نحو فهم للعولمة الثقافية

فئة :  قراءات في كتب

نحو فهم للعولمة الثقافية

نحو فهم للعولمة الثقافية

بول هوبر

ترجمة: طلعت الشايب

في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي الواحد والعشرون، اتسع نقاش بشكل كبير في العالم العربي، عن ماهية العولمة وأبعادها، وقد ظهرت كتابات عديدة تصف العولمة بالأمركة وهناك من وصفها بالعولبة؛ وذلك بنشر ثقافة واحدة عبر العالم، تخدم المصالح الأمريكية الاقتصادية بتشجيع نظام السوق والاستهلاك...مختلف تلك الانتقادات، معها حق في الكثير مما ذهبت إليه. وقد اتضح للجميع فيما بعد ذلك بأن العولمة، لم تكن مخلصة وطيعة بالشكل الذي تريده أمريكا والمركزية الغربية؛ إذ ظهرت على مسرح الأحداث حضور ثقافات عالمية أخرى، وبالأخص في الجانب الاقتصادي، ونقصد هنا القوة الصينية التي كانت أكبر مستفيد من العولمة خاصة في بعدها الاقتصادي، وهو أمر جعل طبيعة النقاش والنقد حول العولمة تتجاوز اختزالها في الأمركة وما شابه ذلك.

المؤلف الذي نحن بصدده يلقي الضوء حول العولمة وأثرها على ما هو ثقافي، فالكتاب يقربنا من موضوع العولمة الثقافية وطبيعة ما يكون عليه مستقبل العالم. صدر أصل هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2007م، وترجمة منه هذه النسخة 2024م.

فكرة الكتاب

يرى بول هوبر بأن العولمة الثقافية ظاهرة تختصُّ بها مجتمعاتنا المعاصرة؛ فقد كان لكل مرحلة تاريخية عولمتُها الثقافية، غير أن تأثير العولمة المعاصرة في الممارَسات الثقافية صار أكثر شمولًا وعمقًا مُقارَنة بأي وقت مضى. فلا شك بأن العولمة لها حضور في العصور والثقافات القديمة، فمختلف الثقافات عبر العالم قد استفادت وتأثر بعضها بالبعض الآخر، فمن المستبعد أن نتحدث عن ثقافة خالصة لم تؤثر ولم تتأثر بغيرها. فموضوع العولمة اليوم اتسع بشكل كبير وسار خاصية بارزة في حياة الناس بشكل سريع بفضل، مختلف وسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا المعلومات في صياغة حياة الأفراد في المجتمعات المعاصرة. فالفرق ما بين عولمة الثقافة ما بين الأمس واليوم، يرتبط بطبيعة سرعة التأثير بين الثقافات وانتشار المعلومة، فإذا كان ذلك يستغرق سنوات وعقود من الزمن سار اليوم يستغرق ساعات وأسابيع وأشهر على الأكثر.

فَهْم "العولمة الثقافية يَتطلَّب منا التركيز على تداخُل وتفاعُل الكوني والمحلي في داخل الأطر المختلفة، والحقيقة -كما سنبين - أن تَطوُّرات العولمة تزيد الأمور تعقيدًا وبذلك تقوى الحاجة إلى إظهار هذا التمييز؛ فعلى سبيل المثال نجد أنه نتيجة لزيادة تَدفُّقات البشر والصور والأصوات والرموز في ظل العولمة المعاصرة، تَتغيَّر أُطُرنا المكانية أو محلياتنا على نحو مستمر، بينما تُؤكِّد تكنولوجيا المعلومات والاتصال العالمية - وخاصة عدم تكافؤ الفرص في الوصول إليها - الفروق الواضحة في المشاركة في الشبكات العالمية والعابرة للحدود القومية؛ وبالمثل فإن بعض الناس سوف يستخدمون الطائرات النفاثة ويتنقلون في أرجاء الكرة الأرضية، ويتعرفون على أماكن مختلفة أكثر من غيرهم. باختصار، نحن نسكن فضاءات اجتماعية وثقافية مُعقَّدة ونعمل في أُطر وسياقات مُتعدِّدة ومتغيِّرة، ولكي نجمع كل هذا التنوع في كبسولة واحدة سيكون من الملائم أن ننظر إلى العولمة الثقافية بصيغة الجمع؛ أي بوصفها عولمات ثقافية"[1]

