جميع وجوهها.

لقد عدت لابن رشد خاصّة في كتابي حول زعامة المرأة، ووجدت أنّ له مواقف من التّنظيم الاجتماعي، يمكن أن تكون اليوم باعثاً من البواعث التي تُستثمر في المناداة بالمساواة بين الرّجل والمرأة، في إطار إعادة الاعتبار إلى القيمة الإنسانيّة في ما يتعلّق بكِليهِما. وقد وجدت لدى ابن رشد مقاطع ونصوصاً يعترف فيها بأنّ كلّ صفة دونيّة تُنسب إلى المرأة هي في الحقيقة عائدة إلى التّربية التي تتلقّاها؛ فهو يميّز بين ما هو جوهريّ، وبين ما هو عرضيّ أو عائد إلى طريقة العيش والتّربية، وهو يعترف أنّ المرأة من حيث الجوهر الإنساني مثل الرّجل، وأنّها يمكن أن تكون زعيمة أو فيلسوفة، ويمكن أن تكون كلّ شيء، ولكنّه يعتبر أن التّربية التي تتلقّاها في تنشئتها هي ما تعوقها عن مثل هذه الأمور. هذا مجرّد مثال، وأعتقد أنّ هذه الفكرة التي يؤسّس لها، يمكن استثمارها اليوم وتأويلها في اتّجاه تطويرها؛ ففي مسألة التّأويل، على سبيل المثال، نجد أحد أكبر فلاسفة الخطاب بول ريكور (Paul Ricœur) (1913-2005) يعتبر أنّ القارئ ينبغي أن ينطلق من بنية الخطاب وما ينتجه من دلالات في إطار خصوصيّاته، وأن يطوّرها في الاتّجاه الذي يسمح له به الخطاب، فكل خطاب يفتتح دلالات تصبح قابلة لأن تطوّر في اتّجاه معيّن دون أن يكون ذلك إسقاطاً. هذا في نظري، فارق ما بين ابن رشد وابن خلدون، ذلك أنّنا عندما نبحث عن مؤشّرات تحديث أو عقلانيّة في كتابات ابن خلدون وأساساً في "المقدّمة"، لن نعثر على شيء كبير، عدا العبقريّة في تنظيم الفكر السنّي، فقد كانت له قدرة رهيبة على تنظيم هذا الفكر واعتباره منظومة صالحة لكل زمان ومكان. وفي هذه الحالة، ينبغي أن نميّز في قراءتنا للتّراث بين كتابات قادرة على أن تقيم معَنَا اليوم جسور تواصل، وبين خطابات نحترم ما قامت به في عصرها، ولكن لا ينبغي أن تُفرض علينا اليوم، باعتبارها تمثّل الحقيقة.

د. نادر الحمامي: ما قلتِه مهمّ جدّاً من النّاحية المنهجيّة، وأريد أن نعمّق فيه الحديث، فقد وضعت لكتابك حول ابن خلدون عنوان "حفريّات"، بما يحيل عليه هذا المصطلح في المستوى النّظري من قطائع، فقد اعتبره فوكو (Michel Foucault) (1926-1984) رمزاً من رموز القطائع الإبستمولوجية في التّاريخ، ومع ذلك نجد أنّك تتحدّثين عن التّسامح، هذا المفهوم الحديث، من خلال استحضار تجربة المأمون والبرامكة، وهو أمر يختلف عن منهجك في التّعامل مع ابن خلدون الذي يختلف بدوره عن منهجك في التّعامل مع ابن رشد؛ فأنت لا تقولين بالقطيعة من جهة، فتبحثين في مفهوم التّسامح في التّراث وزعامة المرأة في القديم، رغم أنّك لا تقولين بأنّ هذه القيم يمكن أن نجدها كاملة في التّراث، ولكنّك من جهة أخرى تضعين لكتابك عنواناً يحيل على القطائع الإبستمولوجية... فهل يمكن أن نعتبر أنّ وراء هذا الاختلاف "إيديولوجيا منهجيّة ثالثة"؟

دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: أجدني هنا مجبرةً على العودة إلى توضيح كنت بدأت به، وهو أنّنا لا يمكن أن نقطع مع الماضي ومع التّراث قطعاً تامّاً، وفي هذا السّياق شبّه عالم الاجتماع بالانديي (Georges Balandier) (1920-2016) علاقة أيّ مجتمع بماضيه بعلاقة الفرد بطفولته، فكما أنّ الإنسان عندما يكبر يتعذّر عليه أن يتخلّص من طفولته، فهي مستمرّة فيه شاء ذلك أم أبى، فكذلك المجتمعات لا يمكنها أن تتخلّص من ماضيها ومن تراثها بجرّة قلم، فهذا مستحيل لأنّ الماضي يستمر فينا دائماً، ولكنّ الإشكال في كيفيّة استمراره، فهناك استمرار يمكن أن يدفع في اتّجاه إيجابي، ويغذّي الشّعور بنوع من الخصوصيّة والوعي بالهويّة وبتواصلِ حاضر المجتمع مع ماضيه. لذلك أشار روزنبورغ (Alexander Rosenberg) (1946) مثلاً، إلى أنّ أكبر مشكلة يواجهها المجتمع الأمريكي اليوم هي أنّه مجتمع دون ماضٍ، واعتبر أن ليس من باب الاعتباط أنّ الثّقافة الأمريكيّة الحديثة لا تعيش جدليّة التّراث والحداثة أو الماضي والحاضر، وأنّ هذه إشكالية عاشها الأوروبيّون كما عاشها العرب، لأنّ ماضيهم عريق، ولم يعشها المجتمع الأمريكي، لأنّه مُسقط على البيئة التي وُجد فيها، وقد قطع تماماً مع التّراث الموجود في القارّة الأمريكيّة، فهو مجتمع لم يعش ولن يعيش إشكاليّة التّراث والحداثة. لذلك، أؤكّد أنّ الماضي أساسيّ في حياة الفرد كما في حياة المجتمعات.

د. نادر الحمامي: إذن، فعلاقة الحداثة مع التّراث والبحث في هذه الإشكاليّة شرطان أساسيّان لبناء حداثة حقيقيّة لا حداثة مسقطة؟

دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: يمكن أن نجد تواصلاً بين الكثير من المفاهيم، فلا يمكن أن ندّعي، على سبيل المثال، أنّ القيم الكونيّة بنْت الحاضر، وأنّها منبتّة عن الفكر الإنساني في الماضي، لأنّ هناك أفكاراً ومواقف يمكن أن نعتبرها درجة من درجات تطوّر المفاهيم والمنظومات والقيم الحديثة، فلا وجود لمفاهيم تنطلق من الصّفر، وكلّ مفهوم يمكن أن نجد له مؤشّرات أو بعض الدّلالات التي تعتبر النّويات الأولى لتلك المفاهيم؛ وعلى هذا الأساس لا أقول بقطيعة تامّة بين الحاضر والماضي، أو بين الحداثة والتّراث، ولكن ينبغي أن ننتبه إلى نوعيّة الرّبط بينهما، فيمكن أن نعتبر أن كتابات معيّنة من التّراث تمثّل درجة من درجات التّطوّر لبعض القيم المعاصرة، في حين أنّ كتابات تراثيّة أخرى تضرب في الصّميم العقلانية والاعتراف بالاختلاف، ولا يمكن أن تنسجم مع القيم المعاصرة. من هنا جاءت قضيّة الأصوليّات التي تستمدّ كامل مشروعيّتها من الماضي، وتحاول اليوم أن تهيمن على كلّ اختلاف وتعتبر أنّه ظاهرة مرضيّة، وتوهم في المقابل بأنّها تقدّم الحلّ السّحري، لذلك أعتبر أنّ الكتابات التي تسير في هذا الاتّجاه لا مكان لها اليوم، بينما هناك كتابات أخرى يمكن أن نعتبرها نويات لما ندعو إليه اليوم من قيم إنسانيّة وكونيّة. قد أبدو متناقضة بين ما أطرحه في كتابي حول ابن خلدون حين أرفض اعتباره منطلقاً لحداثة عربيّة إسلاميّة، وبين ما أطرحه في كتابي "الاختلاف وسياسة التّسامح" حين أقول بوجود حداثة في تجربةٍ ما كان قادها المأمون، ولكنّني أعتبر أنّ المجتمع العربي الإسلامي القديم كان مجتمعاً تعدّديّاً في مستوى الأعراق والمذاهب، وحتى في مستوى الأديان شئنا ذلك أم أبينا. وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن نتوقّع من مجتمع بهذا الشّكل، ألاّ يطرح مشكلة التّعدّدية، فهي قضيّة لا مناص من العودة إليها.

