البراغماتية: ما جدوى الأفكار؟


فئة :  مقالات

البراغماتية: ما جدوى الأفكار؟

البراغماتية: ما جدوى الأفكار؟

ترجمة لمقال: ?Le pragmatisme à quoi servent les idées

لمؤلفه: Jean Francois Dortier رئيس تحرير مجلة العلوم الإنسانية

من كتاب: Philosophie de notre temps

بالنسبة للبراغماتية التي أثرت على الفلسفة بعمق في الولايات المتحدة الأمريكية، لا وجود لأفكار مطلقة، بل فقط معارف مفيدة بقدر معين، وهذا ينطبق أيضاً سواء على المعتقدات العادية أو المعارف العلمية أو القيم الأخلاقية أو المذاهب السياسية.

من 1871 إلى 1876؛ أي في عصر "كان فيه الفلاسفة في أمريكا لا يقلون ندرة عن الأفاعي في النرويج"[1]، كان يجتمع بشكل منتظم بكامبردج مساشوستس قريباً من جامعة هارفارد ناد صغير من المفكرين (فلاسفة، علماء نفس، مناطقة ورجال قانون) من مناقشة الفلسفة والأخلاق والسياسة وشتى القضايا العلمية. ضمن هذه المجموعة، وجد شارل سندرس بيرس (1839- 1914)، وهو عالم منطق وفيزيائي كان يشتغل (...) بمؤسسة مسح الأرض.

لقد كان شارل سندرس بيرس الزعيم الفكري للمجموعة بدون منازع، وشكل صديقه وليام جيمس (1842-1960) الوجه الآخر المؤثر، وهو ابن لجامعي مشهور جدّاً وأخ للكاتب هنري ويليام، وبعد أن تردد بين الطب والرسم انتهى إلى تدريس علم النفس بهارفارد، حيث أسس أول مختبر لعلم النفس التجريبي.

لقد كان شارل سندرس بيرس وويليام جيمس مصدراً لمذهب كان له أثر حاسم في الفكر الأمريكي ونعني به البراغماتية.

النزعة الاختبارية لشارل سندرس بيرس:

كان القاسم المشترك بين أفراد المجموعة الصغيرة التي أطلقوا عليها بنوع من التهكم، اسم النادي الميتافيزيقي، هو بالضبط نقدهم للتفكير الميتافيزيقي؛ أي لفلسفة سجالية خالصة، تدعي معرفة الحقيقة النهائية للعالم.

وكان شارل سندرس بيرس وويليام جيمس، وأصدقاؤهما على وفاق تام، للإقرار بأنه من الضروري اعتماد منهجية جديدة لإخراج التفكير من قوقعته الميتافيزيقية؛ "فالحقيقة" بوصفها تطابقاً كاملاً بين الفكر والواقع، هي مجرد سراب بالنسبة للعقل، ومن هنا، يلزم التخلص من الأفكار العامة، غير الثابتة في الغالب الأعم التي ينتجها التفكير الميتافزيقي؛ (أي الفلسفة السجالية)، من أجل بلوغ معارف مشخصة وقابلة للتحقق على المستوى التجريبي.

استعرض شارل سندرس بيرس لأول مرة في نص بعنوان: "نثبت تصوراتنا"[2]، مبادئ البراغماتية؛ فأفكارنا ليست حقائق كونية، ولكنها أدوات موجهة لحل مشاكل عملية.

فالتصورات ــ من الأفكار المشتركة إلى النظريات العلمية ــ هي موجهة للعمل، وتثبت لما تتكيف مع وسط معين، وتتم مراجعتها لما نواجه من مشاكل جديدة، فتقوم تصورات وأفكار جديدة متكيفة مؤقتاً بحمل المشعل، ذلك هو التصور المتكيف للتفكير الذي تقترحه البراغماتية.

وفي كتاب: "كيف نجعل أفكارنا واضحة"[3]، الذي نشر سنة بعد ذلك، يستخلص شارل سندرس بيرس من رؤيته للمعرفة، نتيجة منهجية مهمة؛ فالأفكار لا يمكنها أن تتطور إلا إذا اتخذت صياغة إجرائية، تسمح باختبارها، وبالتالي توجيه العمل. فالقيمة الحقيقية لنظرية ما، تقاس بمدى ما تقدمه من قضايا قابلة للتحقق تجريبيا، وقوة معرفة ما، مرتبطة بنجاعة الأعمال التي توجهها بدقة.

