نكبة ابن رشد: بين مكر السياسة وخداع رجال الدين


فئة :  مقالات

نكبة ابن رشد: بين مكر السياسة وخداع رجال الدين

نكبة ابن رشد: بين مكر السياسة وخداع رجال الدين

 إن الحديث عن تاريخ الفلسفة لا يقتصر فقط على عرض أفكار وأطروحات الفلاسفة، وإنما يتم استحضار شخص الفيلسوف الذي يمثل حلقة مهمة من ذلك التاريخ، ليس فقط لكون الأفكار الفلسفية لصيقة بذات الفيلسوف، وإنما لمَا عاناه بعض الفلاسفة من القمع والاضطهاد إلى درجة التضحية بالذات، من قبل السلطة السياسية أو السلطة الدينية أو تحالف السلطتين معا.

في هذا السياق، سوف نستحضر تجربة الفيلسوف الأندلسي ابن رشد الذي تعرض للنكبة إبان فترة حكم الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، والذي يسمى اختصارا يعقوب المنصور الذي نفى ابن رشد بتهم، المروق والإلحاد والخروج عن الدين، إلى قرية "أليسانا" قرب قرطبة، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية قبل أن يصدر الخليفة أمرا بالعفو عليه، ويعود إلى مراكش إلى أن توفي سنة بعد ذلك.

وبين السياسة والدين والاشتغال بالفلسفة وعلوم الأوائل، سوف نستعرض عدة قراءات حاولت البحث عن السبب الحقيقي وراء نكبة ابن رشد محاولين إعطاء الأولوية لعامل على حساب الآخر استنادا إلى معطيات موضوعية؛ فالمفكر المغربي محمد عابد الجابري ربط نكبة ابن رشد بالعامل السياسي، معتبرا أن انتقاد ابن رشد للأوضاع السياسية في الأندلس خلال فترة حكم يعقوب المنصور هو الذي أدى إلى نفيه انتقاما منه. أما المفكر المصري عاطف العراقي وخلافا للجابري، فقد اعتبر أن اشتغال ابن رشد بالفلسفة والمنطق أو بعلوم الأوائل هو الذي يقف وراء نكبته، في حين كشف إرنست رينان عن سبب آخر للنكبة ألا وهو التشدد الديني. بينما نجد قراءات أخرى ربطت النكبة بعدم لباقة ابن رشد أثناء حديثه مع الخليفة، في إشارة إلى عدم مراعاة فيلسوف قرطبة "لبروتوكول" الأمراء، وأسباب أخرى مرتبطة بشروحات ابن رشد لكتاب "الحيوان" لأرسطو. إن هذا التعدد في الرؤى يدفعنا إلى البحث عن السبب الموضوعي وراء نكبة ابن رشد. ما الدافع إلى نفي ابن رشد من قبل الخليفة يعقوب المنصور؟ هل لنكبة ابن رشد علاقة بما هو سياسي أم بما هو ديني؟ أم إن سبب النكبة يعود إلى التحالف بين السلطة السياسية ورجال الدين؟ ألا يمكن القول إننا أمام إعادة تجربة إعدام سقراط في سياق مغاير؟

1) محمد عابد الجابري: كتاب في السياسة وراء نكبة ابن رشد

في محاولة منه للبحث عن الأسباب التي تقف وراء نكبة الفيلسوف ابن رشد، اعتمد الجابري على المنشور الذي أصدره الخليفة يعقوب المنصور، والذي يحمل إدانة شديدة لابن رشد، ولطول المنشور سوف نقتصر على عرض بعض ما جاء فيه لتتضح الرؤية للقارئ، يقول المنشور: "وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشفوف عليهم في الأفهام.....فخلدوا في العالم صحفا ما لها من خلاق...... بعدها عن الشريعة بعد المشرقين......يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها.....ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين إنس.....فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب.................فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لبس منها الإيمان بالظلم....."[1].