د. نادر الحمامي: لذلك اعتبرت، في أوّل جملة في أطروحتك، أنّ الثّراء حقيقة؟

دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: صحيح، هذا في نظري، وقد اعتبرت أنّ تجربة المأمون يمكن أن تكون درجة من درجات التّسامح فلسفةً وسياسةً، لأنّ المأمون شخصيّة استثنائيّة قياساً بكافّة الخلفاء الآخرين، حسب اعتقادي، فهو فيلسوف مشتغل بالفلسفة ومهووس بها، وهو أوّل من ترجم الفلسفة من بابها الرّسميّ وخصّص لها مؤسّسة هي بيت الحكمة، وفي ما بحثتُ فيه من سيرته وتجربته، وجدت نصوصاً تؤكّد أنّه تجاوز الاختلاف المذهبي والدّيني في عصره، فمجالسه تختلف نوعيّا عن مجالس سائر الخلفاء، لأنّها كانت تجمع بين المذاهب الإسلاميّة كلّها؛ ففيها المعتزليّ والخارجيّ والسنّيّ والشّيعيّ، وهذا أمر طريف جدّاً، إضافة إلى اليهود والمسيحيّين، كما كان فيها غير هؤلاء من أصحاب الدّيانات الذين استعان بهم في عمليّة التّرجمة خاصّة. فقد كانت تجربة سياسيّة قائمة على اعتبار معيار الانتماء إلى الدّولة، ولا أقصد بالانتماء مفهوم المواطنة الحديث فلم يكن مطروحاً بأيّة حال. ويمكن أن نعتبر أن تجربة المأمون التي حاولت أن تقرّب بين رموز المذاهب وتجمعها في البلاط، وأن تفتح بينها الجدل، درجةً من درجات التّسامح. صحيح أنّنا لا يمكن أن نقيم تطابقاً بين الدّلالات الحديثة لمفهوم التّسامح بما هو اعتراف بالآخر واحترام له، ولكن لا يمكن أن ننفي عن الماضي تجارب متسامحة كثيرة، وقد كنت ذكرت في مقدّمة هذا الكتاب كيف أنّ كاتباً، لا يحضرني اسمه الآن، تعرّض للتّسامح في كامل التّاريخ الإنساني، وأثبت أن هناك تسامحاً لدى كافّة الشّعوب باستثناء المجتمع العربي الإسلامي، معتبراً أنّه لم يكن هناك تسامح بين المسلمين، وما أقولُ ليس دفاعاً عن المسلمين، ولكنّه تفكيك لمسلّمات استقرّت وأعيدَ إنتاجها على أساس أنّ التّاريخ الإسلامي ليس سوى تاريخ استبداد.

د. نادر الحمامي: ههنا تلتقي الأصوليّات، سواء تلك التي تعتبر، على شاكلة القدامى، أنّ الاختلاف فُرقة وتُنكر التّعدّد بحثاً عن الانسجام على أساس دينيّ، أو تلك التي تعادي الحضارة العربيّة والإسلاميّة جذريّاً، فتنفي عنها أيّة قيمة من القيم التي يمكن الاعتراف بها على أساس أنّها قيم حديثة اليوم؛ لذلك فهذه الأصوليّات المعادية للمسلمين والأصوليّات الإسلاميّة تلتقي في نهاية المطاف في هذه النّقطة.

دة. ناجية الوريمي بوعجيلة: طبعاً، فالأصوليّة في نهاية الأمر نوع من إعلاء عقيدة الذّات إلى درجة يصبح معها الآخر وجوداً مشوّها للحقيقة، فهي رفض للاختلاف والتّعدّد وللجديد والمتجدّد ونوع من التّشبّث بماضٍ وهميّ مثاليّ، ومحاولة لفرضه على الجميع باعتباره طريق خلاص. والأصوليّات عربيّة وغير عربيّة أيضاً، فالفكر الأصوليّ له شروط أو مقوّمات يمكن أن توجد في كافّة المجتمعات، وليس بالضّرورة في المجتمع العربي الإسلامي وحده.

د. نادر الحمامي: أذكر في هذا السّياق، مداخلةً كنتِ قدّمتِها حول هنتنغتون (Samuel Phillips Huntington) (1927-2008) وصراع الحضارات، باعتباره أصوليّة غربيّة أيضاً. يمكن القول إذن إنّك تشتغلين على النّصوص التّراثية، لكي تبيّني جوانبها المشرقة وجوانبها الأصوليّة معاً؛ لذلك أنت تخلخلين جميع الرّموز التّراثية، فما يكون منها مُشرقاً تعملين على إخراج جانبه المعتم، وما يكون منها مُعتماً تبحثين في جانبه المُشرق. يحيلنا هذا على قراءة التّراث في ضوء نظريّة الخطاب، وقد انطلقتِ من نظرية غادامير (Hans-Georg Gadamer) (1900-2002) حول الخطاب من أجل تفكيك البنية التّراثية وقراءة نصوصها دون إسقاطات. هذا المشغل الذي سيكون مدخلاً للجزء الثّاني من حوارنا، سنبحث فيه انطلاقاً من ذلك مسألة الإصلاح التي أعتبرُ أنّها مسألة جذريّة، ذلك أنّ تفكيك الخطاب التّراثي وإعادة قراءته يحمل غاية الإصلاح أساساً. هذا ما سيكون محور حوارنا في الجزء الثّاني مع الأستاذة ناجية الوريمي مشكورة.

[1]- حوار لنادر حمامي مع ناجية الوريمي، نشر في مارس 2018 على قناة مؤمنون بلا حدود على يوتيوب، قام بتفريغ الحوار فيصل شلوف.