هايدغر وميتافيزيقيا الكائن


فئة :  مقالات

هايدغر وميتافيزيقيا الكائن

هايدغر وميتافيزيقيا الكائن[1]

أ- بنيويَّة هايدغر الإيجابيّة تجاه ميتافيزيقيا أرسطوطاليس:

من الممكن إيجادُ واحدٍ من المترتبات الأنطولوجية الشاملة للمسار الميتافيزيقي، الذي تتبعت جذوره بالعودةِ إلى أرسطو، في مؤلَّف مارتن هايدغر، الكينونة والزمان. يؤمن هايدغر شخصياً أنَّ خطابه الأنطولوجي هو امتداد، وليس مجرد عودةٍ إلى، الفكر الإغريقي العتيق حول مفهوم «الكائن» (Being)، والذي يعتقد هايدغر أنه تعرَّضَ للإهمال تقليدياً في الفكر الغربي منذ زمن رينيه ديكارت ومن بعده. تدفع هذه القناعة هانز- جورج غادامر للاستنتاج أنَّ تساؤل هايدغر عن مفهوم «الكائن» هو تصحيحٌ لحِرمَان الذاتويّة الماورائية (transcendental subjectivity) من أيّ قاعدة أنطولوجية (ontological groundlessness)[2]. لهذا، فإنَّ كافة كتابات هايدغر التي ألفها ما بعد عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، مثل الكينونة والزمان ومدخل إلى الميتافيزيقيا (Introduction to Metaphysics) ما هي سوى استحضار للتساؤل الفلسفي الكلاسيكي حول العلاقة بين الحقيقة والمعرفة.

خلافاً للحصر الأفلاطوني للمعرفة ضمن حدود الفضاء العقلي والتفكير المثالي فقط، يوسِّع أرسطو، كما بينت سابقاً، من حدود المعرفة ليجعلها تبلغ منطقة الإدراك في سياق الوجود المادي أو الطبيعي. لم يعد الجزئي مجرد حجابٍ يخفي الكوني أو المطلق أو المبدأ الأول (first principle). يكشف الجزئي الكلّي بشكلٍ عميقٍ وبنيويِّ: يصبح الكوني قائماً في امتداداته الجزئية. يتبدّى اعتماد هايدغر على هذا المنطق في ادعائه أنّه «حتى 'حدس الحواس' الظَّهوري (wissensshow) يتأسَّس على قاعدة فهمٍ وجودي»[3]. بكلماتٍ أخرى، الطريقة الوحيدة لمعرفة معنى «الكائن» هو البدء من حقل الجزئيات والخصوصيات دون أن ننسى أنَّ «فَهمُ الكينونة في جوهرها فقط هو ما يمكِّن للكائنات الجزئية أن تكشف نفسها بنفسها أمامنا»[4]. يناقش ثيودور كيزل أنَّ عودة هايدغر لأبستمولوجيا أرسطو التصنيفيّة لم تكن عودة مباشرة، وإنما تمت بشكلٍ غير مباشرٍ عن طريق قراءة هايدغر لتوظيف فِكر أرسطو في مشروع أدموند هوسرل الفينومينولوجي، والذي تمحورت أطروحته، كما يخبرنا هايدغر، حول «الحدس التصنيفي» (categorical intuition)[5]. إلا أنَّ كيزل يعتقد أيضاً أنَّ هايدغر يمضي أبعد من كل من هوسرل وأرسطو على حد سواء، إذ إنه يعامل التصنيفات كمؤشِّراتٍ إلى البُعد الأنطولوجي للكينونة، والذي يكمن وراء المعطيات الحواسِّية[6]. أود أن أمضي أبعد من كيزل لأقول إنَّ انتباه هايدغر للأنطولوجي وراء التصنيفي ما هو سوى انعكاس لتأثير فيلهلم دلتاي على تفكير هايدغر. يظهر هذا التأثير في تجنُّب هايدغر لاختزال «الكائن» إلى مجرّد إدراكٍ أو حدسٍ تصنيفي أو مجرّد لغةٍ تفسيريّة.

في معرض تتبُّع فهم هايدغر للعلاقة بين الأنطولوجي والتصنيفي، لن نكون مخطئين إن قررنا السير في ركبِ قرار كيزل بالعودةِ إلى أوراق مادّة دراسية عَلّمها هايدغر في عام 1925 حول مُؤلَّف هوسِرل، تحقيقات منطقية (Logical Investigations). يمكن للمرء أن يقرأ في تلك الأوراق نقاشَ هايدغر أنَّ فينومينولوجيا هوسِرل تشير بالدرجة القصوى إلى قاعديِّة الحدَس التصنيفي وتعتبره «منطقة الكينونة المُطلقَة». يقبل هايدغر، بأسلوبٍ يُذكّرنا بموقف دلتاي النقدي من المدرسة الوضعية (positivism)، بأنَّ هكذا ادعاء يمثّل نقطة قوة الفينومينولوجيا ونقطة ضعفها في نفس الوقت. فبوضعِها للكينونة ضمن حدود الحدس الحواسي، برأي هايدغر، تتجاهل الفينومينولوجيا السؤال النقدي عن «ما معنى أن يكون الشيء ذاته هنا والآن؟»، أي حالة الكينونة التي يسميها هايدغر اصطلاحاً «الدازاين» (Dasein)[7]. في سعيه لمعالجة الضعف المذكور، يعود هايدغر إلى التقليد الفلسفي الإغريقي ويبحث فيه عن مفهوم كينونة مُناسب. ومن هذا التقليد، يحضر معه فهماً محدّداً لفكرة «الكائن» بعدَ أن نجحَ في اكتشافها هناك، ومن ثم يقوم باستخدامها في إعادة فحص وتقييم الفهم الفينومينولوجي للحدس التصنيفي. بكلامٍ آخر، ينقِّح هايدغر الميتافيزيقيا ويعيد توظيفها في محاولةٍ لتقديم منهجيةِ فهمٍ جديدة.