بعد عرضه لمنشور إدانة ابن رشد، يسجل الجابري أولا أن هناك تناقضا بين مضمون المنشور وتوجه الخلفاء الموحدين عامة والمنصور خاصة، يقول الجابري إنه "كأبيه عالما متمكنا يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وكان يعشق الجدل والمناقشات الفلسفية، ويعقد مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء ابن رشد وشروحه، ولاسيما في علاقة الدين بالفلسفة"[2]، بل الأكثر من ذلك يعتبر الجابري أن التوجه الفكري للخليفة يعقوب المنصور يتماشى مع التوجه الفكري لابن رشد، ويتجلى هذا التماثل في الدعوة إلى ترك التقليد والعودة إلى الأصول، العودة إلى القرآن والسنة بالنسبة للخليفة، وفلسفة أرسطو بالنسبة لابن رشد. الشيء الذي دفع الجابري إلى التساؤل عن سبب هذا التناقض، تناقض بين ميل يعقوب المنصور إلى العلم والفلسفة وتشجيعهما، وبين ما ورد في المنشور من مهاجمة الفلسفة والفلاسفة. وللبحث عن أسباب هذه المفارقة، قام الجابري باستعراض مجموعة من الروايات الواردة في كتب التراجم حول أسباب نكبة ابن رشد باحثا عن جواب يقربه من حل المعضلة. وأولى الروايات التي يعرضها الجابري تعود لصاحب كتاب "الذيل والتكملة" ابن عبد الملك المراكشي الذي قال ما مضمونه أن بعض حساد ابن رشد قاموا بجمع بعض عباراته المبتورة من سياقها حتى تؤكد خروجه عن الدين، ثم سافروا بها من قرطبة إلى مراكش، حيث يتواجد الخليفة، لكن انشغاله بتجهيز جيوشه للحرب حال دون اللقاء بهما، وبعد انتهاء الحرب عاد خصوم ابن رشد إلى لقاء الخليفة، وأدلو بالنصوص التي يتهمون بها ابن رشد بالخروج والمروق عن الدين. إن أول ملاحظة يسجلها الجابري بخصوص هذه الرواية، هي أن صاحبها لم يذكر مضمون تلك النصوص التي اختارها خصوم ابن رشد، بل أشار فقط إلى أنها تأويل لنصوص أو لبعض العبارات، وهو ما يعني أن تلك الرواية تظل مجرد تخمين، كما يضيف أنه لا يعقل أن يتكبد هؤلاء عناء السفر من قرطبة إلى مراكش لمجرد خبر من ذلك الحجم، وهو ما يعني أنه لديهم من الحجة والبرهان ما يدين ابن رشد، لابد إذن من أن تكون تلك النصوص تحمل من الأدلة ما يدين ابن رشد ولا علاقة لها بالشروحات على أرسطو؛ لأن ابن رشد تولى مهمة الشرح منذ زمن بعيد قبل تولي يعقوب المنصور الحكم، واعتمادا على كل هذه المعطيات يستنتج الجابري أن تلك النصوص لا يمكن إلا تكون جديدة وتحمل أشياء جديدة.

الرواية الثانية التي يقدمها الجابري تعود لعبد الواحد المراكشي مؤلف كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" ومضمون هذه الرواية هو أن لنكبة ابن رشد سببين، سبب جلي وسبب خفي؛ فالأول حكي عن ابن رشد أنه أثناء شرحه لكتاب الحيوان لأرسطو ذكر "أن الزهرة أحد الآلهة" هذا السبب اعتبره الجابري ضعيف؛ لأنه لا يمكن السفر من قرطبة إلى مراكش لمجرد خبر تافه، كما أن الخليفة كان على علم بشروحات ابن رشد على أرسطو؛ بمعنى أن الخليفة على دراية بمثل تلك الأفكار السائدة عند قدماء اليونان، ومما يكذب هذا الرأي كذلك هو أن المحاكمة لم تقتصر على ابن رشد بل طالت أصدقاءه. أما السبب الخفي، فيفيد أن ابن رشد أثناء ذكره في كتاب الحيوان للزرافة، قال: "رأيتها عند ملك البربر" يقول الجابري إنه لو كان ذلك سببا لاستبعد ابن رشد من البلاط لوحده دون الآخرين، كما أن الكتاب الذي وردت فيه العبارة "هو من الكتب التي شرحها ابن رشد في المرحلة الأولى من عمله الفلسفي، أي قبل النكبة بأكثر من خمسة وعشرين عاما..... أي قبل ان يتولى المنصور الخلافة بخمسة عشر عاما"[3]. ليخلص الجابري إلى أنه لا السبب الخفي ولا الظاهر يفسران الدوافع الحقيقية لنكبة ابن رشد مع أصدقائه، كما يؤكد "أن العائق الأساسي الذي يحول دون تصديق مثل هذه الرواية هو أن النكبة لم تكن نكبة ابن رشد لوحده، بل نكب معه الجماعة التي تنتمي إلى "الفضلاء والأعيان""[4]، وهو ما يعني أن لأصدقاء ابن رشد علاقة مباشرة بالسبب الحقيقي وراء النكبة.

