هل يمكن استعادة درس التسامح بالوعي والإتمام؟؟!!..


فئة :  مقالات

هل يمكن استعادة درس التسامح بالوعي والإتمام؟؟!!..

هل يمكن استعادة درس التسامح بالوعي والإتمام؟؟!!..

محمد بنعياد[1]

شغلت ثقافة التسامح في السياقات الإسلامية ذروةَ امتداد لحضور موسع، ما كان لها لتحتفظ بهذه الأبنية المتماسكة إلا بفضل تأسيسات البدء وجدارتها التي شيَّدت لشرفات التجلي المتسع التي انطلقت منه؛ وكان لها أن تكون كذلك، باعتبارها كانت حافظة وراعية لهذا التسامح، ومُلهمة إياه على اختيارات حياتية استقرت في حضارات إنسانية متعددة، أكسبت المجال المتوسطي صيرورات تعدد خلاب يتآبى على النسيان، وبكيفٍ ما زال يسائلنا باستمرار، هل من إمكانات لاستعادة وهجِ المتوسط؟ بل يؤرقنا صراحة عن لظى حقيقة هذا الغياب والتغييب الفج، الذي لم يسعفنا على الاقتراب الهادئ ومعرفة تاريخ كان ممتدا بتواريخ الاغتناء الهائل، والتي ما زالت مُنفلتة عنا بتقادم الأزمنة وأُفول نواعِم الاقتراب العاشق لذاكرة الأماكن؛ وذلك بعد أن أضحت علاقتنا بالمتوسط فاتِرة تماما، وباردة في حدود فواصل مناسباتية تتسم بصَغار المحدودية التي اقتصرت على اعتباره مجرد ترحال وتنقل بين ضفتين، أو منتجعا سياحيا، أو زهواً لحظيا يقتنص إمتاعا عابرا موثقا بتلاوين الاستجمام الصيفي، الذي انتفت فيه شجون استعادة المتوسط والتاريخ المكثف للحقب والعصور، حيث تقف الأماكن شاهدة على آثارٍ ومَسيرِ من عبَروا واستوطنوا وشيَّدوا وأبدعوا ورحلوا في منظور كثافات وتركات وتجليات سامقة.

هو تاريخ متحرك لحراك ثقافات وأديان وهويات أغنت البحر الأبيض المتوسط، وقدمت شواهد حياتية لمجتمعات التعدد المتوسطي، بتوطنات واستقبالات وتضايفات واقتباسات أثَّرت في حضارات الجوار؛ ذلك أن تاريخ التراكم الحضاري والثقافي والديني المستقر على ضفاف المتوسط كفيل بامتداداته المُوسعة أن يُحرج حالات الأفول الشديد وتضييقاتها الاحتباسية والأعباء المستثقلة الثاوية في راهننا المتسارع، بمنظور يتحرر من كسَاءِ التبخيس، واستحواذ تناسِياته وتلبيساته الشائهة، التي أضحت آخذة في الاتساع الشديد، وغير مكثرة بما عِندياتها وما تحوزه إلا بتأكيدات مُشِيدة آتية من غير فضاءاتها وفي مرايا جاذبية Fascination.

لهذا يأتي سؤال البحث في التسامح راهنا في رابط متعلقاته الموصولة في السياقات الإسلامية، وما تزخر به من آثار شاهدة على ذلك، لا بالاعتبار الذي يقف في حدود صيغ التبجيل والامتداح والإيغال فيها، بل باعتباره طريقا مغايرا سالكا بنفاذ العمق إلى مفهوم التسامح، الذي شكلَّ إلى حد بعيد سر القوة الكامن في الحضارة العربية الإسلامية، ومنبعا لكل وهج أصيل امتلك مصائر البدء، وعرف تدويلها وإنشاء مواردها على تكييفات جديدة: جايلت زمنها وسابقت غيرها. لذلك يأتي الحديث عن التسامح أولا: باعتباره دليلَ استعادة لمعطى حضاري إسلامي متقدم، ما زال يتقدَّم إلينا بأسئلة مكثفة وبتواليات بحثية لا تنفك عن عناصر الجدة، وثانيا: التماسا لِتحصيل مِران ذهني وارتضاءَ تحققه، ليكون تمرينا فكريا يتغيّا التقصي عن فكرة التسامح في أبنية إسلامية تُستعاد لحظاتها الألمعية، وتُستجلب قصديات شواهدها على تأملاتٍ وإضاءاتٍ وإفاداتٍ، بوِصَالِ اتصالٍ وإتمامٍ مع مُنجز ذلك التسامح السامق، في سياقات إبداع علمي صاغها مَهَرةُ عقولٍ بصنعةِ الإقامة في تراثات الأقدمين، والعيش مع موارد الاختلاف وأزمنة التعدد بإنشاء متماسك، ما يؤيد شرعية العمق المتماسك لمدلول التسامح واستصداراته المُعبَّر عنها، بالكيف الذي يجعل اشتغال أسئلتنا مُنشئا على دلالات المعنى والجدوى، ومحمولا أيضا إلى عوالمنا المعاصرة ومتغيراتها المتسارعة، وما تشهده من احتباس حواري، لعله يتجاوز عوالم السدود والقيود وأبنية الهشاشة الرثة التي باتت تحاصرنا في أسْيِجَة الضآلة المعكوسة بنظام القلب الكارثي، ورداءات الحُجب المانعة من الفهم.