موضوعات الكتاب

تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يقرب القارئ، من مختلف التحولات الثقافية والاجتماعية في حياة الفرد والمجتمع، في زمن تحول العالم فيه إلى شبه مجال واحد، انهارت فيه مختلف الحدود الجغرافية، والثقافية... فالعالم اليوم يعرف نوعا من التحول الثقافي من جهة الأكل والمشرب والملبس... فالعولمة الثقافية خلقت اليوم نوعا كبيرا من التقارب، بين مختلف المجتمعات عبر العالم، فزيارتك مثلا لمختلف العواصم عبر العالم، ستجدها تتشابه في العديد من المميزات... وستجد أمامك الكثير من المنتوجات ذات الماركة العالمية...والحقيقة أن العولمة اليوم قد ساهمت بشكل كبير في خلق سياق نموذج ثقافي عالمي متقارب. في حقيقة الأمر العالم اليوم بشكل عالم على وعي بالتمييز ما بين المحلي والكوني الذي يشترك فيه مختلف العولمات عبر العالم.

يشمل الكتاب حزمة من المواضيع، جلها يحفر في موضوع العولمة الثقافية من أهمها: تحليل العولمة الثقافية. العولمة الثقافية أكثر من تاريخ. ثقافات متحركة. التواصل الكَوني والميديا والتكنولوجيا. العولمة والثقافة الكونية. العولمة والثقافة القومية. العولمة والصراع الثقافي. العولمة والكوزموبوليتانية.

العولمة والثقافات المتحركة

يظهر تاريخ العولمة بأنه تاريخ جديد ومعاصر، ولا علاقة له بما هو قديم، ولكن بالنظر إلى التاريخ نجد العولة سابقة على الزمن والعصر الذي نحن فيه، فإذ كانت العولمة تدور في سياق تأثير وتأثر مختلف الثقافات بعضها ببعض، وتدور في سياق انتقال مختلف الأفكار والتصورات من مجال جغرافي إلى مجال جغرافي آخر، فالعولمة من هذا المنظور فهي حاضرة منذ القدم، صحيح بأن الحضور حضور مختلف ومفارق، وله أوجه متعددة ومتنوعة، فهناك "تَجلِّيات للعولمة أو إسهامات فيها في المرحلة ما قبل الحديثة، وهي تتضمن الهجرات الإنسانية الباكرة. وظهور الأديان العالمية. والأنظمة الإمبريالية الأولى. وتطور شبكات التجارة بين المناطق المختلفة... كل هذه العوامل الكبيرة في التاريخ الإنساني العام لهذه الأنشطة الإنسانية، كان لها دور كبير في تأمين مختلف المواجهات الثقافية، لكي يتم تبادُل واستيعاب الأفكار والمعتقدات والتطورات... التي بالإمكان اعتبارها جزءًا من تاريخ العولمة الثقافية".[2]

يرى المؤلف "بول هوبر" بأن فهم العولمة الثقافية ينبني على طبيعة الوضوح، بخصوص ما يعنيه مفهوم الثقافة، وليس الهدف هو تقديم طرح تعريفي جامع مانع عن طبيعة الثقافة، وإنما الوعي بطبيعة التحولات التي لحقت بالثقافة في الظروف المعاصرة، نتيجة الحضور البارز للعولمة نتيجة الاتصال والمواصلات والأنترنت ومختلف مجالات التكنولوجيا، فكل هذه التحولات لها تأثير مباشر وغير مباشر على الثقافة بمفهومها الذي يمس المجتمعات ومختلف تصوراتها للعالم ومختلف أنظمتها في المأكل والملبس... فالثقافة اليوم لا يمكن عزلها عن العولمة وحضورها في العالم، وحضور الثقافي عبر العالم يجعلنا أمام تعدد عولماتي عبر العالم. وهذا أمر أمام وجه خاص على فكرة التدفقات الثقافية والخروج من الإقليمية ثقافيًّا، كما يجعلنا أمام ظاهرة عبور الحدود القومية وما يعنيه ذلك بالنسبة إلى تطور العلاقة بين الثقافي والمكاني في المرحلة المعاصرة.[3]

ينبني التعدد العولماتي عبر العالم، على التعدد الثقافي، الذي يتغدى من قيمة التواصل، والتواصل هنا ليس من باب القيمة، بل من باب كل ما هو تطبيقي وعملي في مجال الإعلام والتجارة والسفر والتواصل بين الأفراد والمجتمعات...وفي ما توفره مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها عبر العالم، وهذا الوضع يمكن وصفه بحالة الثقافات المتحركة، في اتجاه بعضها البعض الآخر.

