وسائل الإعلام في الدِّراسات الإسلاميَّة ودراسات المناطق اللِّقاءات الشَّخصيَّة


فئة :  ترجمات

وسائل الإعلام في الدِّراسات الإسلاميَّة ودراسات المناطق اللِّقاءات الشَّخصيَّة

وسائل الإعلام في الدِّراسات الإسلاميَّة ودراسات المناطق اللِّقاءات الشَّخصيَّة

ديل أيكلمان[1]

ترجمة: هاجر كنبع

مراجعة: اضريوي بوزكري

«ثمَّة عقود لا تشهد أيَّ أحداث، ولكن ثمَّة أسابيع تعرف أحداثَ عقود»

منسوب إلى فلاديمير لينين (v. i. lenin)

 

تعمل وسائل الإعلام والاتِّصالات الجديدة على تغيير معنى الانتساب إلى الأُمَّة الإسلاميَّة قاطبةً من جهة، وتغيير مفهوم الوطن من جهة أُخرى. يُعدُّ «الرَّبيع العربيُّ» عامَ 2011 تجلِّياً مرئيَّاً ودراميَّاً عن التَّغيُّرات الفكريَّة لدى الفرد والمجتمع، وهي تحوُّلات ظلَّت جاريةً لِمَا يربو عن عقدين من الزَّمن. وكما وقع في التَّحوُّلات الكبرى؛ فإنَّ التَّأثير التّراكميَّ لتقلُّبات دور وسائل الإعلام في المجتمع يبدو جليَّاً عبر تذكُّر تأمُّل الماضي أكثر مِمَّا كان عليه في بداية الأمر.

يُعدُّ مصطلح «الرَّبيع العربيِّ» مُماثلةً مُستعارةً مباشرة من سابقتها لعام 1968. لقد بدأ «ربيع براغ» في كانون الثاني/يناير من ذلك العام، ثمَّ سحقَه الاحتلال العسكريُّ السُّوفييتيُّ في آب/أغسطس. وأمَّا «الرَّبيع العربيُّ» الَّذي جاء لاحقاً بعد أكثر من 40 سنة؛ فمن الممكن أن يكون عرضةً للانقلاب أيضاً -على الأقلِّ في بعض البلدان وعلى المدى القصير- ومع ذلك؛ يجب أخذ هذه المماثلة «مأخذ الجدِّ» (bon à penser) كما يقول «كلود ليفي ستروس». وهذا ما يُشير إلى وجود تشابهٍ عائليٍّ يمتدُّ عبر حقب تاريخيَّة، ويؤكِّد من جديد أهمِّيَّة الأخذ بعين الاعتبار الدَّور السَّريع التَّحوُّل لوسائل الإعلام الجديدة وتداعياتها بالنِّسبة للدِّين وللأُمَّة.

يحدث «الرَّبيع العربيُّ» في سياق عوامل رئيسة مُتعدِّدة. فبالنِّسبة إلى الشَّرق الأوسط العربيِّ وشمال إفريقيا؛ هناك 60 في المئة من السَّاكنة تحت سنِّ الثَّلاثين. وعلى الرَّغم من انخفاض معدَّلات الولادة منذ عام 2000؛ فإنَّ نسبة مَن تقلُّ أعمارهم عن سِنِّ الثَّلاثين من ساكنة المنطقة ستظلُّ مرتفعةً لمدَّة عقدٍ آخَر على الأقلِّ (silatech 2009: 13). أمَّا هذه السَّاكنة، فهي إمَّا بدون عمل، أو شبه عاطلة عن العمل. ثمَّ إنَّ الهجرة لم تَعُدْ صمَّام الأمان كما كانت في فترة سابقة. وأمَّا الدُّول الغنيَّة بالموارد الطَّبيعيَّة؛ فلا تزال فرص التَّشغيل البنَّاء غير متوفِّرة بالقدر الكافي لديها. ثانياً: أضحت هذه المنطقة بساكنة مُتعلِّمة على نحوٍ أحسن بكثير. وذلك لأنَّه منذ منتصف القرن العشرين؛ عرف الالتحاق بالتَّعليم الثَّانويِّ وما بعد الثَّانويِّ تزايداً مُطرِداً ومُنتظَماً في جميع أنحاء المنطقة؛ مَا أتاح التَّعليم العالي الشَّامل لأعداد غفيرة أن تجادل أمام الملأ على النُّخبة السِّياسيَّة، أو على الأقلِّ أن تتصوَّر وتُعبِّر عن واقعٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ بديل (eickelman 1992). وأمَّا العامل الثَّالث، فيتعلَّق بإمكانيَّة الولوج الفائق إلى وسائل الإعلام الجديدة، واليوم؛ فقد انتشر استعمال الهواتف النَّقَّالة والحاسوب انتشاراً واسعاً، كما تضاعفت بين النَّاس وسائل وطرق إنشاء شبكات الانتماء، ناهيك عن أنَّ وسائل الإعلام الجديدة لا تعكس الواقع فقط، بل أصبحت تُمثِّل ما سمَّاه مانويل كاستلز (1996) بشكل لافت: «الافتراضيَّة الواقعيَّة»، حيث أضحت الصُّور الرَّقميَّة هي التَّجربة في حدِّ ذاتها، وليست مجرَّد قناة لنقل وإبراز الحقيقة.