فكثيرا ما نُظِر بإمعان شديد إلى فرادة الاقتدار الهائل الذي وسم الحضارة العربية الإسلامية زمن العصور الوسطى، وكذا لعناصر الارتكاز التي كانت ملهمة لتفوقها إيجادا وتدويلا وانتشارا على أوسع نطاق، واعتُبر خلالها فِعل الأثر الكبير الذي أحدثته ظاهرة الإسلام في الزمان والمكان والوجدان، في مدلول حراكِ فورانٍ كبيرٍ وبانتظاماتٍ هائلة، أيقظت مراصد الاستقبال والتلقي والمتلقين الجدد على أسئلة واستفهامات واختيارات مغايرة، منظورا إليها في سعاتِ الاستيعاب الذي يمكن أن يتوازى مع أوليات الاجتماع الناشئ وحاجاته في إمكانات جديدة لحياة التعدد المشترك: جوارا وحوارا وتبادلا ومخاصمة.. باعتبارها أشكالا حاضنة للمختلف الإنساني وآماله، الذي لم يُزعج أبدا ظاهرة الإسلام، بل سعيا منفتحا بارتضاءِ قبولِ اشتغالِ هذه المعطيات وتمتيعها بسيرانٍ أرْيَحِيٍّ مُوسَّع، والإبقاء عليها بمنأى عن وسائل الإكراه ودوائر الإجبار القسري، التي تُفسد أمان اطمئنان الذات إلى ذاتها وأشواقها الإنسانية ومؤملاتها الثاوية في أبنية دينية، اعتقدت جدواها وبقيت وفية لها.

