محاضرة: ''الفتنة والإصلاح'' لسعيد ناشيد

فئة: أنشطة سابقة

محاضرة: ''الفتنة والإصلاح'' لسعيد ناشيد

انتظم بمقر مؤمنون بلا حدود وجمعية الدّراسات الفكريّة والاجتماعية، بتونس العاصمة، يوم السبت 25 فبراير، لقاء فكري تضمّن محاضرة قدّمها المفكّر المغربي سعيد ناشيد بعنوان ''الفتنة والإصلاح'' طرح فيها العديد من القضايا المتعلّقة بالتّفكير الدّيني ومستوى الممارسة الاجتماعية للدّين وما ينتج عن ذلك من فتنة تستوجب لدرئها إصلاح الدين، وأدار اللّقاء الدكتور نادر الحمامي.

وانطلق ناشيد من مسألة التناقض بين النص والواقع، وقال إنّها مسألة مرتبطة بالعقيدة وإن النّصوص الدّينية وعلى رأسها القرآن تقدّم الأمر ونقيضه. وذكر مثالا الآية 14 من سورة التغابن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قائلا كيف لأمّي أن تحذر منّي وأنا ابنها... كما قدم مثالا الحديث النّبوي القائل (لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ...) وقال لماذا رغم نهي الرسول الصحابةَ عن كتابة أحاديثه نجد أربعة صحاح من بعده، بل من الصحاح ما لقّب بثاني أصح كتاب بعد كتاب الله؟

واعتبر ناشيد أن الحقيقة عنصر مهم في فهم التصرّف الإيماني في واقع المسلمين؛ فبقدر القرب من زمن الرسول بقدر القرب من الحقيقة، لكن هذا الأمر ذاته يتضمّن مفارقة، رغم أنه أشبه بالمنهج الذي سار وفقا له العقل الإسلامي منذ القديم، وذكر ناشيد في بيان تلك المفارقة مثالا عن تقوّق صحيح البخاري أهمّيةً لدى المسلمين على نهج البلاغة رغم قرب الأخير في رواياته إلى زمن النبوّة. واعتبر في ذلك كسرا لمنطق القرب والبعد من زمن النبوّة، وهو ما يستدعي التساؤل وإعادة النظر. ومضى في ذكر بعض الأمثلة الأخرى عن التناقض، فأشار إلى وضعية المرأة في النص وفي الواقع، ومسألة الاختلاط كيف هو مباح في مناسك الحج وممنوع ومرفوض في المساجد.

واستنتج من ذلك كلّه، أن الموروث الديني لا يزعجه التناقض، وقسم في بيان ذلك العقل الإسلامي إلى عقل إخباري وعقل برهاني، وقال إن ما نفكّر فيه من مسائل متناقضة في صلب الموروث الديني ينطلق من العقل البرهاني الذي يبحث في الاختلافات ويقارن الحجج، بخلاف العقل الإخباري الذي يعدّد التناقضات ولا ينزعج منها، فما يوجد في رواية الحديث من تناقضات يجعلنا غير قادرين على السيطرة على المادة الإخبارية في التراث الإسلامي في اتجاه فهمها فهما وحيدا، وإنما نحن مجبرين على الانتقاء وفق ما يبسطه لنا التفكير في العقيدة والواقع، انطلاقا من البحث في البراهين والحجج المتوافقة مع الواقع.

وتوقّف أمام ما يثيره هذا التّناقض الكبير في الموروث الدّيني ليقول لا بد أن نعترف أن منطق عدم التناقض لم يجد اهتماما لا في الموروث الفقهي ولا في الموروث الديني عموما. وقال إن موروثنا الديني غير معني بأبسط مبادئ العقل. وانطلق من تلك النتيجة ليبيّن انعكاسها على الممارسة الدّينية للمسلمين وكيفيّات التّعامل مع واقعم الحياتي، وقال إن الكثير من المفاهيم المتعلّقة بالقتال وبالعنف الذي يشهده العالم اليوم متأسس في أصل الفهم للدين ولا يمكن فصله عن المتناقضات التي يغرق فيها النص الديني وتغرق فيها من بعده الممارسات التي تحاول تمثّل ذلك النص في الواقع. وقدّم أمثلة مما يكتبه الإسلاميّون اليوم من تنظير للعنف، فيعتبرون القتال فرضا من الدين، ويوردون قول ''كتب عليكم القتال'' قياسا على قول ''كتب عليكم الصيام''

وتساءل قائلا؛ كيف يعقل أن نعمّم أفعال أمر وردت لأناس محدّدين في زمان ومكان معيّنين وسياق محدّد، على البشرية جمعاء، معلّلا ذلك بالعودة مجدّدا إلى نص الآية 14 من سورة التغابن، التي انطلق منها، قائلا إنّها تخصّ مخاطبين محدّدين هم أولئك الذين تأخّروا في الهجرة والالتحاق بالرّسول بسبب ارتباطاتهم العائليّة أو بسبب ممتلكاتهم.

وعرّج ناشيد في ختام المحاضرة على مثال اعتبره يلخّص صناعة الفتنة بالنص، من خلال حراسة الفكر اللاهوتي للواقع وتسييج العقل وفرض نمط من الرقابة الأخلاقوية المبالغ فيها على حرّية الإبداع، وذكّر بما حدث مؤخّرا في تونس من فرض الرّقابة الدّينية لسلطتها على مسرحيّة لا لشيء؛ إلا لأنها اقتبست في عنوانها مفردات يذكرها القرآن (ألهاكم التّكاثر)، وقال لو نتفادى في كلامنا اليومي كل المفردات التي وردت في القرآن فلن نتكلّم.

وأعقب المحاضرة مداخلات نقاش شارك فيها الجمهورُ المحاضرَ أفكارَه وناقشه في بعضها ومن بين أهم ما تم التطرّق إليه، مسألة التبسيط الفكري في التعامل مع الموروث الديني، ونتائج ذلك على مستوى جدّية البحث ورهاناته القريبة والبعيدة؛ فاعتبر أحد المتدخّلين أن ما يقدّمه ناشيد من تبسيط معرفي في علاقة بدراسة التّراث يمكن ألاّ يستجيب لمقوّمات البحث العلمي الأكاديمي الصّارم. وردّ ناشيد بأن التبسيط المعرفي أضحى من الأولويات في واقعنا العربي والإسلامي اليوم، هذا الواقع المعولم الذي أصبح فيه الناس من جميع شرائح المجتمع مادة سهلة للتطويع من طرف الإيديولوجيين والذين يدّعون احتكار فهم النص، وبالتالي يساهمون في تشكيل العقول ووضعها في قوالب جاهزة للتفجير والاحتراب والعنف، ورأى ناشيد أن من دور المثقف اليوم تبسيط المعرفة، حتى وإن تعارض ذلك مع شروط الصرامة العلمية والأكاديمية، ليقع إنتاج حجج بسيطة يستطيع الإنسان العادي في المجتمع أن يفهمها وأن تشكّل لديه نوعا من المناعة الذاتية في مواجهة الآلة الإعلامية التّكفيرية الهدّامة التي تصل إلى عقول الناس البسطاء انطلاقا من تبسيط الأدوات والأفكار.