النقطة المثيرة للاهتمام في محاولة هايدغر السابقة الذكر هي إيمانه بقيمة الأنطولوجية فيما يتعلق بعملية تحليل طبيعة الأبستمولوجية. يبين له هذا التحليل، كما يلاحظ كيزل مصيباً، بأنَّه «يتم استيعاب البنى التصنيفيّة بدايةً على أنها مكوِّنات لكائنات، قبل أن تتم إعادة فهمها لاحقاً على أنها تصنيفات وفئات ومن ثم يتم كونَنَتها (universalized) على مستوى أعلى من مستوى الإدراك كيما تشمل كافة الخبرات دون استثناء»[8]. بكلماتٍ أخرى، يساعد انتباه هايدغر للكينونة في محاولة تطويره أبستمولوجية مشابهة لتلك التي طوّرها فيلهلم دلتاي، فهو يسير من الجزئي باتجاه الكلي. يكشف مسارُ «من-الجزئي-إلى-الكلي» المذكور شكلاً من أشكالِ التلاقي الأبستمولوجي (أو «العلاقاتي» بمفردات دلتاي) والتي لا تستنفذ ما يتم التواصل معه عبر الخبرة ولا تحبسهُ في موضوعيةٍ محدودةٍ جامدة. يشير كيزل إلى مكانٍ يقول فيه هايدغر في أوراق مادته التدريسية لعام 1925 ما مفاده «لا وجودَ لأيِّ إدراكٍ للهوية، وإنما فقط إدراكٌ للمتماثل»، وكذلك قوله «نحن لا نقول ما نراه، وإنما العكس، نحن نرى ما نقوله عن شيءٍ ما»[9]. تلك المقولات ما هي سوى خلاصات أبستمولوجية تمنح توصيفاً واقعياً لأي منظومةِ إدراكٍ تصنيفيَّة. إلا أنَّ علينا أن نلاحظ هنا بأنَّ تلك المقولات لا تفيد بأنَّ المادة بحد ذاتها هي ما نقوله بكلماتنا عنها، وإنما إدراكنا نحن لتلك المادة يتشكَّلُ في ضوء تفسيرنا لظَهورةٍ معيّنة. كي نفسِّر هذا بمساعدة العلاقة بين اللغة والواقع، يمكننا أن نقول إنَّ اللغة تُشكِّل الهرمينوطيقا الخاصة بواقعٍ معيّن. إلا أنَّ اللغة لا تُشكــِّل بالضرورة كينونة أو يكونيَّة هذا الواقع الذي تتحدث عنه. اللغة تجعل فقط من هذا الواقع متاحاً للتواصل والوصول إليه تصنيفيّاً. لن يجعل الانتباه لهذا التفريق المهم هايدغر يتجاوز هوسرل ويناقض ديكارت فقط، بل ولسوف يكشف لنا بأنَّه، حتى في اعتماده على الفهم الأرسطي للكينونة وللتصنيفات، فإنَّ هايدغر يقارب هذا الفهم من ضفة أبستمولوجيا دلتاي العلاقاتيّة.

إنَّ التبنّي المذكور لتشديد أرسطو على «الكائن» من زاوية المعرفة العلاقاتيّة الشكل يمثّل البنية التحتيّة لاعتماد هايدغر على مَقولة «الجوهر هو الأرضية القَبليّة في عِلمْ الكينونة» واعتبارها نقداً موجَّهاً ضد الاختزال الديكارتي الوجودي (ontic) لمعرفة «الكائن» إلى مجرد كوجيتو فقط[10]. يمكننا أيضاً أن نعتبره تصحيحاً لفرض إمانويل كانط لتصنيفات قَبليّة على مسألة الإحساس؛ وذلك بانطلاقه من المستوى الوجودي باتجاه المستوى القَبْلي، مدَّعياً أنَّ وجودَ أو حضورَ الكينونة هو الخطوة الأولى نحو بناءِ حُكمٍ موضوعيٍ عن الكائنِ- في- ذاته. خِلافاً لكانط، الذي آمن بأنَّ المعنى يتمُّ فرضه من الأعلى (من العقل المُفكِّر) وأنَّ مَوضِع (locus) الفكر القَبلي (apriori) يقتصر كلياً على العقل الصرف، فإنَّ هايدغر يعتقد بوجود علاقة أخذٍ وردٍّ تبرهن على حضور المعنى في قلب الخبرة؛ أي إنه يعتقد أنَّ علاقة «الما-بينيَّة» (between-ness) ترجعُ إلى ما وراء الإنسان وتقف كذلك أمام الأشياء الأخرى[11].

إن كان كل النقاش المعروض في الأعلى صحيحاً، وإذا كان ما عرَضتُهُ عن ميتافيزيقيا أرسطو المتعلّقة بالكينونة أيضاً صحيحاً، فإنَّ محاولة هايدغر لتخليص الميتافيزيقيا بواسطة التشديد على مفهوم «الكائن» وفكرة الأنطولوجية عند أرسطو لهو أمرٌ مُثبَتٌ بقوةٍ وإيجابيٌ بوضوح. يناقش بعض الباحثين أنَّ هناكَ تناقضاً جلياً بين أنطولوجية هايدغر وأنطولوجية أرسطو، الأمر الذي يجعل من المشترك في فهمهما لقيمة الميتافيزيقيا أمراً صعب الإثبات. تعتقد دوروثيا فريدي، مثلاً، أنَّ تناقض هايدغر مع العقيدة الأرسطية يتجلّى في نقد الأول لتاريخ عقيدة التصنيفات الأرسطية، والتي تمثّل تاريخ الميتافيزيقيا الغربية بحد ذاته[12]. من جهته، يحاول غادامر أن يكون أكثر اشتماليّة ووضوحاً من فريدي في تقييمه لاهتمام هايدغر بميتافيزيقيا أرسطو. فهو يلاحظ بدايةً في طرح هايدغر تقديراً لأرسطو يتمثّل في أنَّ هايدغر يُنتجُ تفسيراً إيجابياً ومتحمساً لنصوص أرسطو في سنواته البحثية المبكرة، أثناء وجوده في جامعة ماربورغ في ألمانيا. مع ذلك، ينضمُّ غادامر في رأيه اللاحق إلى ما ساقت إليه فريدي، مناقشاً بأنَّ إيجابية هايدغر خبأت وراءَها افتراضاتٍ انتقاديّة وتفكيكيّة. يشرح غادامر هذا بالقول إنَّ تفكير هايدغر الحَدَسي تأثّرَ بشكلٍ مُهيمنٍ ومَليءٍ بالمخاطرة بفكر أرسطو خلال سنوات وجوده في جامعة ماربورغ. وغادامر يرى أن هذا أمر مألوف في الفلسفة، «ما عمليَّة التفسير في الفلسفة سوى حالة وصولٍ إلى تفاهمٍ معيّنٍ مع حقيقة النص المدروس والمقامرة بالنفس من خلال تعريضها لهذا النص»[13].