البُعد الشَّخصيُّ:

لقد بدأت تجاربي الشَّخصيَّة المباشرة مع وسائل الإعلام في الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا عامَ 1966 مع أوَّل زيارة لي للمنطقة. في ذلك الصَّيف؛ خيَّمَ سكونٌ شبه كُلِّيٍّ على القاهرة لمَّا غنَّت أمُّ كلثوم في التَّلفزيون الرَّسميِّ، ثمَّ تلاها خطابٌ ألقاه جمال عبد النَّاصر. ومرَّةً أُخرى في القاهرة عام 1966 في روكسي؛ الحيِّ المختلط بالأقباط والمسلمين، كانت سينما الهواء الطَّلق المسائيَّة في ساحة فارغة تمريناً جيِّداً بالنِّسبة إلى لغتي العربيَّة. كانت قلَّة من النَّاس تمتلك أجهزة التِّلفزيون، لكن كانت السِّينما تُقدِّم في معظم الأمسيات أفلاماً مصريَّة قديمة بالأسود والأبيض، وحيث كان يُمحَى أيُّ طربوش في الفيلم بحِبر الرَّقيب؛ كانت وتيرة الحوار السَّريعة صعبةً جدَّاً بالنِّسبة إليَّ، لكن كان هناك مُصوِّر بجانبي، وهو لاجئ من بورسعيد، فقدَّم لي ترجمة أساسيَّة إضافيَّة استطعت فهمَها. وكان أفراد شباب مِن الجمهور لهم دراية بالفيلم، يَردُّون عليه بوقاحة. لكنَّ التِّلفزيون في البيوت الخاصَّة والمقاهي حلَّ منذ زمن طويل محلَّ السِّينما المرتجلة والطَّارئة بالحيِّ أو القرية.

وفي أيلول/سبتمبر عام 1968 كذلك؛ كان من عادة قرويِّي منطقة أفاق الجنوب العراقيِّ أن يجلسوا في مقهى وقتَ الظَّهيرة ليُنصتوا إلى شيخٍ مُتعلِّم يقرأ لهم من الصَّحيفة اليوميَّة. وأمَّا في المغرب أوائل عام 1969، فكان يسألني بعض البدو بين الحين والآخَر ترجمة لغة «الرَّاديو» لنشرة الأخبار الرَّئيسة لمنتصف النَّهار مِن العربيَّة الفصحى إلى الدَّارِجة العامِّيَّة. تنتمي هذه المشاهد المحصورة زمنيَّاً إلى الماضي، أمَّا اليوم؛ فقد حلَّت محلَّها هواتف محمولة متواجدة في كلِّ مكانٍ تقريباً، وقنوات فضائيَّة واسعة الانتشار، إلى جانب سهولة فائقة للسَّفر في أغلب الحالات، أو على الأقلِّ ربط علاقات وتواصل خارج الحدود مع الأصدقاء والعائلة.

منذ أواخر أربعينيات القرن المُنصرم؛ تمَّ تدريجيَّاً التَّخلِّي عن نموذج الدِّراسات الشَّرقيَّة القديمة المستندة أساساً على النُّصوص؛ لتحلَّ محلَّه بنية مفتوحة تعتمد على النَّصِّ والسِّياق في الدِّراسات الإسلاميَّة والجهويَّة (eickelman and others 2011). يطمح العديد من الدَّارسين المهتمِّين بدراسات المنطقة إلى تحقيق قدراتهم؛ باعتبارها مُكمِّلة للمجالات الأكاديميَّة الأساسيَّة بما فيها التَّاريخ والأنثروبولوجيا والسُّوسيولوجيا والحقل النَّاشئ للدِّراسات الإعلاميَّة. وباعتباري عضواً في لجنة انتقاءِ مُكلَّفة بتقديم مقترحات الزَّمالة لدى مؤسَّسة كُبرى في أوائل الثَّمانينيات؛ أذكر أنَّ حكَّام العلوم الاجتماعيَّة من بعض الجامعات الأمريكيَّة برَّروا نقصَ المعرفة بلغات الشَّرق الأوسط لدى مُرشَّحهم باعتبارها لغات غير مجدية. فَمِن وجهة نظرهم؛ كانت اللُّغات وحتَّى التَّاريخ تُعتبر مُجرَّد أداة يمكن اكتسابها إبَّان الالتحاق بالدِّراسة الميدانيَّة.

وعلى الرَّغم من أنَّ هذه الحجَّة لم تطرح اليوم بعبارات صارمة على حدٍّ سواء؛ فإنَّ هذا الموقف لم يختفِ بتاتاً. ومع ذلك؛ نجد أنَّ بعض الحقول الأكاديميَّة تعرف تقارباً أكثر اتِّساعاً بين التَّخصُّصات القائمة ودراسات المناطق. يُظهِر المؤتمر المنعقد في برلين، حيث قدَّمْتُ نسخة سابقة لهذا المقال عام 2010[2]، فوائدَ ملء «الفجوة الكبيرة» بين العلوم الاجتماعيَّة والدِّراسات الإسلاميَّة. وإنَّه لَمِن الصَّعب تخيُّل ما ستبدو عليه دراسة الخطاب الإسلاميِّ المعاصِر أو أهمِّيَّة اللُّغة دونَ أيِّ اكتراثٍ باللُّغة والسِّياقات الاجتماعيَّة-التَّاريخيَّة.

كانت «الحِقَب السَّابقة» لكُلِّيَّتَي الدِّراسات «الشَّرقيَّة» ودراسات «المناطق» أكثرَ مراعاةً للزَّمن والسِّياق مِمَّا تخوِّله لهما الدَّعوات المعاصرة. في السِّياق الأمريكيِّ؛ أدَّى تمويل مؤسَّسة فورد (ford foundation) إلى إنشاء «برنامج زمالة المناطق الأجنبيَّة» (foreign area fellowship program) (1950-1966)، والَّذي تتمُّ إدارته بشكل مُشترك من قِبَل مجلس بحوث العلوم الاجتماعيَّة (ssrc) والمجلس الأمريكيِّ للمجتمعات المتعلِّمة (acls). وفي عام 1957؛ أُلحِق بالمبادرة الخاصَّة للمجلس الأمريكيِّ للمجتمعات المتعلِّمة وبرنامج زمالة المناطق الأجنبيَّة قانون التَّعليم للدِّفاع الوطنيِّ الأمريكيِّ (u.s. national defense education act) تحت مُسمَّى «العنوان السَّادس» (title vi)، والَّذي كان مُخصَّصاً لدراسات المناطق الدُّوليَّة، حيث ظلَّ نشطاً وفعَّالاً رغم تقليص التَّمويل.