فقد شيَّد الإسلام منظور المحادثة مع الأديان المتقدمة عليه من منظور الاعتراف والنقد، واعتُبر ذلك استثناءَ التميز الحقيقي لثقافة الإسلام الدينية، التي أقرت بشرعية اختلاف الآخر، والنظر الاعتباري إلى تركات التراكم العقدي للأديان الكتابية التي باشرت الهداية بمشاريع إصلاحية في مجتمعاتها الإنسانية، وكذا بالتنبيه إلى الانتهاءات التي انتهت إليها في تراث مقدس ديني وَجدَ له منتسبون ومتمرسون بتجارب لاهوتية فائقة التجدر، بالتماسِهم له إيمانا والذَّبَّ عنه في تخاطبات لاهوتية وأبنية مناظراتية، انتقدهم فيها الإسلام[2] بمسارات البرهنة عن اختياراتهم الدينية، وذلك عبر تواليات مفصلية لحوار ديني Dialogue interreligieux ما كان ليأخذ سبق الريادة والانفتاح على الغيرية الدينية إلا في أجواء سمحة فائقة التسامح الديني، وبمنسوب زيادة أضحى متواترا، ومعهودا يوميا مفتوحا على شواغل متعددة، لم تُستثنَ منه أمكنة التوطن الجديد لظاهرة الإسلام وحواضره العلمية، التي بات يتضح فيها حجم الفروق الآخذة في التشكل الجديد لحياة أضحت تُستجد على مغايراتٍ ومُعاندةٍ لإلفِ المألوف واعتياداته النمطية، بل باتت تضمينات فلسفة التسامح في السياقات الإسلامية تتساوق مع تطور حقيقي لِلَواحقَ بعديةٍ متسارعة، كانت مُجملاتها إيذانا لحراكِ تثاقف ضخم غير مسبوق، شهِده واقع البيئة العربية الإسلامية في نُظم المعارف الجديدة المُنفتحِ عليها، وما أبدعه العقل الفلسفي الإسلامي تجاهها، عندما انكب عليها بحثا ودراسة من خلال تصانيف علمية، سرعان ما أضحت جاذبيةُ نصوصها شاهدة وموثقة لعلامات بينية متمرّسة لصنافات مدارس علمية مختلفة، امتلك مفكروها جدارة التمتع بعيش الاختلاف والمكوث في دواخله دون توجس أو تبرُّم ينأى عن جادة الصواب، أو نزع الخصوصية أو الأهلية العلمية عن مصدريتها، بل كان فِعل التسامح موصولا بالحوار الذي سعى إلى توفير شروط اتصالية هادئة بين الماضي والحاضر، والقطع مع غلواء المنع وتسييجاته مع من هُم ليسوا من ملَّتنا، وذلك سعيا إلى ترسيخ تقليد علمي جديد أكثرَ مغايرة وجِدّة تطبيقية، يكون أكثر إنصافا في تمتيع مَعْلمةِ التضايف على الحضارات الأخرى وترسيخها على إمتاع كبير.. وتمكينها أحقيةً في التداول على أوسع نطاق، والذي باتت خلاله مراصد التلقي العربي الإسلامي غير منكفئة على رسوم الحدود والقيود المدرسية أو المذهبية، بل منفتحة على سِعات من التحرر الذي يجعل مكنة الاستيعاب تحفل بقدر كبير من الاستيفاء الأوفى والاستزادات العلمية، باعتباره حوارَ أزمنةٍ وحضاراتٍ وأجيال، ما كان لموارده أن تُنتعش إلا بخصّيصة التسامح وتلقائية تجليه الحواري، باعتباره ليس حوارا شَصّا Dialogue Hameçon يُنهي مع تجليات الخصوصية الإسلامية، بل حافظا وراعيا لها ومُثمنا لجهودها، ومُكسبا إيّاها فرادةً استثنائية، لكونها استوعبت شواغل زمنها، وسابقته بتأسيسات معرفية لقضايا وإشكالات اعتبرت من شواغل راهننا المعاصر، وما زالت أنْسب لزماننا؛ وذلك بامتلاك فلسفة العودة إليها وتبيّن مزاياها الموضوعية كمفاهيم: الآخر، والغيرية، والتعايش، والتسامح، والتبادل والتثاقف...والتي انتعشت منابع أصالتها في سياقات واقعية مُنتزعة من عيش حي وموضوعي، بل صرنا نحن أحوج ما يكون إليها وسُرّاع إلى حيازتها وتوسّلها، عندما زاحمنا ضجيج الالتباس اليومي واستعجالاته المتهالكة في أزمنة حداثة سائلة Liquid Modernity شائهة بالنضوب والإفقار ونظام العزل، المبتور بالقطائع والفقدِ الاتصالي، الذي لم يقوَ على العبور بجدية إلى قارات التسامح الفسيح في السياقات الإسلامية، وتحيينها وفق استعمالات ومعرفة استيفائية، أَقدرَ على الفهم والضَّمِّ الحيازي لها، وتبيئتها في مجال تداولي يعاند باشتغال مضاهى وبندية مسالك نسقِ نفسِ تلك المفاهيم في راهننا المعاصر، والتي أضحت سيّارة بولعِ جاذبية الافتتان بها دون تمييز لها، أو فحص في الاستعمال فيما يتعلق بمفاهيم "الغيرية والتسامح، وحوار الأديان والحضارات.." في طقوس فلكلوية مُنهكة، أضحت تتأدى باشتغال مواسمي غير محمولة على استمرار متواتر، يمتلك جرأة في خلخلة أبنيتها الإيديولوجية واستعمالاتها المفارقة، التي لم تتأسس على الوعي وإحكام صنعة المحادثة فيها برؤى علمية تستوفي فِعل قوة التسامح Power of Tolerance وما يتصدر به من إبداع جُوّاني في المبنى والمعنى، ما قد ينفعل به الوجود الإنساني في منازل سالكة، تمتلك قدرة اقتراحية في الإسهام والإتمام على لبنة التسامح وصروحها، باعتباره تشييدا لاصطفاف أنسبَ، يُبقي على الشرط الحواري لكل إمكانية اتصالية ارتضت الاشتغال في أمكنة وأزمنة التعدد، وابتعاثها على تناسقية النَّحن الكبير The big together في توارداته والتقاءاته المُسعفة على الفهم الإيجابي بمنأى متخيل الاشتغال المتوتر وزِحاماته اللامستقرة، ولا سيما أن راهننا قد كثُر فيه ولع الافتتان بجاذبية الغيرية والتسامح والحوار بين الأديان والحضارات... ولم نعد نمتلك فيه بعدُ زمام المبادرة الاستباقية السائلة، والتحكم في استعمالاتها المتسارعة بأنظمة التَّرَحل الغرائبي، أو في امتلاك القدرة لإنزالها منازلَ سالكة، تتعزز بتجويدٍ نقدي وتبيئتها في مجالنا ومعرفة مسارات اشتغالاتها وصيروراتها.. فهل يكفي هذا الاستعمال المواسمي وانقطاعاته غير المحمولة على التواتر أن يستوفي شروط الوعي من درس التسامح كأفق اشتغال متماسك؟ لماذا لم نلتفت له وعزلنا أنفسنا عن هاته النفائس التراثية لقيم التسامح بنظام التَّرك المتبرم، والتحييد غير المكترث الذي زهد في ممكنات اقتدار إبداعاتها وحملناها على مَحْمَلٍ تبخيسي، بغلواء اغتراب فجٍّ لم يمتلك جدارة توسُّمها من منابعها، وإعطائها أحقية البرهنة والتدليل عن شواهد التسامح في أبنية سياقاته الإسلامية؟ لماذا عجزنا نحن عن مجاراة ما أبدعه مفكرونا بالتماس الإتمام على مُنجزهم بتكامليةٍ تتقاطر فيها إسهامات الأجيال اللاحقة على موارد التسامح؟ لماذا أتقن فلاسفة ومفكرو الإسلام الأوائل صنعة التمرس وحِرفِيَةَ ثقافة التسامح مع منسوب الاختلاف والتعدد دونما توجس؟ بل نجد أنهم كلما أوغلوا في البحث إلا وكانت تضميناتهم العلمية أكثر عمقا ونضجا، وريادةَ زيادةٍ بتوسيعات مع عالم الأشياء والأفكار، لا هم نبذوها أو قاوموها، بل وقفوا إزاءها موضع السائل تقليبا وتفتيشا ومباحثة، ولم يستوحشوا فيها قساوة اغتراب منزوع من زمنهم الوجودي، بل كانت معبرةً عن انغماس حقيقي ذي معنى، كونُه جاور وحاور وأفاد وتجاوز سلبيات التأويل التي سعت إلى التقليل من حظوة هذا المنجز الريادي، وسعت إلى تصحيح تلك الصورة الشائعة التي كشفت قدر القصور التي يعتري ممارسة بعض الجماعات العلمية التي أرادت القطع مع منجزات الفعل الممارس للتسامح، ولهذا نجد أن التدليل عليه بشواهد ونصوص مستقاة من إبداع وممارسة فلاسفة مسلمين مثل: الكندي185-256ه/ 805- 873م وابن رشد 520-595ه/1126-1198م، كفيل بإبراز قوة المظهر الذي اتخذه التسامح كممارسة منفتحة على الغير، إذ جعل أبو يعقوب بن إسحاق الكندي من الغير وتراثه الأقدم لحظة اعتبارية محتفى بها، تُستجلب بتقريب مُرحب به، وباستزادة تعرّف عليه "ومن أوجب الحق ألا نذم أحدا من كان أحد أسباب منافعنا الصغار الهزلية، فكيف بالذين هم أكثر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجِدية. فإنهم وإن قصّروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنسابا وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم، التي صارت لنا سُبلا وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصّروا من نيل حقيقته"[3]، تُجليها علياءُ قيم رفيعة جمعت بين الاعتراف والشكر والثناء على أعمالهم من ملمح اتخذ من شُرُفات الحوار سبيلا في التعرف على آثار المجتمعات الإنسانية، باعتباره "تتابعَ أجيال واستمرار مؤكد بين ثقافات مختلفة"[4]، ما كان للكندي أن يكون متاحا لديه إلا بتملك هذا التمرين الفكري الهائل المنفتح على الخبرات العلمية، وهو من حذاق الترجمة[5] التي أقامها على سِعة التمييز[6] والفرز وتملك ناصية الأفكار، التي كلما تقوّت بكثرة التتبع النقدي لمعارف المتقدمين إلا وازدانت فيها أخلاقيات البحث العلمي بتوجيه الشكر لهم "فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلا عمن أتى بكثير من الحق: إذ أشركونا في ثمار تفكيرهم، وسهلوا لنا المطالب الخفية الحقية، بما أفادونا من المقدمات المسهلة لنا سُبل الحق. فإنهم لو لم يكونوا لم يجتمع لنا من شدة البحث في مددنا كلها هذه الأوائلُ الحقية، التي بها خرجنا إلى الأواخر من مطلوباتنا الحقية. فإن ذلك إنما اجتمع في الأعصار السالفة المتقادمة عصرا بعد عصر إلى زماننا هذا مع شدة البحث ولزوم الدأب، وإيثار التعب في ذلك"[7]. ذلك أن فِعل هذه الانفتاحية على خبراتهم سهّل مسالك الولوج إليهم، وعزّز موارد التراكم العلمي لأزمنة التعدد التي يصعب تحصيلها في الزمن الواحد[8]، وهو ما يُكسب فعل التواصل بين الأجيال أقوى معاني الإتمام والإكمال، التي "يحسُن بنا، إذ كنا حرّاصا على تتميم نوعنا -إذ الحق في ذلك- أن نلزمَ في ذلك عاداتنا في جميع موضوعاتنا من إحضار ما قال القدماء في ذلك قولا تاما على أقصد سُبله وأسهلها سلوكا على أبناء هذه السبيل، وتتميم ما لم يقولوا فيه قولا تاما على مجرى عادة اللسان وسنة الزمان، وبقدر طاقتنا، مع العلة العارضة لنا في ذلك من الانحصار عن الاتساع في القول المحلِّل لعقد العويص الملتبسة، توَقياً سوءَ تأويل كثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق"[9]، وهو الذي يعكس ضمنيا سؤال المعنى من قصدية اللقاء مع معارف المتقدمين وما يستتبعه من إمكانات إتمامية تتأكد بزوائد إيجابية؛ ذلك "أن الفكرة الفلسفية عندما تنتقل إلى بيئة حضارية ثقافية أخرى وتدخل في نظام فكري جديد تتغير من وجوه شتى، وهي في هذه الحال ليست ملكا لأهلها الأولين، بل ملكا لأصحابها الجدد الذين اتخذوا منها نقطة بداية لنزعات جديدة تناسب روحهم وجملة تفكيرهم الفلسفي"[10]، وفق شروط إنصافية عالية التمرس، حيث "ينبغي ألا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس يُبخسُ الحق، ولا يَصْغرُ بقائله، ولا بالآتي به، ولا أحد بخس الحقّ؛ بل كلٌّ يشرفه الحق"[11]. وقد كان ابن رشد الحفيد غير مستثنى من هذا الاحتفاء بقيمة التسامح باستعانة المتأخر بالمتقدم، باعتباره شرطا في اكتمال المعرفة[12]، التي تلتمس أفقا منفتحا على الغير بكونه معلما لنا "وإن كان غيرنا قد فحص ذلك فبيّن أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة... وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل الإسلام"[13]، وهي ميزة اتصالية راقية لتفكير نقدي عرف في طرائق نَظر القدماء "أتمَّ فحْص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس صوابا نبَّهنا عليه"[14]، ولذلك لا مندوحة من أن اصطفاف ابن رشد العلمي على آثار المتقدمين جاء قويا في مبناه، الجدير بالإشادة بما ضمّنه من تلقي واعتراف وإشادة دون استباقات عدائية تحيُّزية "فقد يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نَظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبَّهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم"[15]، وذلك وفق رؤية تصحيحية ناقدة تؤكد "أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا عليه الشرع"[16].

