ابن رشد والخروج من العباءة الأرسطية في قضية المرأة


فئة :  مقالات

ابن رشد والخروج من العباءة الأرسطية في قضية المرأة

ابن رشد والخروج من العباءة الأرسطية في قضية المرأة

 تعد المرأة من أبرز القضايا التي اتخذت موضوعا للتفكير الفلسفي منذ الفلسفة اليونانية إلى اليوم، وسوف نعرض في هذه المقالة لتصورين فلسفيين مختلفين؛ الأول ينتمي إلى الفلسفة اليونانية ويمثله الفيلسوف أرسطو الملقب بالمعلم الأول، والثاني ينتمي إلى فلسفة العصور الوسطى ويمثله الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد. فرغم انتماء الفيلسوفين إلى ما يسمى بالفلسفة الكلاسيكية، إلا أنهما يعبران عن أطروحتين متعارضتين إلى حد القطيعة، فالمعلم الأول وضع المرأة في مرتبة بين الرجل اليوناني الحر والعبيد، حيث احتلت مرتبة دنيا في منظومته الفلسفية معتبرا إياها مخلوقا ناقصا أنتجته الطبيعة نتيجة انحرافها عن مسارها الطبيعي، وأدنى درجة من الرجل، ولتوضيح طرحه هذا سخر أرسطو منظومة مفاهيمية متكاملة كالتراتبية الكسمولوجية والوظيفة كما أن تصور أرسطو هذا يعكس الواقع الاجتماعي والثقافي الإغريقي. وفي المقابل، أسس الفيلسوف الأندلسي ابن رشد أطروحة تشيد بالمرأة، حيث عمل على إلحاق المرأة بالرجل من خلال الإقرار بالمساواة التامة بينهما، مؤكدا قدرة المرأة على ممارسة الحكمة والرئاسة في إشارة إلى المرأة الفيلسوفة والمرأة الحاكمة، ورغم أن ابن رشد كان يعيش في سياق معرفي يتسم بسيادة الفكر الأرسطي، حيث كانت فلسفة أرسطو بمثابة البراديغم الذي يشتغل الكل تحت مظلته، وسياق مجتمعي ذكوري بالإضافة إلى هيمنة سلطة الفقهاء الذين يعتبرون المرأة مجرد أداة للإنجاب وخدمة الرجل، قلت رغم أن فيلسوفنا كان محاطا بهذه القيود، إلا أنه استطاع أن يبني تصورا فلسفيا عقلانيا وتنويريا يعد بمثابة أول موقف في تاريخ الفلسفة لا يدافع عن المرأة فقط، بل يساويها بالرجل مساواة تامة، إن هذا الموقف يبين مدى ارتفاع منسوب الجرأة لدى فيلسوفنا ابن رشد؛ وذلك على مستويين: من خلال الخروج عن النسق الأرسطي الذي كان مهيمنا، ومن خلال نقد الثقافة السائدة التي تتسم بميسم القداسة. وهنا وجب أن نشير إلى أننا لا نتفق مع الآراء التي لا ترى في ابن رشد سوى شارحا وتابعا لأرسطو. إن هذا الطرح لا يعكس حقيقة فيلسوفنا وما موضوع المرأة سوى نموذج من نماذج عدة تبين تهافت الرأي القائل بتبعية ابن رشد لأرسطو.

