هل خان أرسطو أفلاطونَ؟

فئة :  ترجمات

هل خان أرسطو أفلاطونَ؟

هل خان أرسطو أفلاطونَ؟[1]

بريجيت بودون[2]

ترجمة: الحسن علاج

ابتعد أرسطو تدريجيًّا عن تعليم معلمه؛ لقد تميزت التقاليد الفلسفية لأفلاطون وتلميذه باختلافات عميقة، مركزة على ثنائية الروح والجسد، وعلى وضعية العدالة أو دور المدينة.

حلّ أرسطو بأثينا، وهو يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، قادما من مقدونيا، والتحق بالأكاديمية التي أسسها أفلاطون سنة 387 قبل الميلاد، ثلاث سنوات قبل ولادة أرسطو. تفاعل هذا الأخير مع التدريس داخل الأكاديمية، وعمل على نشر أولى حواراته، حوالي عشرين حوارًا بحسب كُتّاب السير الأقدمين، جلها ضاع في الوقت الراهن. سوف يسند إليه أفلاطون مهمة دروس البلاغة، فأصبح أرسطو، خلال عشرين عاما واحدًا من ألمع تلاميذ أفلاطون، الذي كان يكبره بما يزيد عن أربعين عاما. لكن في عام 347، فارق أفلاطون الحياة، فنقل إدارة الأكاديمية إلى ابن أخته إسبوزيبوس Speusippe) (. في السنة نفسها بُعث أرسطو إلى طروادة، حيث أصبح مستشارًا سياسيًّا وصديقًا للطاغية هرمياس من أثرونوس Hermias d’Atarnée) (. وبها فتح مدرسة ونهج أبحاثا في البيولوجيا. ما يزيد عن عشر سنوات فيما بعد، وعندما خلف تلميذه الإسكندر والده فيليب المقدوني، عاد أرسطو إلى أثينا، وقام بتأسيس المدرسة المشائية أو المدرسة الفلسفية، وهي نوع من الرواق وفيه يتم التفلسف مشيا، مدرسة ستصبح في وقت لاحق منافسة لأكاديمية أفلاطون.

خلال ثلاث عشرة سنة، قام أرسطو فيها بتطوير تعليمه

تبرز لوحة شهيرة لرفائيل تحت عنوان مدرسة أثينا (1508 ـ 1512) في مركزها أفلاطون وأرسطو، وهما يمشيان جنبا إلى جنب، يرفع أفلاطون سبابته نحو السماء، وأرسطو خافضًا يده صوب الأرض. كما أن الكتب التي يحملانها ليست من صنع الصدفة. وبالنسبة إلى أفلاطون، فإن الأمر يتعلق بكتاب طيماوس، واحدا من حواراته الأكثر ميتافيزيقية يروي عن أصل الكون، في حين أن أرسطو كان يحمل في يده كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس، وهو عمل يتصدى للفضائل البشرية، السعادة والسبل المثلى لبلوغها. تؤكد هذه اللوحة التي تعود إلى عصر النهضة أن يتم في تلك الحقبة المقابلة بين المعلمين الكبيرين طوعيا. لقد توطدت تلك المواجهة على مر العصور، فقد قام أرسطو في حياته بانتقاد بعض مواقف معلمه. ويعد أفلاطون في الوقت الراهن، بوصفه فيلسوف التجريد الميتافيزيقي، تجريد العالم المتعالي للأفكار، وتلميذه أرسطو، مثل المفكر الموسوعي الذي سيعمل على إنزال الفلسفة إلى الأرض.

إن موقف أرسطو فيما يتعلق بالأفلاطونية هو، في واقع الحال، غاية في التعقيد. يرى بعض الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد أن أفلاطون وأرسطو كانا متفقين حول الجوهر. ومع ذلك، فإن تطوير فكر أرسطو قد أفضى به في مناسبات عدة إلى اتخاذ موقف معارض لموقف معلمه، لكن لا شيء يسمح لنا بالقول إن خلافا كبيرا قد نشأ بين الفيلسوفين؛ لدينا الدليل على أن أرسطو قد احتفظ لدى معلمه بذكرى امتنان. أعلن أرسطو في كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس أنه إذا كانت الصداقة والحقيقة عزيزتين عليه، فإنه مضطر بالرغم من ذلك إلى تفضيل الثانية على الأولى. نتفهم أن أرسطو الذي لم يكف في أن يكون صديقا لأفلاطون، فإنه كان يسعى أيضا إلى أن يكون في خدمة الحقيقة؛ وذلك بالتعارض معه.

