وقفات استطلاعية مع التراث الكولونيالي الفرنسي حول التديّن المغربي


فئة :  قراءات في كتب

وقفات استطلاعية مع التراث الكولونيالي الفرنسي حول التديّن المغربي

تقديم مدخل تعريفي بيبليو ــ موضوعي عن الإسلام في التراث الاستعماري (الكولونيالي) الفرنسي ما بين سنة 1900 وسنة 1930 من خلال أهم ما كُتب في المرحلة، هو عين ما يتضمنه كتاب حديث الإصدار للباحث المغربي يونس الوكيلي، ويحمل عنوان "سوسيولوجيا الإسلام المغربي". (صدر الكتاب عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، الرباط، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، ط 1، 2013، وجاء في 168 صفحة من الحجم المتوسط).

وقد تكون أهم ميزة للدارسة، أنها جمعت وأحاطت بكتب وسير مؤلفين لم تجمع على هذا المنوال في كتاب آخر باللغة العربية؛ حيث راهنت ببساطة على تقديم هذا المدخل البيبليو ـ موضوعي عن الإسلام في التراث الاستعماري (الكولونيالي) الفرنسي، دون أن يقف الكاتب عند السياقات الدولية التي أنتجت ضمن تلك المعرفة ـ وهذا ما أبدع فيه بشكل كبير إدوارد سعيد، في تحفته العلمية "الاستشراق"، كما يشير في الهامش، ص 10 ـ بل توقفت عند الجوانب العلمية التي طبعت تناول المواضيع؛ أي منظور العلوم الاجتماعية عموما، ذلك أن المعرفة على كل حال بقيت لنا "غنيمة حرب" على حد تعبير الروائي الجزائري كاتب ياسين، بينما الخلفيات السياسية انتهت مع رحيل الاستعمار. هذا فيما يُفيد القارئ المتخصص.

أما القارئ المبتدئ، فسوف يتعامل مع الكتاب باعتباره مدخلا تعريفيا بـ"سوسيولوجيا الإسلام المغربي"، في نفس التراث الكولونيالي وفي نفس الحقبة (1900 ـ 1930)، ومعلوم أن استعمال مفهوم "الإسلام المغربي" في الأدبيات العلمية إلى بدايات القرن العشرين قبل اتفاقية الحماية الفرنسية للمغرب، ويُلاحظ المؤرخ الأمريكي إدموند بورك، أن المغرب يُعد البلد الوحيد تقريبا الذي يتخذُ شكل الإسلام فيه اسما محددا يُطلق عليه "الإسلام المغربي"، وهو التميز الذي كان يعيه المغاربة عبر التاريخ، ثم جاء المراقبون الأوروبيون منذ سنة 1900 ورصدوا أشكاله، فما هو هذا "الإسلام المغربي"؟

يجيب المؤرخ الأمريكي إدموند بروك أن الباحثين لم يتفقوا على تعريف محدد، لكن أغلبهم يرى أنه يتضمن بُعدين أساسيين: الاعتقاد في شبه قداسة الملك الذي يُعتبر سلطانا يحكم المؤمنين من جهة أولى، ثم، من جهة أخرى، يعني استمرار شيوع المعتقدات والممارسات الدينية والسحرية بين سكان المغرب القروي (خصوصا الأمازيغ، أو البربر كما جاء في الكتاب)، مثل: العين الشريرة والتلاحم بين العشائر عبر القرابين، وعزو سلطة الرحمة والشفاء (البركة والسخط) لشخصيات مخصوصة. والحقيقية، يضيف المؤلف، أن "الإسلام المغربي" بهذا المعنى التأطيري الشامل يستوعب كل الدراسات الواردة في هذا الكتاب، ويضمن انتظامها منهجيا ومعرفيا.

جاء الكتاب موزعا على مقدمة عامة، وستة فصول، كانت عناوينها كالتالي: "جورج سالمون: المنسي من سوسيولوجيا الإسلام الكولونيالية"؛ "إدوارد ميشو بيلير: مؤسس السوسيولوجيا الكولونيالية بالمغرب"؛ "إدموند دوتي: رائد أنثروبولوجيا الدين الكولونيالية بالمغرب"؛ "ألفرد بل: بحثا في التشكل التاريخي لإسلام [الأمازيغ] البربر"؛ "هنري باسيه: الإسلام والبقايا الوثنية"؛ وأخيرا "إدوارد مونتي: الإسلام من منظور مختلف".