خلافاً للرأي المذكور في الأعلى، أعتقد أننا لم نجد إجابة واضحة بعد حول ما إذا كانت المُمَاهاة الكليّة بين «الكينونة» و«الحدوث» (occurrence)، والذي يتصف به فهمُ وتفسيرُ الفكر الأرسطي في المرحلة السكولاستية (scholasticism)، هي في الواقع تعبيرٌ موثوقٌ عن الفكر الأرسطي الأصيل أم لا. كما أنَّ الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها بعد هي: 1) هل يمثِّل انتقاد هايدغر لمفهوم «الذات» الحداثوي، والذي يتمثَّل بفكرة الذاتويّة الما-ورائية في فينومينولوجيا هوسِرل، نسخة مُعاصِرة لمفهومي «الكائن» و«الجوهر» عند أرسطو، أم إنه مجرد تفسيرٍ لهما في ذاتهما؟ 2) هل اعتقد هايدغر بأنَّ مثل هذه الهرمينوطيقا الذاتويّة لعقيدة أرسطو عن التصنيفات (categories) تنجحُ في توصيفِ وجهة نظر أرسطو الشخصية، أم إنه اعتبرها مجرد نمطِ تفسيرٍ بين أنماط تفسيريّة عديدة أخرى تحاول تفسير تلك العقيدة؟ يعتقد الباحث الأمريكي جون كابوتو (John Caputo)، على سبيل المثال، أنَّ دعم هايدغر الإيجابي لفكر أرسطو أمر مُثبَت بشكلٍ حاسم، بالرغم من تقييم هايدغر النقدي للأرسطية السكولاستيكية في العصور الوسطى. هناك مرحلة في مسار تطوُّر فكر هايدغر، يقول كابوتو، يكشف فيها أنَّ انتقاده الأساس مُوجَّهٌ نحو أتباع وخلفاء أرسطو في العصر الوسيط. يبدو هايدغر مقتنعاً بأنَّ الميتافيزيقيا السكولاستية فشلت في فهم أرسطو بشكلٍ مناسب وصحيح، ومن ثم يدعو، بالنتيجة، إلى استعادة أرسطو شخصياً وتحرير فكره من التشويه التفسيري السكولاستي له[14]. في ضوء هذا، يمكن فهم تعبير «تقويض» (destruction)، والذي يستخدمه غادامر ليصنِّف مقاربة هايدغر، بطريقة تــُظهِر تقييماً إيجابياً وليس عدائياً من قبل هايدغر تجاه ميتافيزيقية أرسطو. يبدو أن الباحثة دوروثيا فريدي تتفق مع هذه المقاربة لدرجة معينة، فهي تقبل أنَّ علينا ألا نفهم تقويض هايدغر لتاريخ الميتافيزيقيا على أنه «تفكيك-بنيان» (de-construction). تجادل فريدي بعد ذلك أنَّ مشروع هايدغر لا يمثل محاولة فك ارتباط (detachment attempt) مع التقليد الفلسفي، وإنما محاولة «تفكيك» (unravelling) تاريخ الأنطولوجية بهدف تبيانِ مصداقيتها المُمكنة[15]. يكشف كابوتو بدوره قبولهُ لمثل هكذا فهمٍ لموقف هايدغر ويُقِرُّ بأنَّ عملية تفكيك بنيان (de(con)struction) الميتافيزيقيا، أو «تاريخ الأنطولوجيا»، الذائعة الصيت في كتابه، الكينونة والزمان، يجب أن تُفهَمَ دوماً كمحاولة «إيجابية» وليست سلبية أو عدائية أبداً[16]. ما يمهِّد لقناعَتَي كل من فريدي وكابوتو، في الواقع، هو اعتقاد هايدغر الشخصي بأنّ النبش عن الإشكاليات المنطقية في تاريخ الفلسفة كفيلٌ، في الحقيقة، بتوفير منفذٍ مباشرٍ لنا إلى عمق طبيعة الفلسفة في ذاتها. بكلماتٍ أخرى، تقويضُ تاريخ الفلسفة ليس تدميراً لِبُنيانِ الفلسفة العتيقة، وإنما هو عملية كشفٍ لكينونة هذه الفلسفة في عمق ذاتها.