بعد تفنيده لجميع الروايات السابقة ومن على شاكلتها، والتي اعتبرها مجرد تخمينات وتبريرات ليس إلا، انتقل الجابري إلى توضيح السبب الذي اعتبره حقيقيا ومنطقيا لنكبة ابن رشد وجماعة الفضلاء والأعيان، فما قصة هذا السبب؟ لتوضيح هذا الأمر انطلق الجابري من استحضار ما ذكر في كتاب الذيل والتكملة: "ويذكر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور، والي قرطبة"[5]، لقد اعتمد الجابري على هذا القول وعززه بثلاثة معطيات رئيسة كمؤشرات دالة على أن لنكبة ابن رشد علاقة وطيدة بتأليفه لكتاب جوامع سياسة أفلاطون، وأول معطى هو تاريخ تأليف ابن رشد للكتاب، والمعطى الثاني يتعلق بالمضمون المعرفي للكتاب، وأخيرا علاقة هذا الكتاب بأخ الخليفة. بالنسبة للمعطى الأول اعتبر الجابري أن تاريخ شرح ابن رشد لجمهورية أفلاطون يعود إلى مرحلة متأخرة من حياته؛ وذلك بعد الانتهاء من جميع شروحات أرسطو، حوالي 1194ميلادية وهو التاريخ الذي حدده المستشرق الإسباني "مانويل ألونسو"، وهي نفس الفترة التي تحرك فيها خصومه حين سافروا إلى مراكش لمقابلة المنصور"[6]. أما المؤشر الثاني الذي يعتبره الجابري دليلا على النكبة، هو المضمون المعرفي لكتاب جوامع سياسة أفلاطون، وفيه ينتقد ابن رشد بلهجة شديدة الأوضاع السياسية السائدة في الأندلس زمن المنصور وطرحه لتصور سياسي جديد يعد بمثابة الأرضية التي سيبني عليها الخليفة الجديد سياسة دولته عند توليه الحكم، وهو ما أثار عضب الخليفة يعقوب المنصور، أما عن علاقة هذا الكتاب بأخ الخليفة المسمى أبو يحيى والذي كان وليا على قرطبة، فيشير الجابري إلى أنه هو الذي كلف ابن رشد بتلخيص جمهورية أفلاطون؛ وذلك في إطار تمهيد أبو يحيى لتولي مقالد الحكم بعد مرض أخيه المنصور مرضا شديدا حتى يئس منه الأطباء، وقد حاول أبو يحيى أخذ التأييد من أعيان الدولة، وهنا يقول الجابري أن أول من سيستدعيه هو ابن رشد وجماعة الفضلاء، إلا أن رياح القدر تجري بما لا تشتهي سفن أبا يحيى، فقد شفي المنصور وعاد إلى الحكم وانتقم من أخيه يحيى وأعدمه كما انتقم من ابن رشد وأصدقاءه، ويدعم الجابري هذا الطرح من خلال بعض المعطيات الواردة في كتاب جوامع سياسة أفلاطون، من قبل الإهداء الذي اعتبره الجابري موجه لأبي يحيى، يقول :"فابن رشد يصرح بأن المهدى إليه ساعده على فهم النص السياسي "الأفلاطوني"...ثم إنه يدعو له بالتوفيق ويطلب الله أن يزيل العراقيل من طريقه، وأيضا يعتذر عن إيجاز في الشرح بسبب "اضطراب الوقت""[7]. لينتهي الجابري إلى التأكيد على أن هذا الكتاب هو سبب نكبة ابن رشد لما فيه من انتقادات لاذعة للأوضاع السائدة في الأندلس، وهو ما يفسر كذلك انتقام المتصور من ابن رشد ومن جماعة الفضلاء والأعيان، وأن ما ورد في المنشور الذي أصدره لم يكن سوى ذريعة لشرعنة الانتقام، يقول الجابري: "أن الفلسفة هنا وقعت مرة أخرى ضحية للسياسة، فبدلا من أن يأمر الخليفة بإحراق الكتاب الذي أثار غضبه، كتاب جوامع سياسة أفلاطون، أمر بإحراق كتب الفلسفة كلها..."[8].