واختتم الكتاب بنص مترجم يخدم أهداف الكتاب عموما ـ للمؤرخ الأمريكي سالف الذكر، إدموند بورك، الذي لم ينل الاهتمام الذي يستحقه بين الباحثين العرب، وفيه يقترح رؤية شمولية للاهتمام الفرنسي بما يسمى "سوسيولوجيا الإسلام" أو سوسيولوجيا المجتمعات المسلمة"، وهو الاهتمام الذي امتد لأزيد من قرنين وأسفر عن آلاف الدراسات التوثيقية لشتى مظاهر المجتمع المسلم من المحيط الأطلسي مرورا بإفريقيا وصولا إلى الشام وما حولها.

يهمنا في هذا العرض، التوقف عند أهم ما ميّزَ أعمال هذه الأسماء في التراث الكولونيالي الفرنسي، الخاص بالمجال التداولي المغاربي بشكل عام.

بالنسبة لجورج سالمون، فيُسجل المؤلف أربع ملاحات على أعماله: اهتمامها بموضوع الشرفاء بشكل بارز، باعتباره ظاهرة الإسلام في المغرب؛ اختيارها للمدينة كمجال للبحث، إحداهما في شمال المغرب وهي طنجة، والأخرى في الوسط، وهي فاس. ولا يخفى ما شكلته هاتان المدرستان من أهمية تاريخية وسياسية؛ اتخاذها لمنظورين في تناول موضوعاتها: التاريخ، من حيث اعتماده على الوثيقة مصدرا للمعلومات، والإثنوغرافيا، من حيث الزيارات الميدانية التي يقوم بها لإنجاز دراساته؛ وأخيرا، اهتمامها بشخصيات دينية تاريخية، من حيث الترجمة لحياتها العلمية، ودورها في التاريخ الديني والاجتماعي للمغرب.

كما يخلص المؤلف إلى أن طبيعة هذا الاهتمام، سوف يُسهم في تحديد الخطوات الأولى لمنهج البحث الكولونيالي حول الإسلام في المغرب وموضوعه، خاصة أن جورج سالمون ـ المعروف في الأوساط العلمية الفرنسية بالمستشرق ـ يُعتبر أول مشرف على مؤسسة للبحث العلمي في المغرب تُعنى بتقديم المعلومات اللازمة من أجل التحضير للحماية.

فيما يتعلق بمؤسس السوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب، إدوارد ميشو بيلير، فقد استشهد المؤلف بقراءة نقدية لعالم الاجتماع المغربي مختار الهراس، ويرى أنه [بيلير] أقحم المجتمع المدروس ضمن أطر ثنائية، هي أقرب إلى تصوراته الذاتية منها إلى الواقع الفعلي للمجتمع. فلم يعد المجتمع، تبعا لذلك، وحدة متكاملة بقدر ما أصبح مقسما ما يسن بلاد المخزن وبلاد السيبة، العرب/ و[الأمازيغ] البربر، والسهل/ والجبل، والمدينة/ والبادية، الشرع/ العرف، الاستبداد/ والديمقراطية.. أي غلى منطقتين منفصلتين"، ص 50، ويستشهد الكاتب أيضا بقراءة للراحل عبد الكبير الخطيبي، جاء فيها أن "السياسة العلمية ما بين 1912 و1925، تأسست على ما يلي: بعد الهدنة العسكرية حان الوقت لغزو العقول والقلوب"، ويرى المؤلف أنها كانت الأهداف الأساسية لميشيو بيلير، والأدوار الحقيقية للسوسيولوجيا والتاريخ اللذين مارسهما.