كانت مبادرة برنامج زمالة المنطقة الأجنبيَّة في إعادة تشكيل التَّعليم الدُّوليِّ في خمسينيات القرن الماضي، لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن مبادرة مؤسَّسة «ماك آرثر» (mac arthur foundation) عام 1984لإعادة تشكيل الدِّراسات الدُّوليَّة الخاصَّة بالسَّلام والأمن؛ مع إعادة ترتيب مشابهة للحقول الأكاديميَّة والسِّياسيَّة. وفي أواخر الثَّمانينيات؛ أخبرني مدير مؤسَّسة ماك آرثر أنَّ المؤسَّسة رصدَت ميزانيَّة لإعادة تشكيل الدِّراسات الأمنيَّة في الولايات المتَّحدة أضخم مِمَّا خصَّصته كلُّ البرامج الحكوميَّة الخاصَّة جميعها. وعلى العموم؛ كانت نتيجة هذه المبادرة أنَّ التَّحوُّلات الدِّيمغرافيَّة وتغيُّر المناخ والأوبئة وتكنولوجيا النَّانو، وحتَّى مجال تخصُّصي العلميِّ -الَّذي يعتبر في الدَّوائر السِّياسيَّة أنَّه مجال «اللُّغة والثَّقافة» (eickelman 2009)- أنَّ كلَّ تلك العوامل بدأت تُفهَم على أنَّها مكوِّنات ضروريَّة تأخذ بعين الاعتبار القضايا الأمنيَّة.

ثمَّة كمِّيَّة من الدِّيناميَّات الجديدة للدِّراسات الإقليميَّة برزت من خارج أوربا وأمريكا الشَّماليَّة. وهكذا في أواخر الثَّمانينيات؛ انطلقت في اليابان برامج متتالية ومشتركة بين الجامعات؛ اهتمَّت بالدِّراسات الإسلاميَّة ودراسات المناطق، وأعطت دفعة قويَّة لدراسة الأقاليم؛ سواءٌ في البلد أو خارجه، حيث شكَّل هذا التَّعاون بين الجامعات اليابانيَّة في الإنسانيَّات والعلوم الاجتماعيَّة نموذجاً يُحتذى في التَّعاون والتَّشارك بين الجامعات. وقد أظهرت مبادرات أُخرى مثل معهد دراسة الإسلام في العالم الحديث (isim, 1998-2008 institute for the study of islam in the modern world ) في ليدن (leiden) مكامن القوَّة والضَّعف في ضمِّ اللُّغة ودراسات المناطق إلى التَّخصُّصات الجامعيَّة؛ لكن هذه المبادرة لم تدم إلَّا عقداً واحداً فقط. تأسَّست «مدرسة برلين العليا لدراسات الثَّقافات والمجتمعات الإسلاميَّة» (the berlin graduate school muslim cultures and societies) (www.bgsmcs.fu-berlin.de) سنة 2007، وشرعت في العمل سنة 2008، وقد اجتذبت العديد من الجامعات ومؤسَّسات الأبحاث الرَّائدة في منطقة برلين، وأحدثت منهجاً دراسيَّاً مُندمجاً مع دراسات المناطق. وفي الطَّرف الآخَر من هذه السِّلسة المتواصلة؛ كان هناك المجلس الأمريكيُّ لأبحاث العلوم الاجتماعيَّة (u.s. social science research council). ولكن بُعيد نهاية الحرب الباردة عام 1991؛ ألغى المجلس اللِّجان التَّابعة له؛ والمختصَّة بدراسات المناطق منذ أمدٍ طويل. وقد عكس حلُّ هذه اللِّجان، على الأقلِّ في المدى القصير، انتصار مُنظِّري «الخيار العقلانيِّ» (rational choice theory) في الدِّراسات الدُّوليَّة. وتماماً على منوال نظريَّة الحداثة المبكرة في منتصف القرن العشرين؛ فإنَّ نظريَّة الخيار العقلانيِّ -بطابعها: قياس واحد يناسب الكلَّ- بدت اعتياديَّاً ملائمة لتوضيح المعرفة الضَّروريَّة حول التَّطوُّرات الدُّوليَّة بدون أيَّة إشارة مهمَّة إلى اللُّغة والثَّقافة (eickelman 2000). تفترض نظريَّة «الخيار العقلانيِّ»، السَّائدة في العلوم الاقتصاديَّة، أنَّ الأفراد يستعملون الوسيلة الأكثر نجاعةً من حيث التَّكلفة لتحقيق هدفٍ ما بصرف النَّظر عن جدواه. لذا؛ فإنَّ أيَّة دراسة للقيم الثَّقافيَّة أو المفاهيم التَّاريخيَّة ليست ذات أهمِّيَّة. وكما قال أحد منظِّري الخيار العقلانيِّ (cited in cumings 1997 )، وهو استشهاد مشهور آنذاك: «ما الجدوى من معرفة اللُّغة اليابانيَّة أو أيِّ شيء حول تاريخ وثقافة اليابان إذا كانت مناهج الخيار العقلانيِّ ستُفسِّر مغزى مزاولة السَّاسة والبيروقراطيِّين اليابانيِّين أعمالَهم؟».

التَّنشئة الاجتماعيَّة في المجالات الأكاديميَّة:

إنَّ فئة قليلة مِنَّا تستمدُّ اتجاهاتها من خلال النَّظر إلى تخصُّص أو مجالٍ دراسيٍّ إبَّان تطوُّره بشكلٍ خطِّيٍّ مع مرور الوقت. فضلاً عن ذلك؛ فإنَّ كلَّ مجموعة من الباحثين وطلَّاب الدِّراسات العليا تنهل نماذجها من خلال المحاضرات التَّمهيديَّة الَّتي يُقدِّمها الأساتذة المشرفون إلى الطُلَّاب الجُدُد (ortner 1984). لقد اكتسبتُ اتَّجاهاتي الأولى في الأنثروبولوجيا من أستاذٍ جامعيٍّ -أركيولوجيٍّ جيِّد جدَّاً- استعمل عام 1962 ملاحظات محاضرته عام 1946 من دورة دراسيَّة عليا في جامعة هارفرد حول «التَّغيُّر الثَّقافيِّ» لتدريس مُقرَّر في جامعة دارتموث تحت العنوان نفسه (eickelman 2010). وكان عمل مالينوفسكي 'ديناميَّات التَّغيُّر الثَّقافيِّ'، والَّذي نُشِرَ بعد وفاته، هو القراءة الأساسيَّة في ذلك المقرَّر الدِّراسيِّ (malinowski 1945). ولاحقاً في سنتي الأولى من الدِّراسات العليا في الأنثروبولوجيا بجامعة شيكاغو موسم 1966-1967؛ أصدر «كليفورد جيرتز» للمرَّة الثَّانية وببراعة مُقدِّمته الخاصَّة بهذا التَّخصُّص، كما تمَّ عرضها مِن لدن برنامج العلاقات الاجتماعيَّة لجامعة هارفرد عام 1950 (eickelman 2005: 63-64).