1- تصور أرسطو حول المرأة

بداية نشير إلى أن تصور أرسطو للمرأة هو جزء من منظومته الفكرية التي تستند إلى مجموعة من الأدوات والآليات النظرية التي هي بمثابة دعائم للفكر الأرسطي. إن أول هذه الأدوات النظرية هي التراتبية الكسمولوجية، والتي تفيد أن هناك تراتبية على مستوى الكون من حيث مكوناته، فمكونات الكون لا توجد على نفس المستوى والدرجة، وإنما تختلف باختلاف مكوناتها ومن ثمة اختلاف ترتيبها في سلم الكون من الأدنى إلى الأعلى. إن هذه التراتبية لا تقتصر على مكونات الكون، وإنما تنعكس حتى على موجوداته بدءا من الجماد مرورا بالنبات والحيوان وصولا إلى الإنسان. وعلى أساس هذه التراتبية يحدد أرسطو مكانة المرأة في سلم الوجود بالمقارنة مع الرجل. أما الآلية النظرية الثانية التي على أساسها بنى أرسطو منظومته الفلسفية فهي الوظيفة، فبموجب هذا المفهوم اعتبر أرسطو أن كل موجود في الطبيعة له وظيفة محددة هي التي تحقق ماهيته، وكل كائن لا يقوم إلا بالوظيفة المؤهل إليها بالطبيعة، يقول أرسطو: "كل شيء يستمد تعريفه من وظيفته، وقدرته على تأديتها، وينتج عن ذلك أنه ما لم تكن الأشياء قادرة على تأدية وظيفتها، فلا ينبغي علينا أن نقول إنها لا تزال هي نفسها الأشياء حتى وإن كانت لا تزال تحمل الأسماء ذاتها..."[1]. واستنادا إلى ذلك يحدد أرسطو الوظيفة الاجتماعية للمرأة مقارنة مع وظائف الرجل.

اعتمادا على هذه الآليات النظرية حاول أرسطو أن يصوغ نظرية متكاملة تحدد مكانة الأنثى في ميدان البيولوجية والمرأة في مجال السياسة.

في ميدان البيولوجيا:

فعلى غرار التراتبية الكسمولوجية توجد كذلك تراتبية بيولوجية، حيث يعتبر أرسطو أن الأنثى حسب تكوينها البيولوجي أدنى قدرة وطبيعة من الرجل، أو لنقل بتعبير أرسطو إن الأنثى بالطبيعة أدنى درجة من الذكر، ومنطلقه في ذلك هو أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا أو عبثا، فكل موجود خلقته وحددت موقعه في سلم الوجود مقارنة مع الكائنات الأخرى، ووفقا لهذا المنطق حددت الطبيعة وظيفة الإناث في الإنجاب لاستمرار النوع وخدمة الرجال كما يخدم العبد سيده، ومن الأمور الطبيعية كذلك أن يحكمهن الرجال؛ لأن الأنثى كائن ناقص. ففي عملية الإنجاب تظل الأنثى كائنا متلقيا وسلبيا، في حين أن الذكر هو الكائن الفاعل والمنتج فهو الذي يلعب الدور الحاسم في عملية الإنجاب، فالذكر يعطي الصورة التي سيكون عليها الجنين؛ أي الروح والحياة، في حين أن الأنثى لا تقدم سوى المادة الخام لتكون الجنين، "الذكر هو الذي يهب الصورة أو الروح لدماء الطمث التي هي أشبه بالمادة الميتة، ومن هنا كان الذكر هو الذي يقوم بوظيفة العلة الفاعلة في حين أن الأنثى لا تقدم سوى الهيولى أو المادة"[2]. كما يؤكد أرسطو أن الغاية من الإنجاب هي إنجاب طفل يشبه أباه وليس أمه، وأن أي خروج عن هذه القاعدة هو انحراف عن غاية الطبيعة، يقول أرسطو: "إن ذلك الذي لا يشبه والديه من الأطفال هو، بمعنى ما، تشوه خلقي Monstrosity؛ لأن الطبيعة تكون في هذه الحالة قد انحرفت بطريقة ما عن النموذج أو المثال..... والواقع أن الانحراف الأول هو أن يجيء النسل أنثى بدلا من أن يكون ذكرا"[3]. هكذا إذن يمكن القول إن السباحة ضد الطبيعة تعني أن يأتي المولود أنثى وليس ذكرا. كما يعلل أرسطو دونية الأنثى بالاستناد إلى مبدئه الذي يقول إن كمية الحرارة الموجودة في الكائنات تحدد درجتها في سلم الموجودات، فإذا كانت كمية الحرارة مرتفعة في الكائن احتل مرتبة أعلى من الكائنات التي لديها كمية أقل، ومن هنا فإن ضعف ودونية الأنثى راجع إلى أن كمية الحرارة الموجودة فيها ضعيفة مقارنة مع كمية الحرارة الموجودة عند الرجل، وقد عبر أرسطو عن هذا بقوله: "الكائن الذي تزوده الطبيعة بقدر أقل من الحرارة هو الكائن الأضعف...ولقد سبق أن قررنا بالفعل أن تلك هي خاصية الأنثى"[4].