لا يوجد في كتابات هايدغر تعبير أفضل عن هذه القناعة من أوراقه البحثية المتعلقة بالعلاقة بين الفلسفة والمنطق. في تلك الدراسات، يعلن هايدغر أنَّ الطريقة الأمثل للدفاع عن ماهية المنطق تتمثل في رسم خطوطٍ دقيقةٍ لمفهوم الفلسفة. وبما أنَّ الفلسفة ليست شيئاً ماثلاً موضوعياً في متناول اليد، يخبرنا هايدغر، فإننا بحاجةٍ لتوضيح الإشكاليات المنطقية الكامنة في تاريخ الفلسفة كيما نستحصل على معرفةٍ عن طبيعة الفلسفة من خلال تلك الإشكاليات (وليس بالرغم من وجودها)، أو من خلال إعادة تقييم علاقة تلك الإشكاليات بالفلسفة بحد ذاتها[17]. لا يعتبر هايدغر أنَّ هدف عملية التقويض الإيجابية تلك التقصي والبحث حول كيفية تفكيرنا بالفلسفة في الماضي، كما أنه ليس مجرد تبيان أفضلية استغنائِنا عن هذا الفكر الماضوي اليوم. خلافاً لهذا، يعتبر هايدغر أنَّ الهدف المنشود هو التوصُّل إلى تفهُّمٍ للفلسفة بحد ذاتها بطريقةٍ تقارب مشكلاتها التاريخية بصفتها مكوِّناتٍ تأسيسيَّة للفلسفة بشكلٍ عام، والابتعاد عن عملية اختزالهم بمقاربة نسبويّة[18]. في ضوء هذا، في الوقت الذي يدعو فيه جاك دريدا والتفكيكية مابعد-الحداثوية لتحقيق قطيعة كلية مع، واستغناء تام عن، الفكر الماضوي، ويعملان على تقديم موقفٍ إنكاري حاسم لفكرة «أصول» (origin) بحد ذاتها، فإنَّ مشروع هايدغر ينطلق، خلافاً لذلك، من الاعتقاد بأنَّ تعريف الفلسفة يجب أن يُستقى من «التاريخانيّة» (historicity) قبل سواها. ويبرّر هايدغر هذا الخيار المنهجي بالقول: «إنَّ الاستذكار المُشتَق من التاريخانيّة أمر ضروري، لا لمجرد أننا نملك أصلاً تاريخَ فلسفةٍ طويلٍ يمتد وراءنا، وليس لمجرد أنَّ التقوى والورع الفكريين يتطلبان منا أن نعترف أننا نحتاج للأقدمين. حتى ولو لم يكن هناك تاريخ فلسفةٍ صريح ومُعلَن، فإنه سيظل ضرورةً لتحقيق غاية الرجوع للماضي والتقاط التقليد الذي تلبث فيه كينونة كل إنسان في حضورها هنا والآن (Dasein)، وسواء طوَّر هذا الدازاين وعياً تاريخياً أم لم يفعل ذلك، وسواء أكان ما يستذكره هذا الدازاين يُعبِّر عن فلسفة أم لا»[19]. يقول هايدغر، بأسلوبٍ يردد صدى التقدير الإيجابي لتاريخانيّة المعرفة عند دلتاي، بأنَّ تقويض المحتوى التقليدي للأنطولوجيا التقليدية «لهو بعيد عن حالة الخلخلة السلبية للتقليد الأنطولوجي. علينا، بالعكس، أن نُبرزَ الممكنات الإيجابية في هذا التقليد، الأمر الذي يعني دوماً إبقاءه ضمن حدوده»[20]. من هنا، يصيب روبرت بيرناسكوني (Robert Bernasconi) في نقده غير المتحفِّظ لقراءة جاك دريدا لتقويضيّة هايدغر وفي تأكيده على التالي:

طالما أنَّ العلاقة المعقّدة بين عمل هايدغر التقويضي ومنهجية دريدا التفكيكيّة تبقى علاقة مُلتبَسَة وغير واضحة، فإنَّ منهجية التفكيك تميل لمقاربة الكينونة والزمان بأسلوبٍ يعكس ما يريده هايدغر المتأخِّر من هذا الكتاب ومن كيفية قراءته، ولكنها منهجية بعيدة عما يدعونا محتوى نص الكينونة والزمان في حد ذاته لفهمه ولاتباعه كمنهجيّة لقراءة أطروحته ذاتها[21].

هذا يعني أنَّ دريدا والتفكيكيّين، برأي بيرناسكوني، لا يقرؤون أطروحة هايدغر بحد ذاتها في كتابه المذكور، بل يقرؤون أنفسهم في كلماته. مفهوم التفكيك الهايدغري لا يَدلُّ على قَطيعة كليّة مع التقليد والتاريخ، كما يريد دريدا والتفكيكيّون له أن يعني. كما أن فهم هايدغر لا يُعلن نهاية أو موت الماضي والأفكار التي تم التفكير بها مسبقاً. ما يهدف له طرح هايدغر، خلافاً لذلك، هو التفكير بغير المُفكَّر به، وذلك من خلال، أو بواسطة، إعادة فهم المُفكَّر فيه والمُعتَقــَد به تقليدياً. لا يعني تقويض تاريخ الميتافيزيقيا الماضوي، إذاً، أخذ الميتافيزيقيا نفسها إلى نهايتها. ما تعنيه، على العكس، هو التفكير بما لم يتم التفكير فيه عبر السيرِ بعمليةِ إعادة تفكيرٍ وإعادة بناءِ ادعاءاتِ الخطاب الميتافيزيقي. التقليد الفكري إرثٌ ثمينٌ ويمكن الركون إليه، برأي هايدغر، فالتقليد، كما يلاحظ بيرناسكوني مصيباً في قراءته لهايدغر، «موجودٌ كي يمنحنا منفذاً لما يبدو للوهلة الأولى مجرّداً ومُتطيِّراً». إلا أنَّ المُجرَّدَ والغامض فيه ما هو إلا ذاك الذي لم يتم التفكير به بعد ومن ثم اعتبار هذا الغامض الفضاء الذي قام الفلاسفة السابقون بممارسة التفكير فيه، وليس الفضاء الذي يقف في مواجهةٍ ضِديّةٍ مع ما تم التفكير فيه ولا ذاك الذي حظي بالهيمنة على هذا الفكر القديم وأعلن إنهاءه من الوجود[22].