يتبين من درس التسامح في السياقات الإسلامية أنه كان يتمتع بوضع ريادي لمَعْلمٍ إنساني متقدم، خَبِر مبدعوه مكنة الاستقبال الأريحي للغير ومقام التضايف معه واللقاء به وفق تقاليد حوارية مع تراث تقاليد المتقدمين، واستوفوها بحثا وجاوروها إِلفَ مصاحبةٍ وشغفَ سالكٍ، وقاموا بمضاهاتها إلى ممكنات عالية الاشتغال؛ وذلك بعدما خبروا مواردها المعرفية وتضميناتها المنفتحة على التعدد، حيث كان لأثر هذا المنظور العلمي أن قرَّب جدل الاشتغال النافر ما بين الحكمة والشريعة، وأنزلوها منزلة اشتغال فائق، حيث لم تقف حدود آثارها في البيئة الحضارية الإسلامية، بل تجاوز مفعولها ليستقر في أراضي الغرب المسيحي وحضارات الجوار، كما أن مَعْلم التسامح كان فرصة مواتية لدحض أطروحة إرنست رينان واستيلاءاتها الاستحواذية على متلقيها الجدد، وذلك عندما سعت إلى إفراغ فلسفة عباقرة الإسلام من أية خصوصية استثنائية فارقة[17]؛ بل كان أثر ثِقلِ الأفكار وحراكها الممتد وفِعل شواغلها السمحة فرصة سانحة لجعل هذا المنسوب المتدفق فائقا لامتلاك شروط الإبانة عن جاذبية ثقافة التسامح وتوطناتها الثَّرَّة، التي أضحت تتجدد موارد العودة إليها، وتستعاد بشواغل استفهامية كبيرة وفي كراسي بحثية تُنتعش فيها موارد الإحيائية La revivication العائدة إلى تراث الحضارة العربية الإسلامية، باعتباره وصال أزمنة تتضايف فيها موارد الأفكار والتصورات وإنشاءات المعنى الجديد: بالاستعادة والإبراز والاكتشاف والنقد، وباصطفافات ومقامات حوارية مع من أبدعوا وأجادوا وسلكوا، وكانوا لنا أنوارا في أزمنة متقدمة، ما زالت تتقدم إلينا بكثافة وتسائل إمكاننا المعرفي وتستحثه على سِعات البذل ومباهج اللقاء.