بالعودة إلى أعمال المؤرخ إدموند دوتي، فقد اصطبغت أعماله بمنهج تأويلي، يلخص ذلك الباحث المغربي حسن رشيق في السمات الآتية: القيام بوصف جزئي للظواهر المدروسة؛ البحث عن معنى الطقوس المدروسة باستلهام الإثنوغرافيا المقارنة؛ محاولة إثبات كيفية اسلمة كل الطقوس المدروسة؛ يحدد البقايا الوثنية (أطلال، آثار..) التي لم تتعرض لعملية الأسلمة؛ وواضح أن هذا المنهج حتّمه التواصل النظري الذي يقيمه دوتي مع المدرسة الفرنسية، خصوصا أنه يسعى إلى إصباغ المعنى على مختلف الطقوس الملاحظة، ولذلك يحضر بشكل جلي منهج المقارنة الذي يجعل تلك الطقوس قابلة للفهم، فأن تؤول طقسا محليا يعني البحث عن معنى كوني مهيمن، بتعبير الباحث حسن رشيق.

نأتي لتقييم أعمال ألفرد بِل، فعلى الصعيد النظري، كان بِل منخرطا في الفرضية التي سادت الربع الأول من القرن العشرين حول دين [الأمازيغ] البرير، بكونه بقايا وثنية؛ أما على صعيد المنهج، فقد كان بل مؤخرا بنَفَس أنثروبولوجي بارز، ذلك أن كل الدراسات التي صدرت له، اعتمدت الوثائق العلمية المتوفرة، إضافة إلى الملاحظة العفوية التي تدعى في مرات عديدة إلى ضرورة تطورها لما لها من مردودية علمية على الأبحاث التي باشرها؛ ومن حيث النشر، فقد انخرط بل مبكرا في السياق العلمي لعصره، حيث شارك في عدة ندوات خاصة وفي مؤتمرات الاستشراق.

أما هنري باسيه، فيخلُص المؤلف إلى أنه تأثر بالسياق العلمي للمرحلة التي عاش فيها، والتي لم تر في الإسلام سوى تركيبة هجينة من المعتقدات المسيحية الرومانية و[الأمازيغية] البربرية القديمة، ونقرأ للراحل محمد دهان في هذا الصدد: "ليس من الصعب إبراز الأسس الإيديولوجية التي ترتكز عليها أطروحة باسيه بخصوص صراع المعتقدات الدينية بإفريقيا الشمالية. إن باسيه يتبنى موقفا معاديا للإسلام كما الشأن بالنسبة إلى العديد من الباحثين الاستعاريين، هذه المعاداة تنطلق من رغبة ملحة لدى منظري الاستعمار لمسح كل تأثير عربي وإسلامي في ثقافة شعوب إفريقيا الشمالية في محاولة لربطها بشكل نهائي بالحضارة المسيحية الغربية. إن منظري الاستعمار كانوا يعتبرون الحضور الإسلامي في المنطقة مجرد حدث تاريخي عابر، وينفون كل تجذر للمقومات الإسلامية في ثقافة شعوب المغرب العربي".

نصل في الأخير إلى تقييم أعمال إدوارد مونتي، حيث لوحظ أن كل الدراسات التي خَصَّ بها مونتي المغرب تناولت الظاهرة الدينية بشكل أساسي، وذلك راجع بالأساس إلى أن أعماله جاءت في إطار برنامج بحثي حول الإسلام المعنون بـ"خطة من أجل البحث حول الإسلامية".

كما تميزت دراسات مونتي المتعلقة بالمغرب بالاشتغال على عبادة الأولياء بشكل بارز، باعتبارها مميزة لنمط التديّن المغربي، ولذلك ما فتئ يُذكر بأن المغرب بلد الأولياء بامتياز.

لم تخرج أعماله المخصصة للأولياء عن المنظور السائد آنذاك؛ أي المنظر التطوري التاريخي الذي يرى أن عبادة الأولياء تعود إلى أصول وثنية قبل إسلامية.

وأخيرا، يُلح المؤلف أن مونتي يتخذ من الإسلام كدين موقفا إيجابيا، ويتجلى ذلك في كتابه "الإسلام"، حيث يُلح على الأوروبيين عقد شراكات مع الإسلام المسلمين من أجل ضمان السلام العالمي مستقبلا، وهو موقف متقدم جدا، يُذكر بالمواقف التي ينادي بها عدد من المثقفين اليوم.