2) عاطف العراقي: الاشتغال بعلوم الأوائل وراء النكبة

من جهته، حاول عاطف العراقي تقديم تفسير أكثر معقولية لنكبة ابن رشد وقد قام بعرض مجموعة من التأويلات التي سعت إلى توضيح الأسباب التي تقف وراء النكبة، منتقدا إياها لكونها ليست سوى مجرد أسباب ثانوية لا ترتقي إلى مرتبة السبب الحقيقي، ثم بعد ذلك ينتقل إلى تقديم ما سماه السبب الحقيقي للنكبة.

إن أول رأي يعرضه عاطف العراقي يرجع سبب النكبة إلى طريقة محادثة ابن رشد للخليفة يعقوب المنصور، والذي ورد عند ابن أبي أصيبعة، ومفاده أن ابن رشد أثناء حديثه مع الخليفة حول مسائل العلم أو الفلسفة يقول له: "تسمع يا أخي" في إشارة إلى عدم احترام ابن رشد لبروتوكول الأمراء. وقد نفى العراقي أن يكون هذا سبب رئيسي في نفي ابن رشد، معللا ذلك بأنه لو اقتصر الأمر على مجرد هذه الواقعة لما طرد ابن رشد رفقة بعض المفكرين، إضافة إلى أن هذا لا يفسر دعوة الخليفة إلى كراهية الفلسفة والفلاسفة.

أما الرأي الثاني الذي يعرضه عاطف العراقي فيرجع النكبة إلى صداقة الفيلسوف ابن رشد مع أبي يحيى أخ يعقوب المنصور، وهي الرواية التي استند إليها الجابري في تفسيره للنكبة، كما نجدها عند الأنصاري "ويذكر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة"[9]. ويعتبر العراقي أن هذا السبب ليس معقولا، إذ لا يمكن أن تؤدي صداقة ابن رشد مع أخ الخليفة إلى نفيه ونفي أصدقائه المشتغلين بعلوم الأوائل كأبي جعفر الذهبي وأبي العباس الحافظ الشاعر القرابي وأبي الربيع الكفيف.....

وأخيرا استبعد عاطف العراقي أن تكون عبارة "ملك البربر" التي اعتبرها بعض المترجمين كعبد الواحد المراكشي سببا خفيا في نكبة ابن رشد، حيث قال إن ابن رشد أثناء ذكره للزرافة قال إنه رآها عند ملك البربر الشيء الذي أثار غضب الخليفة، وقد نفى العراقي هذه الرواية معتبرا أنه لو كان ذلك سببا كان بإمكان المنصور معاقبة ابن رشد بمفرده واستبعاده من البلاط دون معاقبة أصدقائه.