يمكن القول كذلك إن تصور أرسطو هذا الذي ينزل بالمرأة إلى مرتبة الحيوان ما هو إلا انعكاس للثقافة السائدة في المجتمع الإغريقي الذي كانت فيه المرأة عبارة عن سلعة تباع وتشترى في الأسواق إلى جانب العبيد، باستثناء إسبرطة، حيث كانت المرأة تتمتع ببعض الحقوق وبنوع من الحرية، والسبب في ذلك راجع إلى: "وضع المدينة الحربي حيث شغف الرجال بخوض المعارك مما أفسح المجال أمام المرأة لتخرج من عزلتها في بيتها لشراء حاجاتها أثناء غياب زوجها، لذلك يمكن أن نعتبرها أفضل من المرأة التي كانت تعيش في أثينا وبقية البلدان اليونانية الأخرى".[5] إن هذه الحرية النسبية للمرأة الإسبرطية أقلقت أرسطو؛ لأنها وضعية تسبح ضد الطبيعة، "وهذه الحرية الجزئية التي تمتعت بها المرأة الإسبرطية جعلت أرسطو يحمل على رجال إسبرطة ويتهمهم بالتساهل مع نساء مدينتهم....ويرد سقوط إسبرطة واضمحلالها إلى هذه الحرية وهذا الإسراف في الحقوق"[6].

في مجال السياسة:

إن ما قلناه على مستوى البيولوجيا يصدق حتى على المستوى السياسي والاجتماعي؛ أي إن أرسطو قام بإسقاط منظومته الميتافيزيقية على الممارسة السياسية، كما يمكن القول إن تصوراته السياسية ما هي إلا انعكاس للواقع السياسي والاجتماعي السائد في اليونان. لهذا نجد أن أرسطو يستبعد المرأة من مجال السياسة؛ لأن مهمتها تنحصر في الإنجاب وخدمة الرجل، وسيرا على نهجه التراتبي الذي يقول إن الجماد وجد لخدمة النبات والنبات وجد لخدمة الحيوان، والحيوان لخدمة الإنسان، نجد أن المرأة وجدت لخدمة الرجل، ويعتبر أرسطو أن هذه التراتبية مسالة طبيعية وليست منتوجا ثقافيا واجتماعيا، فاللامساواة هي مبدأ طبيعي لا ينبغي أن نسبح ضده. ومادام أن المرأة أدنى مرتبة من الرجل، فإنها لا تصلح للرئاسة والحكم لأن في ذلك هدم لقوانين الطبيعة، بل من العدل أن يحكم الرجال النساء، يقول أرسطو: "لأن جنس الذكر أصلح للرئاسة من جنس الأنثى. ومن ثم فتسلط الرجال على النساء مسألة طبيعية"[7]. كما يعزي أرسطو عدم أهلية المرأة للحكم إلى أن الجزء العقلي في المرأة لا يتحكم في الجزء اللاعقلي كما هو الأمر عند الرجل، لذلك فحكم الرجل للمرأة ضرورة طبيعية مثلما يخضع الجزء اللاعقلي للجزء العقلي في الرجل، وفي هذا يقول أرسطو: "فالنفس تتألف من جانبين أو عنصرين: العنصر العقلي والعنصر اللاعقلي. ومن الطبيعي، بل ومن المفيد أن يحكم العنصر العقلي ويسيطر على الجانب اللاعقلي في النفس.