أن نفكر بشكل جيد معناه، أن نحول الخطابات الغامضة والعامة، إلى قضايا محددة الأبعاد، ولها آثار قابلة للقياس؛ بهذه الطريقة، حسب شارل سندرس بيرس، نكون قادرين "على جعل أفكارنا واضحة". وعلى هذا النحو، يعرف البراغماتية بأنها: "نزعة اختبارية"؛ وبالنسبة إليه، بعد نظرية أو تصور ما "يكمن فقط في الآثار المقبولة منطقياً التي يحتمل أن تكون لها على توجيه الحياة".

براغماتية ويليام جيمس:

يتفق ويليام جيمس مع شارل سندرس بيرس، في جزء كبير من الأفكار، وسيجعل من نفسه عبر محاضرات، ومطبوعات وكتب، نشرت بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ناطقاً رسمياً بها.

وقد نجح بهذه الطريقة، في استقطاب عدد من الأتباع لمذهبه، غير أن هذا التبسيط، لم يتم دون إعادة صياغة وتعريف الأطروحات الأصلية لشارل سندرس بيرس، وسيعمل على الابتعاد بشكل مؤدب عن أطروحات صديقه؛ ففي الوقت الذي نجد فيه شارل سندرس بيرس، كمفكر صارم بقدر كبير، يعمل دون هوادة على مراجعة، وإعادة النظر في تفكيره؛ نجد ويليام جيمس، مهتماً بنشر أطروحاته، أكثر من استكشاف قضايا البراغماتية.

ففي "مبادئ علم النفس، 1890" ثم في "البراغماتية، 1907" وهو كتيب صغير، سيشهد نجاحاً كبيراً، يضفي على البراغماتية طابعاً مبسطاً وجذريا.

فتحت تأثير داروين، يعطي ويليام جيمس عن الفكر صورة نفعية وتكيفية، ويطبق هذا التصور عن الأفكار، سواء على المعارف الفيزيائية عن العالم، أو على التصورات الأخلاقية والدينية؛ فليس هناك "خير" مطلق، مثلما لا توجد هناك حقيقة "نهائية"؛ فالأفكار الأخلاقية هي دعامات للعمل. فمن خلال نجاعتها، يلزم أن نقيس قيمتها.

يرفض ويليام جيمس إذن، بنائي الأنساق الذي يدعون تأسيس الأخلاق، أو عدالة أو نظام سياسي كامل، انطلاقاً من مبادئ أولى، أو كونية.

وقد كان من آثار المذهب البراغماتي عند ويليام جيمس ــ الذي يوصف بالإمبريقية الجذرية التعددية ــ فإذا كان لا يقبل إمكانية بلوغ حقيقة مطلقة، ففي المقابل، يوجد عدد من الحقائق الجزئية التي تملك بعداً ومنفعة نسبية مقبولة حسب السياق.

جون ديوي: الفكر الفاعل

تقريباً في نفس الفترة التي كان فيها ويليام جيمس وشارل سندرس بيرس، يبنيان البراغماتية معاً، كان هناك مفكر، آخر هو جون ديوي (1859- 1952)، يبتكر فلسفة قريبة سماها "الأداتية"؛ وترتكز على نفس المبادئ: نقد الميتافيزيقا، دور التجربة في تكوين الأفكار، رفض الدوغمائية، وقبول التعددية على المستوى الأخلاقي، السياسي والتربوي.

فمثل شارل سندرس بيرس وويليام جيمس، كان جون ديوي فيلسوفاً معطاء، درس سنة 1896 الفلسفة، في جامعة شيكاغو، ثم أضاف درساً في علم النفس التجريبي، وآخر في البيداغوجيا؛ وأنشأ بعد ذلك أول مدرسة تجريبية، سميت فيما بعد: مدرسة ديوي؛ لقد كان بالفعل فيلسوفاً موسوعياً، ملاحظاً ومنتبها للعالم المعاصر، ومسافراً كبيرا؛ وفضلا عن ذلك، كان ديوي مثقفا ملتزماً، استقطب من طرف زوجته للنزعة اللبرالية، (بالمعنى الأنجلوساكسوني "التقدمي")؛ وأصبح مدافعاً صلباً عن حرية الرأي والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، شارك في المناظرات السياسية الكبرى لعصره، وتحمل مسؤوليات نقابية وجمعوية، وأوقف سنة 1937 كتابة مؤلفه الضخم "المطول في المنطق"، من أجل ترؤس لجنة تحقيق في تروتسكي، بخصوص الاتهامات الستالينية. فقد كانت فلسفة ديوي، مرتبطة بتصوره للتجربة المعاشة؛ فالحياة تعتبر سلسلة من التجارب، ومن هنا بالضبط، ينبع تصوره للفكر والتربية والحياة السياسية.

