قراءة في كتاب: "النصيحة السياسية دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية"

فئة: أنشطة سابقة

قراءة في كتاب:  "النصيحة السياسية دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية"

نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث يوم الجمعة 07 أبريل 2017 ورشة علمية، لمدارسة كتاب "النصيحة السياسية دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية" لعز الدين العلام، شارك فيها بالإضافة إلى مؤلف الكتاب كل من مراد الزوين ونبيل فازيو.

ركز مراد زوين في ورقته على ملاحظة أساسية، وهي أن كتاب "النصيحة السياسية"، من الكتب التي يصعب تصنيفها في مجال معرفي محدد؛ فهو أقرب كما يقر بذلك المؤلف، يقول الزوين، إلى العلوم السياسية منه إلى أي مجال معرفي آخر. فالباحث في تناوله لموضوعات الكتاب، لم يتعامل معها كإشكاليات نظرية أو مفاهيمية، بل تعامل معها كقضايا تخص حقلين، ثقافيين، وحضارتين مختلفتين، تشتركان في مجموعة من القضايا،  وتختلفان في المرجعية والمسار التاريخي، في فترة زمنية دأبنا على تسميتها بالقرون الوسطى، حضارة تعيش بداية نهضتها، وحضارة تعيش بداية انحطاطها.

   هكذا  يعتبر مراد الزوين الكتاب من الدراسات النادرة في الثقافة العربية الإسلامية التي اهتمت بموضوع "النصيحة"، والتي غابت عن اهتمام المؤرخين والكتاب المسلمين طيلة القرون الماضية، إلا من بعض الدراسات المحسوبة على رؤوس الأصابع.

       أما موضوع الكتاب، حسب مراد الزوين،  فيتضح من عنوانه "النصيحة السياسية، دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية"، وهو عبارة عن قراءة نقدية متأنية ودقيقة لنصوص إسلامية ومسيحية، اهتمت بمجموعة من النصائح الأخلاقية – السياسية، بهدف حسن تدبير المملكة أو الإمارة، من خلال طرح السؤالين: كيف يجب على الملك أن يحكم؟ وماهي الواجبات الأخلاقية للملوك؟ من هنا يأتي تعريف النصيحة السياسية، بكونها إسداء النصح السياسي والأخلاقي لأولي الأمر، وهو نفس الهاجس الذي طبع مؤلفات المسيحيين والمسلمين من حيث الموضوع، والعناوين، والاستعارات...إلخ

بالنسبة إلى المرجعية الدينية، اتجهت جميع الكتابات – إسلامية ومسيحية- إلى جعل الأولوية للسلطة الدينية على حساب السلطة الدنيوية، والنتيجة في نظر المؤلف، أنها جعلت من السياسة ذات قيمة أدنى تابعة للدين وأوامره.

          إن تداخل الديني والسياسي، وصعوبة الفصل بينهما، لا تخص المرايا المسيحية وحدها، بل في نظر الباحث تنطبق تمام الانطباق على نظيرتها الإسلامية، من حضور النص الديني من الكتاب المقدس والحديث النبوي، في النصائح الإسلامية، كان له أكبر تأثير في تصور العلاقة بين الدين والدولة.

        ويضيف مراد الزوين أن العلام  يكتفي  في مقارنته بين "مرايا المسيحية" و"آداب الملوك"، بالوقوف على الاختلاف النوعي الذي يتجلى في تمكين الغرب المسيحي من تأويل الدين في اتجاه عقلي طبيعي، بخلاف آداب الملوك التي بقيت على حالها دون تغيير. فهي تلتقي مع المرايا في العدل، وتختلف معها في مشروعية السلطة السياسية.

        هكذا تنبني التجربة الإسلامية، على حضارة الفرس، وشيئا من اليونان، وغياب التأثير الروماني. في حين حضر في التجربة المسيحية الامتداد الروماني والتأثير اليوناني، وغياب كلي للتأثر الفارسي.  وهذا الفرق سيكون له انعكاس على طبيعة الدولة في التجربتين. فآليات الاشتغال السياسية عند الفرس تميل إلى الاستبداد، بينما عند الرومان تميل إلى وضع القوانين.

    في حين تتمثل الصورة المشتركة بين المرايا والآداب في مركزية الحاكم أو ذات الحاكم المطلقة. ومن أهم الآليات لضبط السلطة الملكية والحد من إطلاقيتها، تتمثل في آلية "الردع الأخلاقي، و"القانون". فإذا كانت هناك فوارق طفيفة، في نظر المؤلف – في الصورة الأخلاقية بين النصائح المسيحية والنصائح الإسلامية، فالاختلاف يكاد يصبح نوعيا حين يتعلق الأمر "بالقانون".