التواصل الكوني

يستند التواصل العالمي اليوم أكثر مما مضى على مجموعة كبيرة من التكنولوجيات والوسائط، وكل وسائل في خدمة العولمة الثقافية كما تقدم، ولكن اللافت للنظر هو تأثير ذلك على الأفراد وتَبادُل مختلف المعلومات والصور... بين الطرفين شرقا وغربا، وهذه مسألة في حاجة لكثير من الدراسة والتحليل؛ إذ لا ينبغي الاكتفاء بالقول كما هو معروف عند الكثير من المعلقين في مجال الإعلام وغيره قولهم، إن تكنولوجيات المعلومات والاتصال والميديا هي مُحرِّك العولمة المعاصرة، فهذه مسألة أصبحت واضحة، ولكن كيف يحدث ذلك اجتماعيًّا، وما هي تأثيرات ذلك على الثقافة عبر العالم، في الجدل القائم بين المحلي والكوني؟ وما هي طبيعة التطورات والآفاق المستقبلية التي يعرفها العالم فيما هو قادم؟ هل نحن مثلا مقبلون على لغة وثقافة موحدة عالمية نتيجة ما ينتج عن لغة التواصل عبر الأنترنت؟ هل سيظهر مجتمع شَبكي؟[4]

هذا التطور المذهل يدفع في الاتجاه نحو القول باعتماد نظام "كوزموبوليتانية"؛ أي المواطنة العالمية، وهي الأيديولوجية التي تقول إن جميع البشر ينتمون إلى مجتمع واحد، على أساس الأخلاق المشتركة، ويسمى الشخص الذي يلتزم بفكرة المواطنة العالمية في أي شكل من أشكالها، كوسموبوليتاني أو مواطن عالمي، وتقترح المواطنة العالمية في الأصل، إنشاء بوليس كوزمو أو «حكومة عالمية» لجميع الناس عبر العالم.

هناك جوانب من العولمة تدعم أو تُسهِّل التواصل الثقافي التفاعلي، الأمر الذي يمكن أن ينتج عنه "وجهات نظر كوزموبوليتانية؛ لأنه يزيد من احتمالات تَطوُّر الفهم أو حتى التَّقمُّص إلى أكثر من مُجرَّد الإلمام بثقافات ومجتمعات وتقاليد مختلفة؛ فالتحرُّكات السكانية المعاصرة، كما رأينا، تجعل كثيرًا من المجتمعات تُصبِح، تدريجيًّا، متعددة الثقافة، مُتعدِّدة الأعراق، كما تجعل كثيرًا مِمَّن يعيشون في هذه المجتمعات يفيدون من الفرصة لممارَسة ثقافات مختلفة تتراوح بين تجربة أصناف الطعام الجديدة إلى المُعتقَدات الدينية. كذلك هناك آخَرون منهمِكون في عمليات تهجين ثقافي يمزجون ثقافات مختلفة، وخاصة في مجالات الموسيقى والرَّقص والأزياء والمسرح، بينما التَّوجُّه نحو الدولانية أو العولمة، اعتمادًا على ما إذا كان المرء يصدق منظور المتشككين أو المُغالِين في العولمة، دليل على أن التجارة وأنشطتها سوف تتسع إلى ما هو أبعد من الحدود القومية، وهو تَطوُّر تساعد عليه أنظمة النَّقل العالمي."[5]

[1] بول هوبر، نحو فهم للعولمة الثقافية، ترجمة: طلعت الشايب مؤسسة هنداوي عام 2024م، ص. 14

[2] نفسه، ص. 28

[3] نفسه، ص.53 (بتصرف)

[4] نفسه، ص.79

[5] نفسه، ص. 191