إنَّ تجنُّب هايدغر لكلٍّ من التفكيكانيّة (deconstructionism) والنسبويّة (relativism) في عملية تقييمه لمفهوم «الكائن» الأرسطي يعكس بدوره تبنّيه لانتباه دلتاي لفكرة كونيّة حقيقة كينونَة «الكائن». فهايدغر يقول، على سبيل المثال، «إنَّ كونية مفهوم» الكائن «لا تُنتقَضُ بسبب الصفات الخاصة نسبياً لماهيةٍ قمنا بالتَحرّي عنها. بل إنَّ الكائن الحاضر الآن وهنا في حد ذاته ما هو سوى حقيقة تاريخية، ولهذا فإنَّ الإيضاح الأكثر أنطولوجية لهذا الدازاين يصبح بالضرورة تفسيراً تاريخانيّاً»[23].تلعب مسألة الانتباه لتأثير دلتاي على تقدير هايدغر لمفهوم «الكائن» الأرسطي دوراً حاسماً في تطوير تقييمٍ مناسبٍ للموقف الإشكالي الذي يميل لتحويل فكر هايدغر إلى منبعٍ للعديد من أشكال التفكيكانيّة المُعاصِرة. وحده الانتباه إلى تأثير دلتاي على هايدغر يُمكّننا من التأكُّد من صحّة ما تسوق إليه دوروثيا فريدي في ادعائها بأنَّ مقاربة هايدغر لتاريخ الميتافيزيقيا هي «نقاشٌ قويٌ ضد محاولات [ما بعد-حداثوية] حالية لتفسير هايدغر وكأنه سَلَــفُ (predecessor) البراغماتية المُحدَثَة والتي تُحوِّل الكينونة إلى مجرد مُركَّبٍ مجتمعي»[24]. توظيف هايدغر لانتباه دلتاي للكينونة التاريخانية للمعرفة في عملية فهمه (هايدغر) لفكرة «الكائن» تدعم الاستنتاج بأنَّ هايدغر ليس مُعادياً لأرسطو كما يعتقد البعض. تفكير هايدغر حول طبيعة الفلسفة أو الميتافيزيقيا، ومقاربته لفكرة الكائن الحاضر هنا والآن (Dasein)، يدلان سوياً برأيي، على مديونيّة هايدغر الواضحة لأنطولوجية أرسطو.

ب- هايدغر والفهم الأرسطي لمفهوم «ميتافيزيقيا»:

حتى في انتقاده لعقيدة التصنيفات (categories) في ميتافيزيقيا أرسطو، فإنَّ هايدغر يبقي ناظريه مبدئياً على التوجهات الفلسفية المعاصرة التي تأثرّت بالتفسيرات الحالية للأفكار الأرسطية. في الكينونة والزمان، يكشف هايدغر بأنَّ تقويضه لتاريخ الأنطولوجية لا يربط نفسه بالماضي، في الواقع، وإنما يوجِّه نقده، بدلاً عن ذلك، باتجاه «اليوم» و«الطريقة المهيمنة في معاملة تاريخ الأنطولوجية»[25]. يتكاتف قوله هذا مع تشديده على مفهوم «التورية/الإخفاء» (concealment) والذي يُؤرِّضه هايدغر في أرضية نقدية يلجأ إليها ليناهضَ بها التقليد الفلسفي الذي يفهم «الكشف/الانكشاف» (disclosure) على أنه تعبيرٌ عن فهم الكائن الحاضر هنا والآن لذاته، أو تعبيرٌ عن ذاتويانيّة مُمَوضَعَة (objectified subjectivity)[26]. وبشكلٍ أكثر تحديداً، فإنَّ هدف هايدغر الرئيس هو انتقاد الحل الحداثوي الماورائي لمشكلة الزمانيّة في نسختيه الكانطيّة والديكارتيّة. فبالنسبة لهايدغر، يمثل هكذا حَل نموذجاً لتجاهلِ الفلسفة الحديثة لسؤالٍ عن المدى الفعلي الذي تم به، إن حدث هذا حقاً، إدخال تفسير الكينونة وظَهورَة الزمان بشكلٍ مواضيعي (thematically) في سياق تاريخ دراسة الأنطولوجية[27]. وبطريقة مماثِلة لأسلوب دلتاي، يكشف هايدغر أنَّ مشكلته مع مقاربة كانط للأنطولوجية هو أنها تعمل في إطارِ سياقٍ يتم ضمنه تفسير الكينونة دون أيِّ لحظٍ لإمكانية عمل هذه الكينونة في قلب الزمان، وبدون الانتباه لأهمية هذا النشاط الأنطولوجي المذكور للزمان في عملية شرحِ السبب الذي يجعل من عمل الكينونة ممكناً في الدرجة الأولى[28].

ما يشغل هايدغر بالدرجة الأولى، في معرض انتباهه للتوظيف الحديث لسكولاستيكية أرسطو، هو إيجاد فهمٍ جديدٍ للميتافيزيقيا يتجاوز حدود الفينومينولوجيا ويقدّم نظاماً متوازناً لفكرة «الكائن» يمكن أن يتم تركيبه على قاعدة الانتباه للتاريخانيّة ولفكرة كشف-الذات. يبيّن هايدغر، أولاً، بأنَّ اختزال أيَّ ظَهورَة إلى مجرد تعبيرٍ عن حالة «ظُهور» ما هو سوى انعكاس لتبدُّلٍ في الفكر الغربي ولانتقاله من تبني الفهم الإغريقي لمفهوم «كائن» إلى الفهم اللاتيني لهذا المفهوم. في الفكر الإغريقي الأصلي، تعني «ظَهورَة» (phenomenon) إما «ذاك الذي يعرض ذاته في ذاته» أو «ذاك الذي يبدو وكأنه شيء ما، إلا أنه يختلف عما يقدم نفسه بأنه ما هو عليه». كلا المعنيَيْنِ، يلاحظ هايدغر، يختلفان عن كيف فهم الباحثون القروسطيون فكرة «الكائن»، ففهمُ الإغريقِ السابق لها لا علاقة له أبداً بمعنى «الظُهور» أو بما يقال عنه «مجرَّدُ مَظهَر»، والذي نجده في الفكر اللاتيني القروسطي[29]. يعتبر هايدغر الفهم الإغريقي لمصطلح «ظَهورَة» مُعبِّراً عن حالة كشف، وأنه لا يدلُّ بأيِّ شكلٍ من الأشكال على الفهم اللاتيني لمصطلح «ظُهور»، والذي يعني «عدم إظهار الذات بالمَرّة»، يقول هايدغر[30]. وكما فعل أرسطو قبله، يفصل هايدغر بين «الظَهورَة» و«الظُهورْ»، مُستوعِباً الأولى في مصطلح «المظهر الخارجي» (semblance)، فهذا المصطلح الأخير يدلُّ على شيءٍ يتبدَّى كشيءٍ ليس هو، في حين أنَّ مفهوم «الظهور» اللاتيني يعني أنَّ الشيء لا يتبدى بالمرة. يترتب على هذا أنَّ الفينومينولوجيا تعني «أن تدع ذاك الشيء الذي يعرض ذاته يجعل نفسه مرئياً من قلب ذاته وفي عمق الطريقة التي يَعرضُ فيها ذاتَه في ذاتِه»[31]. ليست الفينومينولوجيا مجرد علم «كَيفَويَّة» (how) الشيء الخاصة بكيف يجب عرض هذا الشيء وكيف يجب ملاقاته (أي ملاقاته في ذاته)، بل يجب أن تكون أيضاً علم «الما-هيويَّة» (what) الخاصة بهذا الشيء أيضاً[32].