عالم ملموس أم عالم معقول؟

لقد بات من المكرور القول إن النقطة الأساسية التي ينتقدها أرسطو في رؤية أفلاطون هو نظريته للأفكار. اقتنع أفلاطون، تحت تأثير الفيلسوف الما قبل سقراطي هيراقليط، بأن الأشياء الملموسة أو الواقعية هي في تدفق مستمر، حيث إنه لا يمكن معرفتها بواسطة العلوم. من ناحية أخرى، فقد أخذ من سقراط فن وعلم التساؤل من أجل الارتقاء إلى جوهر الأشياء. ويطلق على تلك الجواهر اسم الأفكار، نماذج أصلية معقولة أو وقائع أبدية توجد في حد ذاتها. ومن هنا عبارة "في ذاته" التي يضمها إلى الخير، العدل، الخيّر، الجميل. ويؤكد أفلاطون أن الوقائع المحسوسة توجد طالما أنها "تشارك" في العالم المعقول للأفكار. ومفهوم الـ"مشاركة" هذا هو ما لم يتمكن أرسطو من فهمه، فقام بانتقاده.

يؤكد أرسطو هو ذاته بأن الواقع المعقول يأتي للتو عبثا إلى مضاعفة الواقع المحسوس، ليجد المرء نفسه بإزاء واقعتين دون فهم كيف يتم العبور من الواحدة إلى الأخرى. وليس المفهوم الأفلاطوني للمشاركة بالنسبة إليه، إلا شعرا صافيا. وهو السبب الذي جعله يستدير بشكل حاسم نحو العالم المحسوس من أجل تعرف عالم الأسباب والصيرورة. فهو يوضح بأن الأشكال أو الأفكار توجد في الأشياء ذاتها، ولا تتمتع بوجود مستقلٍّ لها. وقد قام أرسطو بإعادة تشكيل ثنائية جديدة إلى حد ما، لكن هذه المرة داخل العالم المحسوس، بين الشكل والمادة، بين القوة والفعل.

فبدلا من الفصل بين عالمين، العالم المعقول والعالم المحسوس كما هو الحال عند أفلاطون، فإن القطيعة توجد من الآن فصاعدا داخل العالم الوحيد الذي يراه أرسطو حقيقيًّا، العالم الملموس. لذلك، يفصل أرسطو بين منطقتين؛ المنطقة السماوية التي تتميز بالانتظام الذي لا يتغير للانتقالات التي تحدث بها والمنطقة تحت قمرية، المتواجدة تحت مجال القمر، مجال الأشياء التي تولد وتموت، الخاضعة إلى الاحتمال والصدفة. استنتج أرسطو من ذلك إمكانية الاستغناء عن فرضية الأفكار. إنها قطيعة مع أفلاطون، وتكمن المفارقة في كون أن مفهوم "فكرة"، الذي يشتق من العبارة اليونانية eidos))، يترجم أيضًا إلى "شكل"، وهو المفهوم الذي يستعمله أرسطو. وتعدّ الفكرة الأفلاطونية مستقلة عن العالم المحسوس. أما الشكل الأرسطي، فإنه يستند على المادة للتعبير عن نفسه.