لقد أصبحتُ مُهتمَّاً اهتماماً شخصيَّاً بدراسة وسائل الإعلام قبل أن يبدأ هذا الحقل في تأكيد نفسه كتخصُّص قائم بذاته. لم يظهر أيُّ أثر للاهتمام بالإعلام؛ سواءٌ في تكويني في دراسة النُّصوص الإسلاميَّة بجامعة ماكْجيل بكندا، أو لاحقاً في دراستي العليا للأنثروبولوجيا بجامعة شيكاغو. وفي عام 1966 نصحني أحدُ أعضاء هيئة التَّدريس بأنَّ معرفتي باللُّغة العربيَّة المكتوبة والرَّسميَّة تُعدُّ «عائقاً»؛ نظراً لأنَّ الأساتذة والمثقَّفين، كغيرهم، سيعطونني صورة مشوَّهة عن الثَّقافة «الحقيقيَّة»، خلافاً للعرب الَّذين لا يتكلَّمون إلَّا لهجتهم المحلِّيَّة فقط.

وبعيداً عن العمل الأكاديميِّ؛ كانت لديَّ تجربة فعليَّة مع الإعلام، فقد عملت ما بين عامَي 1960 و1961 بشكل مُحترف في الإذاعة، في محطَّة أي.إم (am) («amplitude modulation» تعديل سعة الموجة) المرخَّصة للبثِّ من الشُّروق إلى الغروب فقط، حيث كنت أتحمَّل مسؤوليَّة بثِّ كلِّ شيءٍ ليوم واحد في الأسبوع. وكانت ساعات عملي تتغيَّر بالطَّبع حسب فصول السَّنة. ولقد كانت الشُّرطة المحلِّيَّة تعرفني لأنَّني أتَّصِل بأفرادها بانتظام للحصول على الأخبار المحلِّيَّة، كما حصلت على ترخيص لعامل راديو من الدَّرجة الثَّالثة من هيئة الاتِّصالات الفيدراليَّة كي يتسنَّى لي أن أمارس هندسة البرامج ولو من النَّاحية النَّظريَّة، كما يتطلَّب هذا التَّرخيص أيضاً القدرة على إرسال واستقبال «شفرة مورس» (morse code) بمعدَّل 15 كلمة في الدَّقيقة، وهي مهارة قيِّمة منحتني خبرة عمليَّة عن عادات التَّواصل لحقبة سابقة؛ حيث كان محتوى الرَّسائل يوجز عادةً إلى الحدِّ الأدنى الضَّروريِّ عند الإرسال، لكنَّه يعرض بتفصيل عند الاستلام. وأمَّا الأخبار؛ فكانت تأتي على شكل برقيَّة بمعدَّل 60 كلمة في الدَّقيقة، وعندما يحدث عطب في الكابلات أو المعدَّات، أو تشويش في التِّلِكس؛ كان عليَّ أن أعرف كيف أحافظ على كلِّ شيء ليعملَ بأحسن حال؛ إلى أن نوقِفَ البثَّ عند الغروب.

عندما ذهبتُ في أوَّل زيارة إلى ما وراء البحار، إلى أديس أبابا في صيف عام 1961، استطعت فهم الإعداد التِّقنيِّ ما قبل الرَّقميِّ في محطَّة الإذاعة الوطنيَّة الَّتي زرتها نهاراً مع طالبٍ إثيوبيٍّ صديق. وعندما عدنا بعد حلول الظَّلام إلى المحطَّة لنستعير بعض تسجيلات موسيقى الرَّقص من أجل حفلة في الجامعة؛ تمَّت مطاردتنا تحت تهديد السِّلاح. كان أن وقعَتْ سابقاً محاولة انقلابيَّة فاشلة في كانون الأول/ديسمبر عام 1960، لذا أصبحَت مراقبةُ الإذاعة قضيَّة حسَّاسة. وعند عودتي إلى دارتموث عام 1961؛ كانت إحدى الدَّورات الدِّراسيَّة المفضَّلة لديَّ هي «الدِّعاية»، الَّتي كانت تُدرَّس مِن قِبَل أكاديميٍّ كان قد عمل لدى مكتب الولايات المتَّحدة للاستعلامات الحربيَّة خلال الحرب العالميَّة الثَّانية. لم تُعلِّمني تلك الدَّورة كيفيَّة إعداد وتنقيح المعلومة الصَّحفيَّة فقط، بل علَّمتني أيضاً كيفيَّة تقييم حدود المراوغة والتَّضليل في «المعلومة».

وبحلول عام 1968، عندما انطلقتُ نحو بغداد -كنت أعتزم القيام بأبحاث ميدانيَّة في النَّجف- كان مقياسي اليوميِّ للمناخ السِّياسيِّ هو السَّير بجانب محطَّة الإذاعة في حيِّ كرَّادة مريم الرَّاقي، وهو ما يُعرف الآن بالمنطقة الخضراء. هل كان الحرَّاس هناك ينتمون إلى خدمتين عسكريَّتين اثنتين فقط، أم أكثر؟ هل كانت بنادقهم وأسلحتهم الرَّشَّاشة مذخَّرة أم لا؟ في ذلك الوقت؛ كان الجنود العراقيُّون عادةً لا يُمنحون الذَّخيرة داخل منطقة العاصمة.