تكمن المشكلة المركزية في الميتافيزيقيا الغربية، بالنسبة لهايدغر، في عملية اختزال الفلسفة إلى مجرد خطاب فينومينولوجي عن فكرة «الظهور»، أو إلى علمٍ مَحصورٍ بالسؤال عن «الكيف» (how)، وذلك على النقيض من التعريف الأصيل لها في الفكر الإغريقي. بدلاً عن ذلك، يرى هايدغر الفينومينولوجيا على أنها ليست مجرد خطابٍ (أو لوغوس) عن كيف ينتقل شيءٌ ما إلى حالة الظهور في ذاته ومن ذاته. ستكون الفينومينولوجيا خطابَ أنطولوجية مُبتَسَر إذا ما أصرّت على التغطية الحصريّة الكلّية لسؤال الكَيفَويَّة المتعلق بالكائن الذي يظهر للعيان، وإذا ما أصرّت على هذا لدرجةِ «أنَّ هذا السؤال يَنمَحي كلّياً ويتم نسيانه ونسيان معناه»[33]. كي تصبح الفينومينولوجيا عِلماً مكتملاً غير ناقص، يجب عليها أن تتحول إلى نافذة عبورنا نحو موضوع الأنطولوجية، ففقط بصفتها فينومينولوجيا تصبح الأنطولوجية فكراً ممكناً[34]. «ممكناً» هنا لا تعني أنَّ ظهور شيءٍ ما وتجلّيهِ مظهرياً هو من يخلق كينونة هذا الشيء أو يَكونيَّته. لا يمكن لباحثٍ متأثرٍ بدلتاي مثل هايدغر أن يختزل «الكائن» إلى مجرد «كينونة-في-عَرضٍ-واقعي»، بل إنه سيحذِّر، عوضاً عن ذلك، بأنَّ الأنطولوجية ستصير مُستحيلة كعلمٍ مَعرفي بمَعزلٍ عن انكشافٍ حقيقي. ينكشف الكائن فعلياً، ويمكن وصفهُ حقاً، فقط في عرضهِ لذاته بصفتها ذاته. ولهذا، لا ينبغي على الفينومينولوجيا أن تتناسى السؤال المتعلق بمعنى «الكائن» والكينونة.

إنَّ قناعة هايدغر بأنَّ «الكيف» و«الما-هو» مُتّحدان بشكلٍ لا رجعة عنه تُمرئي تعريفه للهرمينوطيقا بأنها علم فينومينولوجيا الكائن الحاضر هنا والآن (Dasein). لا يريد هايدغر بهذا التعريف أن يحوِّل الكينونة إلى مُنتَجٍ أو نشاطٍ في عملية الفَهم الهرمينوطيقية، فهو مثل دلتاي يعتبر الهرمينوطيقا علمَ الفَهم الذي يمكّننا من استنباط «الظروف التي تتكل عليها إمكانية أيِّ تحقيقٍ أنطولوجي»[35]؛ أي إنها تمثِّل المعيار (criterion) الذي يمكننا على قاعدته أن نقوم بدراسة السؤال المتعلق بمعنى الكينونة. هذا يعني أنه حتى الأسبقيّة الأنطولوجية للكائن الحاضر هنا والآن (Dasein) على باقي الكينونات هي أسبقيّة معرفيّة أو أبستمولوجية لا غير في غايتها. ولهذا، برأي هايدغر، فإنَّ «الكائن» هو ما يجعل الميتافيزيقيا الموضوع-الجوهري في الفلسفة من جديد. يمنع مفهوم الكائن أية محاولة لاحقة لاختزال الفلسفة إلى مجرد فينومينولوجيا أو حتى لمجرد أنطولوجيا فقط، إذ يتم وصف الفلسفة عندها بدلالة كلٍّ من موضوعها في ذاته (سؤال الكينونة - الأنطولوجية) وكذلك بدلالة علاقتها بذاك الموضع ومقاربتها له (الفينومينولوجيا)[36]. هكذا تتكامل الفينومينولوجيا، بصفتها ممثلة لمنهجية المعرفة، وتندمج مع الأنطولوجية بصفة تلك الأخيرة ممثّلة للمضمون الذي تتم معرفته. يتحقق هذا من خلال دمج الفهم الأرسطي لفكرة «الكائن الماورائي» مع الفهم الدلتاوي للطبيعة التاريخانيّة والهرمينوطيقيّة للمعرفة.

فإذن، ليست الميتافيزيقيا سوى ما يقوله أرسطو عنها: العِلمُ الذي يتحرَّى كينونة المبدأ الأول والمسبِّبات العليا[37]. يُعير أرسطو بهذا التعريف انتباهاً لكلٍّ من الكوني والموَحِّد بصورةٍ أكثر جدية من الجزئي والفردي. وبرأي هايدغر، يدل هذا على أنَّ أرسطو لا يبحث عن المحصلة الكلية الشمولية لكافة الأشياء، بل إنه يتحرَّى الكائنات بدلالة الكينونة حصراً، أي «فيما يتعلق بما يجعل كائناً ما الكائن الذي هو عليه: الكينونة»[38]. لا ينكر هايدغر أنَّ «كائن» في نهاية المطاف مفردة غامضة وتجريدية ولا يمكننا بسهولة استيعابها أو الحديث عنها بلغة يقينيّة أو عمومية. لهذا السبب، يؤكد هايدغر، لا يدّعي أرسطو أبداً بأننا نستطيع ملاقاة «الكائن» وكأنه يقف أمامنا بوضوحٍ تام. ولهذا، فحتى أرسطو يعتبر كلَّاً من الميتافيزيقيا والفلسفة «رحلة بحث» (quest) ومغامرة (venture) وعملية سعي خلف «الكائن» بصفته المبدأ الأسمى، والذي يقول عنه هايدغر إنه «يبهرنا ويفاجئنا: إنه العارم»[39].