[1]- محمد بنعياد أستاذ زائر بكلية علوم التربية جامعة محمد الخامس الرباط، باحث مهتم بالحوار بين الأديان والدراسات الدينية المقارنة والفلسفة، حاصل على الدكتوراه من جامعة محمد الخامس في موضوع "الحوار بين الأديان من جدل التصادم والاختراق إلى آفاق التحيين والاستمرار" 2010، نشر أبحاث ومقالات في مجلات وصحف عربية.

[2] "كانت المواجهة في مستوى الرسالة التي تريد أن تواجه التحدي بالحوار الهادئ والعميق، الذي لا يريد أن يفحم خصومه أو يسكتهم، بل يحاول أن قنعهم بصدقه وبما يؤمن به ويحطم عنادهم بالصدمات الفكرية القوية ليبدؤوا التفكير من نقطة الحياد لا من قاعدة المشاعر العدائية للعقيدة" محمد حسين فضل الله: الحوار في القرآن، قواعده، أساليبه، معطياته، دار التراث العربي، بيروت، لبنان، ط6، 1998، ص: 51

[3] أبو يوسف بن إسحق الكندي: كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تحقيق: أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، مصر، ط1، 1367-1948، ص: 79

[4] علي بن مخلوف: لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟، ترجمة أنور مغيث، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 2018، ص: 13

[5] موفق الدين بن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، بدون طبعة وتاريخ، ص: 286

[6] "ذلك أن المفكرين الإسلاميين لم ينقلوا عن غيرهم نقلا، بل كانت بين أيديهم مادة دينية غزيرة مصدرها الإسلام، وهم تعلموا آراء غيرهم وتمثلوها على نحو خاص، واستعملوها في إنشاء وجهة نظرهم التي يتميزون بها، ووضعوها في صورة جديدة، وأدخلوها في نظام جديد، ووجهات جديدة، وفصلوها وأكملوها بحسب أصول حياتهم الروحية والعقلية، وبحسب ما تكون في البيئة العقلية الإسلامية من أنواع الاهتمام، وما أدت إليه من مشكلات وحلول لها"، محمد عبد الهادي أبو ريدة: الكندي وفلسفته، مطبعة الاعتماد، مصر، ص: 36

[7] أبو يوسف بن إسحق الكندي: كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، ص: 80

[8] نفس المصدر: 80

[9] نفس المصدر: 81

[10] محمد عبد الهادي أبو ريدة: الكندي وفلسفته، مطبعة الاعتماد، مصر، بدون طبعة، 1369-1950، ص: 37

[11] مصدر سابق: ص: 81

[12] أبو الوليد بن رشد: فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، دراسة وتحقيق: محمد عابد الجابري، سلسلة التراث الفلسفي العربي مؤلفات ابن رشد (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط1، نونبر 1997، ص: 90

[13] نفس المصدر: ص: 91

[14] نفس المصدر: ص: 91

[15] نفس المصدر: ص: 93

[16] نفس المصدر: ص: 93

[17] إرنست رينان: ابن رشد والرشدية، ترجمة: عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، مصر، بدون طبعة، 1957، ص: 23 - 57