بعد عرضه لهذه الروايات ونفيها، عمل عاطف العراقي على تقديم ما أسماه السبب الحقيقي الذي يقف وراء نكبة ابن رشد، ولتوضيح ذلك قام أولا بمقارنة سياسة الخليفة أبي يعقوب يوسف الموحدي مع سياسة ابنه أبي يوسف يعقوب المنصور؛ فالأول كان محبا للعلم والفلسفة والعلماء إلى درجة أنه أمر بجمع جميع كتب الفلسفة، يقول عبد الواحد المراكشي: "لم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء، وخاصة أهل علم النظر، إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب"[10]. كما أنه عمل على جمع العلماء من جميع الأقطار مثلما كان يجمع كتب الفلسفة، وفي هذا يقول مؤلف كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب "ولم يزل أبو بكر هذا يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار وينبهه عليهم ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن محمد بن رشد"[11]. وما يؤكد حبه للفلسفة والفلاسفة هو أن الفيلسوف ابن طفيل كان صديقا وطبيبا للخليفة، كما أنه انتدب ابن رشد لشرح كتب أرسطو. أما أبو يوسف يعقوب المنصور الذي تولى الحكم خلافا لأبيه، وخلال فترة حكمه حدثت نكبة ابن رشد، يقول عاطف العراقي: "أنه مقارنة مع أبيه يمكن القول إنه إذا كان الأب يبحث عن الكتب الفلسفية والعلماء، فإن الابن كان يبحث عن الصالحين والأتقياء"[12]، وفي هذا يقول عبد الواحد المراكشي: "وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد، ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة"[13].

بعد هذه المقارنة، يستنتج عاطف العراقي أن للنكبة علاقة وطيدة بكره الخليفة للفلسفة والمشتغلين بها، حيث يقول: "لن نستطيع التوصل الى سبب حقيقي لنكبة فيلسوفنا، إلا إذا أدخلنا في الاعتبار اهتمامه بالعلوم الفلسفية والمنطقية وعلى وجه الخصوص شرحه لأرسطو"[14] كما أن العصر الذي عاش فيه ابن رشد يؤمن بوجود تعارض بين الفلسفة والدين، إضافة الى الهجوم الذي شنه ابن رشد على الفرق الكلامية، وهو ما يعني أن ظروف النكبة كانت مهيأة، وما يؤكد ذلك بالإضافة الى ما قلناه أعلاه هو موقف الذهبي الذي يقول في حديثه عن ابن رشد "قلت ذكر شيخ الشيوخ تاج الدين لما دخلت إلى البلاد سألت عنه فقيل إنه مهجور في داره من جهة الخليفة يعقوب، ولا يدخل أحد عليه، ولا يخرج هو على أحد، فقيل لم، قالوا: رفعت عنه أقوال ردية ونسب إليه كثرة الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل، ومات وهو محبوس بداره بمراكش"[15]، كما يعرض العراقي لرواية يقول بها عبد الواحد المراكشي مؤلف كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب"، مفادها أن بعض حساد ابن رشد قاموا بجمع بعض تلاخيصه حول أرسطو من قبيل: قوله "فقد ظهر أن الزهرة أحد الالهة" وعرضوها على الخليفة يعقوب المنصور الذي عرضها على ابن رشد وسأله أخطك هذا؟ فأنكر، فقال أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط! وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه على حالة وإبعاده وابعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم. وقد أمر الخليفة بأن تكتب عنه الكتب الى البلاد طالبة من الناس ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها، ما عدا الطب والحساب وعلوم الفلك التي تؤدي الى معرفة أوقات الليل والنهار واتجاه القبلة في الصلاة، فانتشرت هذه الكتب في سائر البلاد وعمل بمقتضاها"[16]. إن هذا المنشور يؤكد بما لا يدع مجال للشك مدى الحقد الكبير الذي يكنه الخليفة للفلسفة والفلاسفة، هكذا ينتهي عاطف العراقي الى القول إن السبب المسؤول عن النكبة هو اشتغال ابن رشد بالفلسفة، وقد عبر عن هذا بقوله: "إن السبب الذي يرجع النكبة إلى اشتغاله بالعلوم المنطقية والفلسفية، هو السبب الأساسي عندنا، بل لا مفر من الاعتقاد بأنه يعد السبب الوحيد والجوهري"[17].