يعتقد هايدغر أنَّ الفلاسفة المعاصرين أفرطوا في التشديد على مسألة السعي خلف الكينونة وأكدوا على عدم قدرتنا على الإحاطة بها، بدل أنَّ يفهموا تلك الجوانب المتعلقة بالسعي وعدم الإحاطة كتعبيرات عن حضور «الكائن» في ذاته. هذا هو السبب الذي قاد إلى اختزال الفلسفة المؤسف إلى مجرد محاولة للفهم الصحيح لتمظهُرات الأشياء الجوهريّة وليس لها في ذاتها. وقد تم تكثيف هذا الاختزال الخاطئ بتشديدٍ غير مناسبٍ وأحاديٍّ على ادعاء أرسطو بأنَّ «الكائن» لا يُظهر ذاته إلا في متماثلات، وكذلك من خلال تجاهلِ تفريق أرسطو المُعادِل في الأهمية ما بين «الظهور» و«التماثل» (semblance). بالنتيجة، اختزل هذا الخيار الأحادي الجانب الفلسفة في عصر الحداثة، كما يعتقد هايدغر، إلى مجرد عملية التحرّي عن وجود المتشابهات. قاد هذا إلى إفقار الفلسفة بتحويلها «إلى سعيٍ نحو إمكانية تحقيق فهمٍ أصيل»[40]. باتت هذه النتيجة الحتمية لقرار تحويل فهم أرسطو للميتافيزيقيا بشكلٍ خاطئٍ إلى سعيٍ أحاديّ الجانب نحو «الكَيفَويَّة» (what-ness): «كيف نكتسب فهماً صحيحاً للمسبِّبات الجوهرية». لقد حوَّلَ هذا الفلسفة إلى مجرد «معرفة للكيانات».

في سعيه لتصحيح تلك المقاربة الأحاديّة الجانب، يناقش هايدغر أنَّ أرسطو يعتقد أنه حين تسعى الفلسفة لفهمٍ مفاهيمي، فإنها تبغي تحديدَ الماهيّة الكيانية لشيءٍ ما، الأمر الذي يعني أنَّ السعي الفلسفي للفهم هو سعي أنطولوجيٌّ في طبيعته. زِدْ على ذلك، يعتبر أرسطو أن الطبيعة الأنطولوجية للسعي المذكور تجعل منه شكلاً من أشكال «اللاهوت» أو عمليةُ تحقيقٍ حول الإلهي المقدس (بصفته أحد المبادئ الأولى) وحضورُ هذا الإلهي في كيانات دامغة[41]. لا يمكن لهايدغر أن يشدد أكثر مما يفعل هنا على أنَّ تهميش هذين الجانبين في خطاب أرسطو هو السبب الأساس وراء تشويه تاريخ الميتافيزيقيا في الغرب. دفع هذا التهميش الفلاسفة بعد أرسطو للانشغال بمسألة إيجاد المنهجية الفضلى لفهم وجود «الكائن» بشكلٍ أكبر من الانشغال بالتأمل في «الكائن» في حد ذاته، وقادهم للتركيز على كيفية إدراك الإنسان للوجود الكياني. بكلماتٍ أخرى، وكما يعبّر هايدغر عن هذا التحوُّل، «تحوَّل الصراع على الكينونة إلى مسألةٍ مرتبطة حصراً في حقل التفكير وصياغة العبارات داخل النفس والذاتويّة البشرية»، وأصبح «الإنسان» بدلاً عن «الكائن» هو موضوع الفلسفة[42]. يُقرُّ هايدغر من حيث المبدأ بأنَّ التحول نحو الذاتويّة أو نحو ذات الشخص المتسائِل لهو تحولٌ من صُلبِ عملية التساؤل بحد ذاتها. إلا أنَّ هايدغر يؤكد، مع ذلك، بأنَّ المشكلة هنا تكمن في التَّبخيسِ من حقيقةِ أنَّ الإنسان كائنٌ بحد ذاته، ولهذا فإنَّ مسألة وجودها عينَها تنضوي في إطار التساؤل حول «الكائن». من هنا، فإنَّ طرح التساؤل المؤسَّس إنسانياً حول «الكائن» ومحاولة التوصل إلى فهمٍ صحيحٍ لوجود وحضور «الكائن» يتطلّب من الأنطولوجية أن تستعيد دورها المؤسِّس في الأبستمولوجية المعاصرة. لماذا؟ يرد هايدغر بالتأكيد أنَّ «فهم-الكائن ينتمي للتكوين الأنطولوجي للكائن الحاضر هنا والآن (Dasein)»[43]. وبالرغم من أنَّ سؤال «الكائن» هو تساؤلٌ بشري، إلا أنه لا يدلُّ على كيفية فهم الإنسان لفكرة «الكائن» من خلال تمظهُراتها في الكائنات الموجودة. بشرية التساؤل تعني هنا أنَّ أنطولوجية «الكائن» هي بحد ذاتها قاعدة الفهم البشري للكينونة أو لــــ «الوجود-في-العالم»، بتعبير هايدغر. لا نكتسب المعنى المــُعرِّف لــــ «الكائن» من خلال إحصاء وجمع كل أنماطِ الإدراك التي يمتلكها الكائن البشري، بل إننا، وبالعكس، نكتسب الفهم الصحيح للكينونة البشرية بالبحث عن هذا المعنى على قاعدة فهم طبيعة «الكائن». الأنطولوجية، إذاً، تسبق في الترتيب، أو تأتي في المراحل قبل، كافة «الخطابات» أو «اللوجيات» (ologies) الأخرى، مثل السيكو-لوجي، الأنثربولوجي، الكاراكتيرولوجي (علم الخصائص)، السوسيولوجي وسواها[44].