وهكذا نجد أن من العدل أيضا أن يحكم الرجال النساء، صحيح أن لديهن ملكة التروي العقلية، لكنها بلا فاعلية، ولذا من السهل أن يسيطر عليهن العنصر الللاعقلي"[8].

2- تصور ابن رشد للمرأة

إذا كان أرسطو قد أسس منظومة فكرية احتلت فيها المرأة مكانة دونية تتساوى مع العبيد، حيث تقتصر وظيفتها على الإنجاب وخدمة الرجل، فإن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد قد أسس تصور عقلاني ونقدي شكل ثورة على التصور التراتبي الأرسطي ومفكري العصر الوسيط؛ وذلك من خلال إقراره بأن المرأة والرجل لا يختلفان في الغاية الإنسانية ومن حيث انتسابهما إلى النوع الإنساني معتبرا أن وصول المرأة إلى رئاسة الدولة من الأمور الطبيعية، وبذلك عمل على هدم الفرق الطبيعي بين الذكر والأنثى الذي اعتمد عليه أرسطو لتأييد دونية المرأة، من خلال تأكيده أن المرأة تتساوى مع الرجل في الكفاءات الذهنية والعملية. وتعد أفكار ابن رشد في هذا السياق سابقة لعصره، فهو أول فيلسوف تبنى موقف المساواة بين الرجل والمرأة متجاوزا آراء فلاسفة اليونان وحتى المسلمين الذين يرون أن المرأة أداة للإنجاب وخدمة الرجل، والفقهاء الذين اعتبروا المرأة أقل مرتبة من الرجل، فهذا حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الذي انتقد الفلاسفة المسلمين (الفارابي وابن سينا) بلا هوادة بسبب اتباعهم فلسفة أرسطو إلى درجة التكفير، نجد أن تصوره حول المرأة ما هو إلا امتداد للتصور الأرسطي، فالمرأة حسب الغزالي ما هي إلا أداة للإنجاب وخادمة للرجل وأن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، حيث يقول في كتابه الشهير إحياء علوم الدين: "فالقول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل: أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها، لا يكثر صعودها واطلاعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبتها، وتطلب مسرته في جميع أمورها....همها صلاح شأنها وتدبير بيتها"[9]، ويقول في كتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك، "إن المرأة أسير الرجل، ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن، وبسبب نقص عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر برأيهن ولا يتلفت إلى أقوالهن"[10]، هكذا يعبر الغزالي كما أرسطو عن قصور المرأة ودونيتها أمام الرجل، ومنه فالرجل باعتباره "كائنا كاملا" هو المؤهل لاتخاذ القرار وتحمل المسؤولية.