      عرف الغرب المسيحي في نظر المؤلف تطورا نتيجة إحياء القوانين الرومانية، بالإضافة إلى تطور القانون الكنسي   )  Droit Canonique (. ما  أدى إلى نوع من "دنونة" (Secularisation) الحياة  المدنية في الكثير من أوجهها الاجتماعية. في المقابل، حينما تطرح مسألة "القانون" في التجربة الإسلامية لا يمكن أن يقفز إلى دهننا غير "الأحكام الشرعية" بخلفياتها الدينية؛ لأن آداب الملوك، لا تقبل أي تقنيين "مدني" خارج ما نص عليه الشرع، مما حال دون تبلور البوادر الأولى للدولة الحديثة، نتيجة لهيمنة آليات السياسة الفارسية – الساسانية؛ وثانيا دون التطور نحو "دنونة" المجال المدني، نتيجة احتكار الشريعة لكل التنظيمات المدنية، مشكلة بذلك، أهم عائق نحو التطور من "مجمع الرعايا" إلى آفاق اجتماعية مفتوحة.  

أما نبيل فازيو، فقد حاول في ورقته أن يضع كتاب العلام في سياقين مختلفين؛ سياق تأليفه العام، باعتباره واحدا من الذين أسهموا في مراجعة التراث السياسي الإسلامي وخلخلة بنيانه الاستبدادي من جهة، وسياق اختياره الفكري، باعتباره واحدا من المثقفين المدافعين على الاختيار الحداثي في السياسة.

ومتى نظرنا، حسب فازيو، إلى كتاب النصيحة السياسية من هذا الموقع المزدوج أدركنا أن الكتاب لم يكن مجرد دراسة أكاديمية الغرض منها تناول خطاب النصيحة السياسية، في العالم الإسلامي والعالم المسيحي إبان العصر الوسيط، بالدراسة والتحليل، وإنما كان إسهاما في ذلك المشروع النقدي الذي بلوره الفكر العربي منذ عقود من أجل إعادة قراءة تراثه السياسي والوقف على الأعطاب التي حالت دون تفتق وعي حديث بالدولة والمجال السياسي.

وقد حاول فازيو مساءلة عمل العلام من مداخل متعددة يمكن اعتبارها تمفصلات عمله واختياره الفكري؛ مدخل المرجعيات النظرية التي يصدر عنها في رؤيته وتأويله للتراث السياسي الإسلامي أولا، ومدخل حكمه على تراث النصيحة والآداب السلطانية بالاستبداد ثانيا، ثم أخيراً مدخل الموقف العام من التراث السياسي.

وقد كان عليه أن يبين القيمة الفكرية التي يمتاز بها عمل العلام، والتي تجسد جزءاً كبيرا من قوة الكتاب وجرأته، من قبيل تبرمه من الابتسار الذي مارسه الباحثون على تاريخ الفكر السياسي الغربي في العصر الوسيط، عندما اختزلوه في القول الفلسفي دون غيره من صنوف القول التي عجت بها الثقافة الغربية الوسيطية؛ وجرأة صاحبه في مساءلة محدودية التراث السياسي الإسلامي على ضوء مفهوم الدولة الحديثة ومكوناته؛ هذا علاوة على كونه من بين الكتب القليلة التي قرأت خطاب الآداب السلطانية على ضوء مقارنته بنظيره في العالم الغربي المسيحي...إلخ، كل ذلك مثل في اعتقادنا نقاط قوة كتاب العلام، الأمر الذي يفتح إمكانية قراءته قراءة نقدية في ظل الوعي بهذه المعطيات كلها.

مثلت كل واحدة من تلك المعطيات مناسبة لإعادة النظر في بعض الأحكام التي باتت عند الباحثين اليوم في جملة البديهيات التي لا مجال من مناقشتها؛ من قبيل التسليم بالقراءة الخلدونية للتراث السياسي بمختلف قطاعاته، وقد تبين لنا أن العلام كان هو الآخر ضحية للتسليم بالموقف الخلدوني وللنمذجة التي أقام عليها صاحب المقدمة تصوره للسياسة والملك، بل وعلى أنقاضها أقام تصوره الخاص لمفهوم العمران نفسه.

هكذا تبين  لفازيو أن العلام ما كان الباحث الوحيد الذي تلقف حكم ابن خلدون، وإنما سايره في ذلك كثير من الباحثين الذين اعتبروا تقليد الآداب السلطانية علامة من علامات الفكر الاستبدادي المستشري في شرايين التراث الفكري السياسي الإسلامي، الأمر الذي أتاح لفازيو فرصة مراجعة هذا الحكم من خلال محاولة تفهم رهانات هذا الخطاب على ضوء الشروط السياسية المنتجة له، وذلك في أفق الدعوة إلى بلورة منظور تفهمي للتراث السياسي الإسلامي يتجاوز المواقف الحدية والقصية التي صدر عنها الباحثون في التعامل معه.