[1] - مقتطف من كتاب موت الميتافيزيقا، الصادر عن دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع-2022

[2] - Gadamar, Truth and Method, p. 227 (pp. 225-234). بالرغم من ذلك، لا أعتقد أنَّ غادامر مصيب تماماً في قوله بأنَّ هايدغر يعتبر أنَّ «الكائن ذاته ما هو سوى الزمان»، إذ إنَّ «الكائن» بالنسبة لهايدغر ليس مجرد حالة تواجد في الزمان أو حالة «وجود-هنا-في-الحاضر»، حتى وإن كان مثل هكذا وجود هو السبيل الوحيد لمعرفة الكينونة. العلاقة بين الكينونة والزمان عند هايدغر هي علاقة إبستمولوجية،

[3] - M. Heidegger, Being and Time, p. 187 (Gr. I.5.31, p. 147).

[4] - Heidegger, Introduction to Metaphysics, George Fried; Richard Polt (trans.), (New Haven & London: Yale University Press, 2000), p. 90 (Gr. P. 65).

[5] - Kisiel, Heidegger's Way of Thought, p. 44.

[6] - نفسه، ص. 46. «القول إنَّ التصنيفي يتمتع بأساسٍ حواسي هو طرحٌ تقليدي ينبثق من فكر أرسطو. ولكن، رأينا أنَّ الفعل التصنيفي هو حراكٌ يمضي أبعدَ من المعطى حواسياً... والذي هو موجَّهٌ نحو موضوعية جديدة بدونها لا يمكن للمادة المعطاة، بكلِّ بساطة، أن تتبدى في ذاتها».

[7] - نفسه، ص. 41.

[8] - نفسه، ص. 42.

[9] - نفسه، ص ص. 43-44.

[10] - خلافاً لهذه المقاربة، يعتقد فولفهارت باننبرغ أنَّ رؤية ديكارت للكوجيتو تأسست في الحقيقة على اعتقادٍ مسبقٍ بأولوية فكرة «اللامحدود»، والتي تتبدى، برأي باننبرغ، في كتاب ديكارت، التأملات (Meditations). باننبرغ يقول في المحصلة إنَّ «ديكارت، لذلك، ينتج فكره بأسلوبٍ أقل ذاتوية بكثير مِمَّا يريدنا أو يجعلنا التقييم الشائع لتاريخ الفلسفة أن نعتقد»: Pannenberg, Metaphysics and the Idea of God, p.26.. بما أنَّه ليس هدفي هنا أن أفحص صحة تفسير هايدغر لفكر الفلاسفة الآخرين عموماً وديكارت خصوصاً، سأكتفي بما قلته هنا عن هذه المسألة.

[11] - Kisiel, Heidegger's Way of Thought, p. 192 (pp. 187ff).

[12] - D. Frede, ``The Question of Being: Heidegger's Project,'' in The Cambridge Companion to Heidegger, Charles E. Guignon (ed.), (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), pp. 42-69, pp. 43-44.

[13] - Hans-Georg Gadamer, ``Martin Heidegger and Marburg Theology,'' in Philosophical Hermeneutics, H-G. Gadamer, David E. Lang (trans. & ed.), (Berkeley: Los Angeles & London: University of California Press, 1976), p. 201.

[14] - John Caputo, Heidegger and Aquinas: An Essay on Overcoming Metaphysics, (New York: Fordham University Press, 1982), p. 22. يعتقد كابوتو أنَّ حكم هايدغر ضد الفكر السكولاستيكي، وخاصة فكر توما الأكويني، لهو حكمٌ غير منصِف. إلا أنَّ هذا الرأي لا علاقة له بالنقطة التي أقدمها هنا.

[15] - Frede, ``The Question of Being: Heidegger's Project,'' p. 60.

[16] - John Caputo, ``Heidegger and Theology,'' in The Cambridge Companion to Heidegger, pp. 270-288, p. 272.

[17] - Martin Heidegger, The Metaphysical Foundations of Logic, Michael Heim (trans.), (Bloomington: Indiana University Press, 1984), p. 6.

[18] - نفسه، ص. 7.

[19] - نفسه، ص. 9.

[20] - Heidegger, Being and Time, Int. II, p. 44.

[21] - Robert Bernasconi, ``Repetition and Tradition: Heidegger's Destructuring of the Distinction between Essence and Existence in Basic Problems of Phenomenology,'' in Reading Heidegger from the Start, pp. 123-136, p. 123.

[22] - نفسه، ص. 136.

[23] - نفسه، مقد. II، ص. 63.

[24] - Frede, The Question of Being: Heidegger's Project,'' p. 66.

[25] - Heidegger, Being and Time, Int. II, p. 44.

[26] - Gadamer, ``Martin Heidegger and Marburg Theology,'' p. 205.

[27] - Heidegger, Being and Time, Int. II, p. 45.

[28] - نفسه، مقد. II، ص. 48-49.

[29] - نفسه، مقد. II، ص. 51.

[30] - نفسه، مقد. II، ص. 52. التبدّي، يقول هايدغر، لا يكشف ذاته أنه يعني «إعلان الشيء عن ذاته بواسطة شيءٍ لا يكشف ذاته، بل شيءٍ يعلن ذاته من خلال شيءٍ آخر لا يُظهر ذاته».

[31] - نفسه، مقد. II، ص. 58

[32] - نفسه، مقد. II، ص. 59

[33] - نفسه، مقد. II، ص. 59

[34] - نفسه، مقد. II، ص. 60

[35] - نفسه، مقد. II، ص. 62

[36] - نفسه، مقد. II، ص. 62

[37] - Heidegger, The Metaphysical Foundation of Logic, p. 10, and Aristotle, Metaphysics, W.D. Ross (trans.) in The Works of Aristotle, J.A. Smith and W.D. Ross (eds.), (Oxford: Clarendon Press, 1908), Vol. III, Bk. 4, Ch. 1. 1003a, 25-30.

[38] - Heidegger, The Metaphysical Foundations of Logic, p. 10.

[39] - نفسه، ص. 11.

[40] - نفسه، ص. 13.

[41] - نفسه، ص. 13 وما بعدها.

[42] - نفسه، ص. 15.

[43] - نفسه، ص. 16.

[44] - نفسه، ص. 17.