تطرق ابن رشد لقضية المرأة في تلخيصه لكتاب "جمهورية أفلاطون"، وهو من الكتب التي فقد أصلها العربي، وقد وصلنا عنه تلخيص لإرنست رينان في كتابه "ابن رشد والرشدية" الذي ترجم من اللاتينية إلى الفرنسية ونقله إلى العربية عادل زعيتر، يقول ابن رشد: "نختلف النساء عن الرجال في الدرجة لا في الطبع. وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما. ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من قبل رجل والغناء من قبل امرأة. ويدل مثال بعض الدول في إفريقيا على استعدادهن الشديد للحرب. وليس من الممتنع وصولهن إلى الحكم في الجمهورية أولا يرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور"[11]. نستشف من خلال هذا النص المكثف أن ابن رشد نظر إلى المرأة على أنها كائن إنساني كامل الإنسانية، وهو ما يعني أنها تساوي وتشارك الرجل في الصنف الإنساني، فهي ليست ناقصة في أي جانب من الجوانب فقد تكون أقل كفاية من الرجال في بعض الأعمال، وفي المقابل قد تكون أكثر منهم في أعمال أخرى، وإن كان هناك ضعف ووهن جسدي ناتج عن الولادة، فهو مرحلي زائل وليس دائما، هكذا يكون الاختلاف بين الرجل والمرأة أفقيا تكامليا وليس عموديا تفاضليا. إن هذا يعني أن فكرة دونية المرأة التي كانت سائدة في المجتمع الأندلسي وفي المجتمع اليوناني هي نتاج للأعراف الاجتماعية التي تنظر للمرأة نظرة منحطة، وهي نظرة اعتبرها ابن رشد منقوصة لا تتسق مع إنسانية المرأة. كما يعتبر ابن رشد أنه إذا كان الرجال يتميزون بالقدرة على الكد والشقاء، فإن النساء يتميزن بالحذاقة والمهارة والفطنة، ويعطي مثالا على ذلك بـ: "صناعة الألحان التي تبلغ كمالها إذا أنشأها الرجال وأدتها النساء"[12]، وفي ذلك تكامل الوظائف والأدوار وليس تفاضل وتفوق، وهو ما يحقق الكمال. وإذا انتقلنا إلى "الحكمة" و"الرئاسة" التي كان يحتكرها الرجال في اليونان والرومان نجد ابن رشد يقول: "ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات وحاكمات"[13]. يدل هذا القول على أن الحكمة والرئاسة مثلما أنهما في متناول الرجال فهما كذلك في متناول النساء، باعتبارهن قادرات على تولي مقالد الحكم وعلى ممارسة التفكير الفلسفي المجرد، وأن ادعاء عكس ذلك هو من قبيل الجهل، كما يؤكد ابن رشد على أن كفاءة المرأة لا تقل عن الرجل حتى في الحروب مقدما مثالا على القدرة الحربية للنساء بالدول الإفريقية، حيث كانت النساء يشاركن في الحروب بل نجد منهن قائدات حربيات، يقول ابن رشد: "أما مشاركتهن في فن الحرب وما شابه ذلك، فإن هذا واضح عند أهل البراري والثغور"[14].

وإذا كان أرسطو قد ربط سقوط "إسبرطة" وتدهورها بالسماح للنساء بالخروج من بيوتهن وتمتعهن بالحرية، فإن ابن رشد على النقيض من أرسطو اعتبر أن تخلف وتدهور أحوال الأندلس راجع إلى تعطيل دور المرأة في الحياة العامة، فحجب النساء عن العالم الخارجي وعن المشاركة في تدبير الشأن العام هو من الأسباب الرئيسة في فقر المجتمع الأندلسي وتدهوره، يقول ابن رشد متحدثا عن وضعية المرأة في الأندلس: "وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن؛ لأنهن اتخذن للنسل وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلا لأفعالهن (الأخرى).

ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب. ولكونهن حملا ثقيلا على الرجال صرن سببا من أسباب فقر هذه المدن"[15].

هكذا إذن تنجلي الصورة التقدمية لابن رشد اتجاه المرأة، حيث انتصر لها من خلال المناداة بمساواتها بالرجل، والدعوة إلى مشاركتها معه في جميع الأعمال، كما دافع عن إمكانية بل حق المرأة في تولي الرئاسة مثل الرجل. فالمرأة كما يقول ابن رشد لم توجد للإنجاب والعناية بالأولاد فقط، فذلك تعطيل لقدراتها وتجميد لطاقاتها مما يجعلها عاطلة، وهو ما سيسبب الفقر واضمحلال المجتمع الذي لا يؤمن بقدراتها. وفي هذا السياق وجب أن نشير إلى أن هذا التصور الرشدي الثوري على أرسطو والفقهاء والتقدمي تجاه المرأة لم يلق إقبالا كبيرا لدى المفكرين الغربيين، إذ يعد من الأفكار المسكوت عنها في الفكر الرشدي، وهذا راجع في نظرنا إلى سببين رئيسين، يتعلق الأول بالصورة النمطية التي ألصقت بالفيلسوف ابن رشد، باعتباره مجرد شارح ومقلد لأرسطو، والثاني يرتبط بالنزعة المركزية الغربية التي تعتبر بأن الغرب هو مصدر العلم والفلسفة وما الآخر إلا تابع ومقلد.