وفي سلطنة عُمَان عام 1979؛ كان مجمَّع وزارة الإعلام واحداً من أكثر المجمَّعات أمناً في البلاد. وفي أحد الأيَّام؛ دعاني متمرِّد ظفاريٌّ سابق، كان آنذاك مديراً للإعلام -كنت أدعوه بالرَّئيس الرَّقيب في ملاحظاتي الميدانيَّة- إلى اللِّقاء اليوميِّ الخاصِّ برقابة وسائل الإعلام المطبوعة. كانت الأخبار المحلِّيَّة في عُمَان دائماً تتأخَّر بيوم واحد. وكان جلُّ العاملين صحفيِّين مصريِّين وبدواً غير مرتاحين؛ لأنَّ رئيسهم سمح بدون أيِّ توضيح لشخصٍ أمريكيٍّ بالانضمام إلى اجتماعهم. لقد كانوا بالفعل على عِلم بدور الظِّلِّ لمستشار بريطانيٍّ كان يُدير الإعلام في البلاد (see groueff 2003: 618-23). وقد اطَّلعتُ على الأقلِّ في ذلك اليوم على الملخَّص الدَّاخليِّ الحكوميِّ المتعلِّق بما كان يجري يومها، وما نتج عنه من أخبار مناسبة للطِّباعة.

وبحلول التِّسعينيات؛ شرعتُ في تقديم ورقات عن وسائل الإعلام الجديدة في الشَّرق الأوسط، بما في ذلك التَّعليم العالي الشَّامل والمخيال الدِّينيُّ (eickelman 1992)، وهناك مقالات أُخرى غيرها (see eickelman 1999). وثمَّة أعمال أُخرى شاركتُ في تأليفها مع بعض الزُّملاء. وقد استرعى بعض من هذا العمل اهتمام مؤسَّسة روكفلر. ثمَّ في أوائل عام 1994؛ اتَّصل بي واحد من المسؤولين الكبار بالمؤسَّسة يسألني حول اهتماماتي آنذاك، كما سُئِلت كذلك عن كيفيَّة تسريع عملي. وكان اقتراحي هو ورشة عمل على منوال «سفينة نوح»؛ أي: ورشة ستجمع مزيجاً من الشَّخصيَّات الدِّينيَّة المُستعدَّة للحديث والحوار وفقاً «لقواعد بيت شاتام» (chatham rules)، إضافة إلى موظَّفي الرَّقابة ونشطاء حقوق الإنسان والأكاديميِّين لمناقشة إمكانيَّات وحدود التَّعبير ونشر الأفكار في البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة. في ذلك الوقت؛ كانت آلات النَّسخ وأجهزة الفاكس والأشرطة الصَّوتيَّة أحسن تكنولوجيا مُتاحة. أمَّا البريد الإلكترونيُّ وقوائم البريد الإلكترونيِّ؛ فكانت ما تزال في إرهاصاتها الأولى، وكذلك لم ينطلق بثُّ قناة الجزيرة إلَّا في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1996.

لقد كنت في البداية حذراً من عرض التَّمويل السَّريع لمؤسَّسة روكفلر من أجل عقد مؤتمر في مركز لديهم ببلاجو (bellagio). ولتخفيف احترازي؛ أطلعوني على ملاحظات توثِّق لاجتماع ذي مستوىً عالٍ لأشخاص مُهمِّين من عدَّة مؤسَّسات دوليَّة؛ كان قد عُقِد بعد مجزرة ساحة تيانمن (tianmen) في حزيران/يونيو عام 1989. كان الهدف المبدئيُّ من الاجتماع يتعلَّق بما يمكن القيام به لتعزيز الدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان في الصِّين. وقد أثار أحدهم السُّؤال نفسه حول العالَم ذي الأغلبيَّة المسلمة، فعلَّق العديد من المشاركين بأنَّ الإصلاح البنَّاء في مثل تلك البلدان يظلُّ مُستبعداً، لكنَّ قلَّة من المشاركين عارضوا هذا الرَّأي بشدَّة. كانت إحدى نتائج الاجتماع بداية مشروع لمؤسَّسة روكفلر في عام 1993 -لكن لم أكن على عِلم به- وهو مشروع عمد إلى تقييم الكيفيَّة الَّتي اعتمدتها المتاحف في هذه البلدان لتقديم الماضي والحركات الفنِّيَّة المعاصرة وشبكات العلاقات النِّسائيَّة. أمَّا دوري، كما أظنُّ، فكان تقييم البيئة الإعلاميَّة المتغيِّرة في البلدان الإسلاميَّة وآثارها على السِّياسة والدِّين والمجتمع. لقد كان اقتراح ورشة العمل المنعقدة في آذار/مارس عام 1995 هو أقصر اقتراح كتبته على الإطلاق، كما حصل على أسرع موافقة، وكانت الحصيلة ناجحة إلى حدٍّ معقول (see eickelman and anderson 1997). لقد كنت أحاول دائماً إدراج الطُّلَّاب في المشاريع، فكان هناك طالب من إيطاليا وآخَر من المغرب وثالث من بنغلاديش. وكلُّهم يواصلون الآن مسارهم الأكاديميَّ.

في عام 1996؛ زرت سوريا لمعرفة المزيد حول الطَّبع والنَّشر المرتبط بالمواضيع الدِّينيَّة. ذهبت صحبة سفير سابق وصحفيٍّ من أحد بلدان شبه الجزيرة العربيَّة، وهو حافظ للقرآن وذو مهارات أُخرى، ولقد مكَّنني من إنجاز ما يفوق بكثير ما كان باستطاعتي القيام به لوحدي. وبعد مقابلة مبدئيَّة غير متوقَّعة في منتصف اللَّيل مع رئيس الأمن في حزب البعث العربيِّ الاشتراكيِّ -سمَّاها لاحقاً صديقٌ سوريٌّ بــــ «تطعيمي»- التقيت بمسؤولين آخرين في الحزب، وبزعماء دينيِّين وناشرين ومثقَّفين وشعراء وأصحاب مكتبات، وقد فسَّر هؤلاء الفرق بين توزيع الكتب «فوق» الطَّاولة (توزيع مُرخَّص) وتوزيعها «تحتها» (غير مُرخَّص لكنَّه يقابل بالتَّغاضي).