وفي كتابه "كيف نفكر؟" 1910، يدافع جون ديوي عن فكرة أن رجل الشارع، مثله مثل رجل العلم سليل سيرورة تجريبية متواصلة، في حالة السكون، لا حاجة لاستخدام الفكر، وفي مواجهة مشكلة ما (نظرية أو عملية)، يلزمنا تحريك الفكر.

في الوقت الذي يخضع فيه الحيوان لغرائزه، يحتاج الانسان إلى تفكيره الذي يعتبر مساعداً للعمل، فهو يحلل الوضعية (إنتاج المعطيات)، ويصوغ الفرضيات (الأفكار)، يجربها (عملياً ونظريا)، يعالج النتيجة، وحينما تكون غير مناسبة، عليه إيجاد جواب آخر، وعلى هذا النحو، تولد وتعيش، وتموت الأفكار.

هذه النظرية التجريبية للفكر، كانت لها انعكاسات على تصوره للتربية؛ فالتعليم يجب أن ينبني على أساس هذا النموذج لـ "الفكر المخبري".

فكل شيء ينطلق من تصوره للفكر، باعتباره مواجهة بين الفرد والمشاكل. إن المدرسة ليست إعداداً للحياة، بل هي الحياة نفسها، كما أشار إلى ذلك في كتابه: "القانون البيداغوجي".

إن المدرسة إذن، مختبر يجب بناؤه على أساس التجارب، والأسئلة الأجوبة التي يطرحها الطفل على نفسه (Learning by doing).

مع ذلك، فبيداغوجيا جون ديوي، لا تصوغ وصفات بيداغوجية كونية، إذ من اللازم إعطاء الاهتمام سواء للتربية اليدوية، أو الفكرية؛ فالممارسات البيداغوجية، يمكنها أن تتغير بحسب سن الأطفال، والمادة المدرسة والأهداف المرسومة...

إن المدرسة لا تعلم أجوبة نهائية، بل يلزمها على العكس من ذلك، أن تعلم كيفية مواجهة تجارب جديدة باستمرار.

وعلى المستوى السياسي، فبراغماتية جون ديوي تقود إلى تبرير الديمقراطية، لا بوصفها نظاماً مثاليا، بل بوصفه نظاماً يسمح بتصحيح أخطائه وتجريب حلول تم تغييرها عند الحاجة. إن المشاكل الاجتماعية مثلها مثل التفكير لا يمكن أن تعالج انطلاقا من نموذج مسبق؛ فاعتماد حلول جديدة يجب أن يحصل حسب الزمن ومواجهتها بالنقاش، فالتجربة والنقد ومقارعة الأفكار تحتل مكاناً بارزا ضمن هذا التصور البراغماتي للسياسة.

انحطاط وتجدد البراغماتية:

بعد شارل سندرس بيرس وويليام جيمس، وجون ديوي، نشأ جيل جديد من المفكرين البراغماتيين في مجالات مختلفة:

المنطق مع كلارنس لويس (1883- 1964)، السيميولوجيا مع شارل موريس (1901- 1979)، الفلسفة السياسية مع سيدني هوك (1902- 1989).

وفي أوروبا لم يكن للبراغماتية صدى عميق، إذ كان الفكر الأوروبي عموما مناهضاً لكل نظرية تبدو نفعية، أداتية ومبتذلة...، إذ لم يتردد برتراند راسل في إصدار حكم نهائي "إن الخاصيتين اللتين اعتبرهما هامتين هما محبة الحقيقة، ومحبة القريب. واعتبر أن محبة الحقيقة أصبحت باهتة في أمريكا بسبب الروح التجارية التي تعبر عنها البراغماتية فلسفياً، كما أن محبة القريب تعوقها الأخلاق الطهرانية".