خاتمة:

هكذا يمكن القول إن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد بنظرته التقدمية اتجاه المرأة أحدث قطيعة ابستمولوجية مع أستاذه أرسطو الذي أسس منظومة فكرية لتكريس دونية المرأة واعتبارها كائنا ناقصا أنتجته الطبيعة نتيجة انحرافها عن مسارها الطبيعي، وفي ذلك دلالة على التوجه الفلسفي الخاص لابن رشد وعدم تبعيته للمعلم الأول كما يدعي البعض، كما أحدث قطيعة مع تصورات الفقهاء والموروث الثقافي السائد في عصره، تصورات اعتبرت المرأة كائنا قاصرا وأدنى درجة من الرجل، وأن وظيفتها تنحصر في الإنجاب وخدمة الرجل. وتتجلى القطيعة التي أحدثها ابن رشد في تأكيده على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في القدرات الذهنية والعملية، وإقراره على أن المرأة كائن إنساني كامل الإنسانية، ومن ثمة أهليتها على ممارسة الحكم والفلسفة ومشاركة الرجل في تدبير جميع الأعمال.

وتعتبر هذه الأطروحة الرشدية جزءا من منظومته الفلسفية العقلانية النقدية، والتي أثرت في نظرة الأوروبيين للمرأة في العصور الحديثة، ففي العصر الوسيط المسيحي كان ينظر للمرأة على أنها رجل ناقص أو طفل صغير، لكن بعد سيطرة التوجه العقلاني الرشدي في أوروبا تغيرت النظرة تجاه المرأة، كما أن كل مطالب النساء الحقوقيات اليوم في العالم هي مطالب ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، وهنا تكمن راهنية فيلسوفنا ابن رشد الذي يستحق أن تخلده المؤسسات الحقوقية التي تدافع عن المرأة، وأن يتخذ رمزا ومرجعية نظرية للمدافعين عن المرأة.

 

المصادر والمراجع المعتمدة:

- ابن رشد، تلخيص السياسة لأفلاطون، ترجمة، حسن محمد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998

- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 2005

- أبو حامد الغزالي، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، تحقيق، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1988

- إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل الزعيتر، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013

- محمد عابد الجابري، ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1998

- إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مؤسسة الأهرام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996

- باسمة كيال، تطور المرأة عبر التاريخ، مؤسسة عزالدين، بيروت، 1981

[1]إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مؤسسة الأهرام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996 صفحة، 33

[2] المرجع نفسه، صفحة، 54

[3] نفس المرجع، صفحة. 58

[4] نفسه، صفحة. 62

[5] باسمة كيال، تطور المرأة عبر التاريخ، مؤسسة عزالدين، بيروت، 1981، صفحة. 33

[6] نفس المرجع، صفحة. 33-34

[7] إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مؤسسة الأهرام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996، صفحة، 81

[8] نفس المرجع، صفحة، 87

[9] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، صفحة، 500

[10] أبو حامد الغزالي، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، تحقيق، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1988، صفحة، 130

[11] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة، عادل الزعيتر، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013، صفحة، 132

[12] ابن رشد، تلخيص السياسة لأفلاطون، ترجمة، حسن محمد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، صفحة، 124

[13] نفس المرجع، صفحة، 125

[14] نفسه، صفحة، 124

[15] محمد عابد الجابري، ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، صفحة، 251