يُعدُّ تحليل وسائل الإعلام مشروعاً تعاونيَّاً إلى حدٍّ كبير، وهو مشروع لن يكون ممكناً لولا تعاون عدد كبير من الزُّملاء من عدَّة دول. تُنظِّم قناة الجزيرة الآن زيارات منتظمة، لكن في عام 1998، عندما زرت استوديوهاتها لأوَّل مرَّة، كانت الزِّيارات نادرة آنذاك. وبسبب سوء الفهم؛ حصل أن صدر كُتيِّب للدِّعاية للجزيرة في تلك السَّنة، وأُعلن خطأً أنَّني كنت أستخدم برنامج المذيع السُّوريِّ فيصل القاسم «الاتِّجاه المعاكس» كأساس لدورة دراسيَّة مُعتمَّدة في دارتموث. لقد أعطيت «جون بيرنز» من صحيفة نيويورك تايمز فكرة عن مدى أهمِّيَّة التَّنامي الَّذي غدت تعرفه التِّلفزيونات العربيَّة. وبهذا المقال؛ حصل على «سبقه الصَّحفيِّ» في الرَّابع من تموز/يوليو 1999 (burns 1999)؛ أي: يوم عطلة وترفيه لدى الأمريكيِّين لقراءة مقالات مُطوَّلة (كما قال). وقد أوضح لاحقاً: «إنَّنا لا نستعمل الملاحظات الهامشيَّة (footnotes)، لكنَّك الباحث الغربيُّ الوحيد المذكور في المقالة، وهذا تعبيراً عن شكرك». ولفترة مُعيَّنة؛ كانت تلك المقالة بمثابة بطاقة دعوة تمكَّنْتُ من استخدامها للقاء متخصِّصين آخرين مهتمِّين بوسائل الإعلام في الشَّرق الأوسط.

الاتِّجاهات النَّاشئة:

غالباً ما تُقلِّل الكتابة الأكاديميَّة الرَّسميَّة من قيمة عنصر الصُّدفة في كيفيَّة تطوُّر البحوث الدِّراسيَّة. ولا تتاح العديد من الفرص عبر الحسابات فقط، بل عن طريق امتلاك اللُّغات والانضباط والقدرة على العمل مع آخرين، وهي أمور لازمة لفهم المواقف الجديدة أو غير المألوفة؛ بما في ذلك البيئة الإعلاميَّة المتغيِّرة بسرعة. ومع ظهور الويب 2.0؛ أوضح الأنثروبولوجيُّ «مايكل ويش» في أواخر عام 2008[3] أنَّ «الوساطة» تفوق المحتوى؛ إذ تصير جزءاً متاحاً وإلزاميَّاً أكثر من الواقع نفسه، وبذلك تُمكِّن من تشكيل الجماعات ونشر الأفكار بطرق غير متوقَّعة غالباً. لم يكن بوسع أيِّ أحد التَّنبُّؤ بسرعة نموِّ وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ وقدرتها الهائلة على إعادة تشكيل أفكار المجتمع والدِّين والسُّلطة. لقد أظهرت المظاهرات الإيرانيَّة في حزيران/يونيو عام 2009 قوَّة وقدرة الفيسبوك والتويتر على مواجهة سلطة الدَّولة، ولو لفترة وجيزة على الأقلِّ. في المقابل؛ فإنَّ سلطات الدَّولة لا تخلو من المهارات والمصادر لتحديد أو حتَّى منع مَن هُم أكثرُ تشدُّداً في معارضة النِّظام -في إيران في حزيران/يونيو 2009 وفي «الرَّبيع العربيِّ» عام 2011.

في عمل مشترك مع جون أندرسون (eickelman and anderson 1999, 2003)، وأرماندو سلفاتوري (eickelman and salvatore 2004) (salvatore and eickelman 2007)؛ حاولنا أن نولي مزيداً من الاهتمام للبنيات التَّنظيميَّة والتَّواصليَّة المتحوِّلة بسرعة، والَّتي تُمكِّن الأفكار من الانتشار، والحركات من أخذ شكلها ومسارها. والنَّتيجة هي الاهتمام المتزايد بالمُحلِّلين والمؤوِّلين «الجُدُد» إلى جانب وسائل الإعلام والمجال العموميِّ، مع التَّجديد الَّذي يجري في دورات تتزايد بسرعة أكثر فأكثر (anderson 1999). وهكذا صارت الممارسات التَّقليديَّة في أواخر التِّسعينات وأوائل القرن الواحد والعشرين مُجرَّد تقاليد عفا عنها الزَّمن.

إنَّ التَّحوُّلات الأكثر عمقاً في العالم الإسلاميِّ اليوم تنتج عن أفعال المهنيِّين المتخصِّصين والمثقَّفين المُتديِّنين من الطَّبقة الوسطى، وليس لهم أيُّ تدريب في العلوم الدِّينيَّة التَّقليديَّة. فهؤلاء يتحمَّلون مسؤوليَّة تطوير اعتقاداتهم وممارساتهم من أجل عالم حديث، وما بعد الحديث، وهو عالم يُمثِّل تحدِّيا للمسلمين ولغير المسلمين على حدٍّ سواء. نحن على دراية بالأصوليِّين والمتطرِّفين والعلمانيِّين، لكنَّنا أقلُّ معرفةً بالمثقَّفين الَّذين يعيدون النَّظر والتَّفكير في الدِّين خارج الحدود التَّقليديَّة، والقائمين بتنظيم حركات جديدة، وآخرين يؤدُّون بهدوء أدواراً داعمة خلف الكواليس، ومُصلحين آخرين يواجهون التَّحدِّي المؤسَّساتيَّ بغيةَ الخروج إلى العلن.

إنَّ التَّركيز على الأفكار والأشكال التَّنظيميَّة خضع لدراسات جيِّدة. وما يُعرف بشكلٍ أقلَّ هو مدى تأثير مجموعات ملموسة من المهارات والمؤهِّلات الَّتي أضحَت تظهر عند المنتمين إلى الطَّبقات الوسطى المتعلِّمة من المتديِّنين وغير المتديِّنين، ورجال الدِّين وغيرهم، في البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة؛ حيث تُساهم هذه المهارات في دفع الإسلام بشدَّة نحو الاتِّجاه السَّائد (mainstreaming)؛ أي: إنتاج دين مألوف، وبالتَّالي: عاديٍّ وطبيعيٍّ ومقبول بشكل أكبر؛ يُمثِّل في حدِّ ذاته شكلاً من أشكال التَّسامح الاجتماعيِّ والدِّينيِّ.