بعد الحرب العالمية الثانية، عرفت البراغماتية تراجعاً واضحاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت الفلسفة التحليلية التي نبعت من أعمال دائرة فيينا، تفرض نفسها بدء من الخمسينيات، ولم تحتفظ من البراغماتية سوى مسألة صياغة لغة واضحة، ورفض الميتافيزيقا. وبمعنى ما، فالفلسفة التحليلية هي مع ذلك تنتسب من بعيد للبراغماتية؛ وفي هذه الحالة يمكن اعتبار "كل فلسفة المعاصرة الأنجلوساكسونية، ستكون في هذه الحالة الوريثة غير المباشرة للبراغماتية" كما أشار إلى ذلك جيرار ديلدال.[4] غير أنه ابتداء من الثمانينيات، انبثقت براغماتية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر ريشارد رورتي (ولد سنة1931)، المدرس في جامعة فيرجينيا المؤسس الرئيس لهذا التجديد بدون منازع.[5] وباعتباره أحد الأسماء البارزة في الفلسفة الأمريكية، فقد جعل من نفسه مدافعاً عن الإرث البراغماتي الذي يؤوله بطريقة مرنة؛ فخلال سنوات قليلة استطاع أن يستقطب جزءاً وافراً من النقاش الفلسفي الأمريكي حول أطروحاته، وكسب بعض الصدى في أوروبا.

فعن ويليام جيمس وشارل ساندرس بيرس وجون ديوي، أخذ فكرة عامة تقوم على عدم وجود حقيقة مطلقة، سواء في الفلسفة أو العلم أو الأخلاق. فالبراغماتية تقترح نظرة سياقية أو أداتية للفكر، ذلك أن ما يميز العلم ليس هو قول "الحقيقة"، لكن على العكس من ذلك تقديم فرضيات مقبولة سيتم دحضها في يوم ما؛ "فالحقيقة تعيش بالافتراض" كما يقول ويليام جيمس. لكن رورتي يدافع عن البراغماتية خصوصاً في مجال الأخلاق والسياسة.

في مجال الأخلاق، يقول إنه من غير المجدي أن نجد كما أراد ذلك كانط مبرارت كونية لإثبات ضرورة التضامن بين البشر. ومنذ تلك اللحظة سيغرق في النسبوية والشكية وربما في الوقاحة؟

يرفض رورتي ذلك مبيناً أن فعل الخير هو سلوك حر لا يجد مبرارته إلا في ذاته، والتضامن بين البشر لا يمكن أن يتأسس على طبيعة إنسانية أو عقل كوني. فالفلاسفة يضيعون وقتهم في البحث عن حقيقة نهائية تجمع كل العقول. فالتضامن والعدالة والأمل في عالم أفضل لا يمكن أن ينشأ إلا من فعل حر. فإذا ما نشأ كمال مطلق للعدالة والتضامن، فإن ذلك نابع من اختيار واعٍ للبشر، تدعمه أحلام الشعراء والروائيين والحالمين الذين يبينون إمكانيته وليس عن طريق البرهنة الفلسفية التي تثبت ضرورته.

فبوصفها نظرية للمعرفة تعرضت البراغماتية لمجموعة من الانتقادات، حيث تمت مؤاخذتها خاصة كونها تناقض نفسها وكونها تفتقر للانسجام الداخلي. وفضلاً عن ذلك يؤكد الملاحظون أنه لا وجود لمذهب براغماتي موحد، بل هناك عائلة من الأفكار تجمع مؤلفين تتعارض أطروحاتهم أحياناً. فشارل سندرس بيرس كان يرفض تصور البراغماتية لفلسفة جديدة، إذ كان يرى فيها على العكس من ذلك منهجية تدعو إلى التخلص من الأفكار الفارغة والعامة ومحاولة صارمة لصيغة قضايا قابلة للتحقق، وهي (البراغماتية) بالنسبة لرورتي Rorty وضعية جد أصلية (Antifondatmontalist)، ودعوة إلى استعادة حرية التفكير في مواجهة بنائي الأنساق. والحقيقة، فإن الإغراء الحالي لبراغماتية رورتي راجع إلى نعومة الأسلوب الذي يميز كتاباته وميله إلى التهكم أكثر من صرامة أفكاره.


[1]- كما كتبه ج- هـ - هال Hall سنة 1879

[2]- مترجم في شارل ساندرس بيرس نصوص لاديكارتية 1984

[3]- المرجع نفسه.

[4]- ج – ديلدال G- Deldalle الفلسفة الأمريكية 1993 De Boeck.

[5]- على الرغم من أنه يتم إدراج مؤلفين، مثل: هيلاري بوتنامHilary Putman، دونالد دافيدسون Donald Davidson، نيلسون كودمان Nilson Goodman ضمن البراغماتية الجديدة.