معرفة أم تذكر؟

تولد المعرفة الحقيقية، بالنسبة إلى أرسطو، عن مصاحبة طويلة للمفاهيم والمناهج، والوقائع التي تتم ملاحظتها. لابد من اختبار طويل للأشياء من أجل معرفتها، بهدف التأقلم جيدًا أيضا مع القوانين العامة للطبيعة، والتأقلم أيضا مع الضرورات العقلانية أو مساعي ملكة الفهم. اهتم أرسطو بكافة مجالات المعرفة: إيثيقا، منطق، سياسة، ميتافيزيقا، شعر، بلاغة. وقد كانت ملاحظة الحيّ واحدة من الأنشطة الأكثر انتظامًا، والأكثر خصوبة كما يشهد على ذلك عدد وأهمية البحوث التي كرسها لفائدة علوم الحياة. انخرطت مدرسته، الثانوية، بإيعاز منه، في عمل جبار من البحث، المقارنة والتصنيف. وفيها تم العمل على تجميع كافة أنواع المعطيات التاريخية؛ على سبيل المثال، لائحة الفائزين في ألعاب العرافة؛ الاجتماعية، دساتير مختلف المدن؛ النفسية أو الفلسفية، آراء المفكرين القدماء؛ عدد لا حصر له من الملاحظات تخص علم الحيوان أو النبات، تأملات حول الكائن بما هو كائن، البرهنة على الله كمحرك لا يتحرك للكون. ينبغي على هذه المعرفة الموسوعية أن تجلب السعادة إلى الكائن البشري الذي يكرس نفسه لها مع عدم اكتراث.

يعشق أفلاطون أيضا المعرفة المشيدة على حقيقة أن الروح تمتلك معرفة فطرية سابقة، وأن الدراسة تفيد قبل كل شيء في إثارة الذكرى لتلك المعرفة الدفينة. إن الجدل الأفلاطوني أو العملي للحوار هو بهذا المعنى يعدّ أداة متميزة للتذكر.

الأولوية للسعادة أم العدالة؟

تصف استعارة الكهف، التي طورها أفلاطون في كتاب الجمهورية حالة من الجهل التي يوجد عليها البشر. مقيدين منذ الطفولة في أعماق مغارة، لا يدركون من العالم الواقعي إلا الظلال والمظاهر الخادعة. وإذا ما تم تحرير أحد أولئك المحبوسين، فبإمكانه، خطوة بخطوة، الارتقاء من عالم الأوهام والآراء، إلى عالم الموضوعات الواقعية، ثم إلى عالم الفرضيات الرياضية. وأخيرًا، سوف يكون بإمكانه تأمل فكرة الخير، السبب الأسمى، وفهم قوانين انتظام الكون. الارتقاء بفضل الجدل حتى السطوع الباهر للخير، تلك هي غائية الكائن البشري في الأخلاق الأفلاطونية. يتعلق الأمر بالتوصل إلى تحويل النظرة إلى ميتانويا métanoia))، حيث النفس البشرية التي تشكل جزءًا من عالم متعدد، تعثر في آخر المطاف على الوحدة.

إن محبة الخير هي المحرك الأساسي لهذا الارتقاء، الذي يستعرضه أفلاطون في كتاب المأدبة. ترتكز المحبة على فضائل أربع أساسية: الاعتدال، الشجاعة، الحكمة والعدل.

وبالنسبة إلى أرسطو، فإن غاية الإنسان تكمن أيضا في تأمل الكمال الإلهي. لكن كما شرح في كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس. إن ذلك يعد هدفا بعيدا كل البعد عن غالبية البشر. لذلك، فمن الأفضل غرس الفضيلة والتوصل إلى السعادة التي يسهل بلوغها. فهو يعرف الفضيلة كوسط بين رذيلتين تمثل إحداهما إفراطا، والأخرى تمثل نقصا. وهكذا تعد الشجاعة وسطا بين الجبن والتهور، الكرم وسطا بين التبذير والبخل. وبالنسبة لأرسطو لا توجد الفضيلة إلا في إطار سياق معين. لقد كتب أرسطو صفحات رائعة حول الصداقة، وهي فضيلة أساسية تسمح بالعيش في سعادة على الأرض. وبطريقة مبسطة فإنه يمكن معارضة البحث عن العدالة والانسجام لدى أفلاطون، بالبحث عن السعادة لدى أرسطو.