ثمَّة أربع مجموعات من المهارات الأساسيَّة ترتبط بالتَّيَّار السَّائد. تتكوَّن المجموعة الأولى من مثقَّفين يتولَّون مسؤوليَّة تطوير الأفكار وإقناع جمهور عريض في البلدان؛ حيث يتمُّ بشدَّة ردع الحركات المنظَّمة غير الحكوميَّة. ففي سوريا، على سبيل المثال، سُمِحَ مؤخَّراً للمثقَّفين الَّذين يتصرَّفون من تلقاء أنفسهم، سواء أكانوا متديِّنين أم علمانيِّين، بهامش لا بأس به من الحرِّيَّة في الكتابة؛ شريطةَ أن يتحاشوا انتقاد الحكومة. ويشمل هذا الإجراء مفكِّرين مثل محمَّد شحرور، والعلمانيِّ صادق جلال العظم، والدَّاعية التِّلفزيونيِّ الدِّمشقيِّ سعيد رمضان البوطيِّ؛ الَّذي يتحدَّث اللُّغة الكرديَّة.

وأمَّا المجموعة الثَّانية من المهارات؛ فهي علنيَّة وموجَّهة لتنظيم الجماهير والتَّواصل بفعالية. تعتمد البلدان، سواءٌ كانت ليبراليَّة أم شموليَّة، على مهنيِّي الطَّبقة الوسطى مثلما تفعل الحركات الدِّينيَّة والمدنيَّة النَّاجحة في إندونيسيا والمغرب. تُدار الجهود حول التَّحاور الدِّينيِّ تحت رعاية الدَّولة، مثل مبادرة السُّعوديَّة لعقد مؤتمر حوار بين الأديان؛ الَّذي انعقد عام 2008 في مدريد[4]. ومثل «رسالة عمَّان» للحوار بين الأديان للملك الأردنيِّ عبد الله؛ الدَّاعيَّة إلى الاعتدال سنة 2004. وكلُّها مجهودات تُنظَّم وتُدار من قِبَل مهنيِّي الطَّبقة الوسطى[5]، مثلما هو الحال بالنِّسبة إلى المبادرات غير الحكوميَّة؛ كمبادرات الحوار بين الأديان لأتباع فتح الله غولن في تركيا وأماكن أخرى[6]. إنَّ المنتديات والجمعيَّات الَّتي تُعزِّز الأفكار وتُروِّجها، مثل منتدى الفكر العربيِّ للفلسطينيِّين[7]، تُجسِّد هذا الشَّكل من تنظيم الواجهة. يتقاطع نقاش المجتمع المدنيِّ مع تنظيم إسلامِ الاتَّجاه السَّائد، الَّذي لا يمكن تحديده ببساطة عبر ذلك النِّقاش ما دام أنَّ التَّركيز لا ينصبُّ على أسلوب التَّمدُّن في حدِّ ذاته، أو على الدِّيمقراطيَّة، بل على تجارة الأفكار والممارسات على طريقة مُعيَّنة لتفعيل الإيمان في المجتمع.

هناك مهارة ثالثة ذات صلة تشتغل بهدوء من وراء السِّتار لتعزيز أيِّ اهتمام أو قضيَّة؛ حيث ترتبط أشكال ضعيفة التَّأهيل المدنيِّ بأشكال قويَّة البنية، كما هو الحال في دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة، حيث المبادرات الأساسيَّة تحت رعاية الدَّولة جارية في استعمال مناهج الدِّراسات الإسلاميَّة في المدارس الابتدائيَّة والثَّانويَّة لإنشاء نموذج لزرع قيم الحسِّ النَّقديِّ والمساواة بين الجنسين والتَّسامح الدِّينيِّ. وعلى المنوال نفسه؛ كان قانون مراجعة الأُسرة المغربيُّ قيد الإعداد لسنوات في شباط/فبراير 2004، من أجل تعزيز حقوق المرأة، لكنَّ المدوَّنة لم تدخل حيِّزَ التَّطبيق إلَّا في أعقاب هجمات الدَّار البيضاء الإرهابيَّة في أيار/مايو 2003، وهو حدث مكَّن النِّظام الملكيَّ من الإقدام على مبادرة رائدة وجريئة دون معارضة تُذكَر.

أمَّا المهارة النِّهائيَّة؛ فهي علانيةً أكثر منها سرِّيَّة. لقد ألهم التُّركيُّ فتح الله غولن شبكةً من المدارس والصُّحف ومحطَّات الإذاعة والقنوات التَّلفزيَّة الَّتي تنقل لأتباعه احترام التَّميُّز التَّعليميِّ والتَّسامح الدِّينيِّ. هكذا يمكن للعلانية أن تتغلَّب على السِّرِّيَّة والارتياب، وتساهم أيضاً إلى حدٍّ كبير في «تطبيع» المجموعات والأفكار.

وعلى أيٍّ؛ فإنَّ تعميم التَّيَّار السَّائد يفرض تكلفة أيضاً؛ إذ يمكن انتقاد مناصري التَّعميم بسبب التَّقليل من قيمة الخصوصيَّات الثَّقافيَّة لصالح كسب نسبة جماهيريَّة أوسع. أمَّا المعارضون؛ فبإمكانهم أن يتمادوا في عنادهم. ومع ذلك؛ فإنَّ حدَّة النِّقاش عرفت تحوُّلاً كبيراً بسبب العوامل الَّتي نُوقِشَت في هذا المقال، بما في ذلك الانتشار الواسع للتَّعليم العالي، والتَّعميم المتنامي لوسائل الإعلام الجديدة مع سهولة تناولها، وبشكلٍ عامٍّ: يُسرٌ أكبر في السَّفر والاتِّصالات.