3) إرنست رينان: التشدد الديني وراء النكبة

إذا كان محمد عابد الجابري قد بين أن نكبة ابن رشد لها علاقة وطيدة بالعنصر السياسي مفندا كل الروايات الأخرى لكونها مجرد تخمينات، وإذا كان عاطف العراقي خلافا للجابري قد ربط النكبة باشتغال ابن رشد بعلوم الأوائل أي الفلسفة والمنطق، فإن إرنست رينان على النقيض من الجابري وقريبا من عاطف العراقي، قد اعتبر أن نكبة فيلسوف قرطبة ذات أصل ديني، ناتجة عن التحريم الذي طال الفلسفة من قبل السلطة السياسية ورجال الدين، الذين شنوا حربا ضروسة وشاملة على الفلسفة والفلاسفة، سواء في المشرق أو في المغرب، حيث صدرت قوانين وفتاوى تحرم الاشتغال بالفلسفة، كما تم إحراق العديد من كتب الفلسفة، ويعبر رينان عن هذا بقوله: "ففي أواخر القرن الثاني عشر نظمت حرب على الفلسفة في جميع العالم الإسلامي"[18]، ويعزي رينان هذا الهجوم على الفلسفة والفلاسفة إلى أن الأنظمة السياسية الحاكمة صادرة عن مذهب الغزالي الذي شن هجوما على الفلسفة والفلاسفة إلى درجة أنه كفرهم، يقول رينان في إشارة إلى الغزالي: "وأن مؤسس حزبهم بإفريقية كان تلميذا لعدو الفلسفة هذا"[19]. ولتأكيد طرحه هذا يورد إرنست رينان مجموعة من الشواهد التي تثبت أن الغلو في التشدد الديني هو سبب النكبة، ومن بين هذه الشواهد أن "التلميذ المفضل لموسى ابن ميمون، الرباني يهودا، شاهدا على هذا المنظر الغريب، فقال: لقد شاهدت في يد العالم كتاب ابن الهيثم في الفلك، ويشير العالم إلى الدائرة التي عرض هذا المؤلف بها الفلك، ويقول بصوت عال: "هذا هو البلاء العظيم، هذه هي المصيبة التي يعجز عن بيانها اللسان، هذه هي النكبة القاتمة"!، وقد مزق الكتاب، وهو يقول هذا وألقاه في النار"[20]، "وأن ابن طفيل عد مؤسس الإلحاد الفلسفي، وأستاذا لابن رشد وابن ميمون في الزندقة[21] إلى غيرها من النماذج والوقائع التي تحفل بها كتب التاريخ، وهو ما يؤكد أن تلك المرحلة عرفت انتكاسة وانقلابا خطيرا على الفكر الفلسفي والعلمي، مقابل تعظيم دور الفقهاء والكتب الدينية، كما أن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلاسفة كان مباركا من قبل السلطة السياسية التي تخلت عن دورها في حماية الفلسفة والفيلسوف، مقابل دعمها لرجال الدين والعامة، الذين ينعتون كل مشتغل بالفلسفة بالزنديق، والمتحمسون لقتل كل من يبدو لهم أنه خارج عن الدين كما يفهمونه.

ومن جهتنا، نؤكد هذا الطرح الذي تبناه رينان من أن التشدد الديني هو السبب في نكبة ابن رشد، ولنا في ذلك العديد من الأدلة التي تثبت ذلك، وأولها ما روي عن ابن رشد من تشكيكه في وجود قوم عاد الذين تم ذكرهم في القرآن، فقد ورد في "قطعة من سيرة ابن رشد للأنصاري" أن ابن رشد قال: "والله وجود عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم، فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القران الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"[22] وسواء كانت هذه الرواية صحيحة أم لا، فإن الشيء الأكيد هو التحامل على ابن رشد لكونه خرج عن الملة والدين، ومما يؤكد دعوتنا كذلك هو الدلالة الرمزية للمكان الذي نفي إليه ابن رشد "أليسانة"، وهي قرية يستوطنها اليهود، وهو ما يعني أنه كافر وخارج عن الملة والدين، أضف إلى ذلك واقعة المسجد في قرطبة التي ما هي إلا دليل على ما نقول، والتي عبر عنها ابن رشد بقوله: "أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة وقد حانت صلاة العصر فثار لنا بعض سفلة العامة، فأخرجونا منه"[23]. كما قيلت فيه أبيات شعرية كثيرة تعبيرا عن كفره ومروقه وزندقته ونكاية في نكبته، فقد قال الحاج أبو الحسين بن جبير فيه وفي نكبته:

"لم تلزم الرشد يا بن رشد          لما علا في الزمان جدك

وكنـت في الديـن ذا ريـاء           ما هكـذا كان فيـه جــدك

وله فيه:

نفـذ القضاء بأخـذ كل مرمـد                  متفلسف في دينه متزندق

بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة                 إن البلاء موكل بالمنطق"[24].

خاتمة:

هكذا إذن تعددت الآراء والتأويلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء نكبة الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد، بين من يرجعها إلى علاقة ابن رشد مع أبي يحيى أخ الخليفة المنصور، باعتبارها علاقة ذات بعد سياسي تتمثل في شرح ابن رشد لكتاب "جوامع سياسة أفلاطون" وإهدائه لأخ الخليفة الذي كان يتحين الفرصة للظفر بالحكم، وهو ما دفع المنصور إلى الانتقام منهما معا، وبين من يربطها باشتغال ابن رشد بالفلسفة والمنطق أو بعلوم الأوائل المنبوذة من قبل الخليفة يعقوب المنصور، وتصور ثالث يرى أن التشدد الديني هو السبب الرئيس في نكبة الفيلسوف ابن رشد. وسواء أكان السبب سياسيا أو دينيا، فإن نكبة ابن رشد هي نكبة للحضارة الإسلامية، إذ بوفاته انطفأت اخر شعلة في الفلسفة الإسلامية، ومنذ ذلك الحين ظلت الحضارة الإسلامية خارج التاريخ.

هكذا إذن طرد ابن رشد من العالم الإسلامي وانتقل إلى الضفة الأخرى، حيث استقبل بحفاوة لا مثيل لها في الغرب المسيحي، استقبال لم يخص أعماله فحسب، بل حتى رفات جثته التي أبى المسلمون الاحتفاظ بها، أخذت أوروبا المسيحية ابن رشد وأصبح يدرس في كل الجامعات الأوروبية باسم "Averroes" وأسسوا مدرسة فكرية باسم "الرشدية اللاتينية" التي شكلت مفتاح فهم فلسفة أرسطو ونبراس ولوج النهضة الأوروبية.

 

المصادر والمراجع:

-          عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2005

-          إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل زعيتر، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013

-          محمد عاطف العراقي، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1974

-          محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2000

[1] محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2000، صفحة: 120

[2] نفس المرجع، صفحة: 122

[3] نفس المرجع، صفحة: 129

[4] نفس المرجع، ص: 130-129

[5] نفس المرجع، صفحة: 127

[6] نفس المرجع، ص: 135

[7] ن، م، ص: 152

[8] نفسه، ص : 153

[9] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل زعيتر، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013، صفحة: 330

[10] عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2005، صفحة. 169

[11] نفس المرجع، صفحة: 171

[12] محمد عاطف العراقي، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1974، صفحة: 157

[13] عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2005، صفحة. 197

[14] محمد عاطف العراقي، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1974، صفحة: 167

[15] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل زعيتر، دار التنوير، لبنان، الطبعة الأولى، 2013، صفحة: 340

[16] عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2005، صفحة. 218-219

[17] محمد عاطف العراقي، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1974، صفحة: 169

[18] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل زعيتر، دار التنوير، لبنان، الطبعة الأولى، 2013، صفحة: 37

[19] المرجع نفسه، صفحة: 38

[20] نفس، المرجع، صفحة: 38

[21] المرجع نفسه، ص. 38

[22] المرجع نفسه، ص. 332

[23] نفس المرجع، صفحة: 330

[24] المرجع نفسه، صفحة. 333