في السياسة، ذرائعية أم مثالية؟

درس أرسطو ما يزيد عن مائة من الدساتير السياسية وقام بتقسيمها إلى فئات ثلاث، تبعا لعدد أولئك الذين يشاركون في السلطة؛ أي واحد، القلة، أو الكل. إنه يعتبر الأنظمة الثلاثة كلها سليمة التي هي على التوالي، الملكية، الأرستقراطية، والنظام الدستوري. لكن تلك الدساتير السليمة يمكن أن تصبح منحرفة عندما يتم تحريف السلطة التي تتم ممارستها، حتى ذلك الحين، لما فيه خير الجميع، بواسطة أولئك الذين يحتفظون بها، لمصلحتهم ومنفعتهم الخاصة. وهكذا يمكن للملكية أن تتحول إلى طغيان؛ الأرستقراطية إلى حكم الأقلية، سلطة عدد قليل من الأشخاص يحتكر الثروات والسلطة؛ ويمكن أن يتحول النظام الدستوري إلى ديمقراطية، عندما تستبدل الأنانية والمصلحة الخاصة بالانخراط في الرخاء العام. لا يمنح أرسطو مبدئيا أي أفضلية إلى أي شكل من الأشكال الصحيحة. لكن عند تحليله للتاريخ، يستنتج أن الشكل السياسي الأكثر تحققا والأكثر استقرارا هو النظام الدستوري.

لا يقوم أفلاطون بمقارنة أنظمة سياسية موجودة، بل يفكر في شروط وجود مدينة عادلة. قاده هذا التساؤل إلى تحديد أولويات العديد من أنظمة الحكم، ابتداء من حكم الفرد (الفيلسوف الملك) وانتهاء بالاستبداد. لقد شخص بدقة الأمراض الممكنة لكل نظام وتسلسلها. ويمكن للأرستقراطية، التي يراها نظام النخبة، الأكثر حكمة، أن تتحول إلى حكم مبني على الشرف والقيمة، البحث عن الشرف والسلطة؛ والديمقراطية إلى حكم الأقلية، عندما تنزلق السلطة في يد أقلية من المواطنين الأكثر ثراء. ويمكن للأوليغارشية أن تتحول إلى ديمقراطية، حينما ينتهي المطاف بأسبقية المصالح الخاصة على المصلحة العامة إثارة تراجع المواطنين.

وفي الأخير، فإن الديمقراطية يمكن أن تتحول إلى استبداد، حينما تستدعي الكراهية التي تتفشى بين المواطنين، إلى سلطة طاغية يفترض فيه ضمان حمايتهم. وتعزى التعديلات الممكنة لمختلف أشكال الحكم إلى أمراض المواطنين أنفسهم؛ لأن أفلاطون يرى النفس البشرية وروح المدينة متناظرتين.

لقد اخترقت تأملات وأعمال ذينك المؤسسين العظيمين العصور، وألهمت كل الفلاسفة اللاحقين، وحتى وإن كان ذلك من أجل انتقادها. تتمتع أمثولة الكهف بالراهنية، في عالمنا الذي يهيمن عليه ما هو افتراضي، وتستمر في إلهام أولئك الذين يرون فيها مساندة على الخروج من ربقة الجهل، من الأوهام والآراء. ومع ذلك، فإن أفلاطون لم يقيد نفسه في الخطاب والعقل، بل ترك الباب مفتوحا للخيال عبر اللجوء إلى الأسطورة.

إن فكر أرسطو الذي شكل مرجعا للعلوم على مدار قرون عدة، يمكن أن يبدو قد عفا عليه الزمن بخصوص نقط عديدة، وعلى الرغم من ذلك فإن العديد من المفكرين يستمرون في دراسة مفاهيمه ومناهجه كما لو أن مؤسس الليسيه قد وهبنا حقيبة أدوات لتطبيقات لا نهاية لها. إن إثيقاه ورؤيته للفضائل تعود بقوة إلى الفلسفة الأخلاقية، والأسئلة التي طرحها لا تزال في قلب الإبستمولوجيا والفلسفة السياسية المعاصرة.

[1] - مصدر النص: المجلة الفرنسية علوم إنسانية (Sciences Humaines) عدد ممتاز رقم 18، ماي ـ يونيو 2025

[2] - بريجيت بودون Brigitte Boudon) (حاصلة على الدكتوراه في الآداب، مدرسة وفيلسوفة، من بين مؤلفاتها: أفلاطون. فن العدالة (منشورات بيت الفلسفة، 2018 ) وأرسطو. فن السعادة (منشورات بيت الفلسفة، 2016).