يشير تقاطع وسائل الإعلام الجديدة وتعميم الإسلام السَّائد إلى تغيُّرٍ جوهريٍّ من الأسفل، وهو لا ينبثق فقط من المفكِّرين الأساسيِّين والقادة الدِّينيِّين. ويمكن أن تكون مقاومة هذه التَّحوُّلات متفاوتة ومتناقضة وساذجة، لكن هناك أيضاً اعترافٌ جليٌّ ومُتنامٍ إزاء هذه الآراء المتضاربة في المجال العموميِّ، إلى جانب تسامحٍ تجاه المعارضة والخلاف على نطاق أوسع. وبينما تتطوَّر وسائل الإعلام الجديدة؛ نجد أنَّ أهمِّيَّة الدِّراسات الإعلاميَّة أصبحت أكثرَ وضوحاً؛ باعتبارها حقل بحث مُتميِّز نشأ في البداية على هوامش التَّخصُّصات الموجودة. وبإعادة صياغة عبارة المؤلِّف الموسيقيِّ المجريِّ «جيورجي ليجيتي» 1923-2006 (personal communication 16 may, 2001)؛ «فإنَّ الإبداع ينبع من خلال التِّكرار اللَّامتناهي لِمَا هو مألوف». هكذا ستبلغ الدِّراسات الإعلاميَّة إلى طليعة الفكر الاجتماعيِّ والدِّراسات الإسلاميَّة؛ لأنَّها تستقطب أعداداً أكبر من جماهير التَّخصُّصات القائمة، مع إقناع عامَّة النَّاس بحجَّة أهمِّيَّة التَّركيز على وسائل الإعلام، وبكون هذه المعرفة وأطر نقلها وإيصالها تؤثِّر على العمل؛ سواء في الحقل الدِّراسيِّ الخاصِّ أو التَّخصُّصات الأُخرى. إنَّ القواعد الأساسيَّة الَّتي تُحدِّد كيفيَّة تشكيل الدِّراسات الإعلاميَّة باعتبارها حقلاً أوَّليَّاً للبحث؛ هي القواعد نفسها بالنِّسبة للحقول القديمة القائمة. وكما كتب «آدم بروورسكي» و«فرانك سالومون» (1998 [1988]) قبل عقدين من الزَّمن: «إنَّ العلوم الاجتماعيَّة المؤثِّرة تُخبرنا بشيءٍ ما جديد، وتقنعنا بأهمِّيَّة إدراك صوابه، كما أنَّها تستطيع التَّأثير على الآخرين في الحقل ذاته، وفي التَّخصُّصات الأُخرى المتَّصلة بالجمهور الأوسع». إنَّ الدِّراسات الإعلاميَّة في تقاطعها مع دراسات المناطق والدِّراسات الإسلاميَّة؛ تبقى الآن جاهزةً لتقديم مثل هذه المساهمات.

 

المراجع

- anderson, j.w. (2009) «blogging, networked publics and the politics of communication: another free-speech panacea for the middle east», keynote address prepared for the conference» new horizons: obama and the global media», university of arizona, tucson az, 23 january (available online at http://nmit.wordpress.com/2009/01/31/197/

- burns, j.f. (1999) «arab tv gets a new slant: news casts without censorship», new york times, 4 july, p. 1

- castells, m. (1996) the rise of the network society. boston, blackwell.

- cumings, b. (1997) «boundary displacement: area studies and international studiesduring and after the cold war», bulletin of concerned asian scholars, 29

- eickelman, d.f. (1992) «mass higher education and the religious imagination incontemporary arab societies,» american ethnologist, 19, 4, p. 643-655

- ----- (1999) «communication and control in the middle east: publication and itsdiscontents,» in d. f. eickelman and j.w. anderson (eds.), new media in the muslim world: the emerging public sphere. bloomington, indiana university press, pp. 29-40

- ----- (2003) «isurâmu chiiki-kenkyû purojekuto: gurôbaru to rôkaru na shiten»(islamic area studies project: global and local perspectives) in tsugitaka, s. (ed.),isurâmu chiiki-kenkyû no kanôse (the scope and potential of islamic areastudies), tokyo, university of tokyo press, p. 243-255

- ----- (2005) «clifford geertz and islam.» in r. a. shweder and b. good (eds.), clifford geertz by his colleagues. chicago: university of chicago press, pp. 63-75

- ----- (2010) «elmer's tune: how i became a social anthropologist», unpublished paper, 4 march.

- eickelman, d.f. and j.w. anderson (1997) «print islam and civic pluralism: new religious writings and their audiences,» journal of islamic studies 8, 1, pp. 43-62

- ----- (eds.) (1999, 2nd edition 2003) new media in the muslim world: the emerging public sphere, bloomington, indiana university press.

- eickelman, d.f. and a. salvatore (2007) «public islam as an antidote to violence?»in identity conflicts: can violence be regulated?, edited by j. c. jenkins and e.e. gottlieb. new brunswick: transaction, pp. 79-90

- eickelman, d.f., r.w. bulliet, j. bacharach, and i. allon (2011) «general report: committee for the evaluation of middle east studies programs», jerusalem: council for higher education (http://www.che.org.il/template/de fault_e.aspx? pageid=572, accessed 24 april 2011).

- groueff, stephane (2003) my odyssey, new york, writers advantage.

- malinowski, bronislaw (1945) the dynamics of culture change: an inquiry into race relations in africa, london, oxford university press.

- manoukian, s. (2010) «where is this place? crowds, audio-vision, and poetry in postelection iran», public culture, 22, p. 244

- ortner, s.b. (1984) «theory in anthropology since the sixties», comparative studies in society and history26, p. 126-166

[1] - مقتطف من كتاب أنثربولوجيا المجتمعات الإسلامية ديل إيكلمان، تحرير يونس الوكيلي، صدر عن مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.

[2] - www.bgsmcs.fu-berlin.de/events/medialisation/index.html, seealso schneider and gr?f 2011

[3] - http://www.youtube.com/watch?v=tpao-lz4_hu&feature=player_embedded.

[4] - www.csmonitor.com/world/europe/2008/0718/p04s07-woeu.html, accessed 30 april 2011.

[5]-www.ammanmessage.com/, accessed 18 march 2010.

[6]-www.fethullahgulen.org/, accessed 30 april 2011.

[7]-www.multaqa.org/, accessed 30 april 2011.