محاضرة "في الجمالية العرفانية: مطلات على أفق إنسي روحي في الإسلام" للدكتور محمد التهامي الحراق

فئة: أنشطة سابقة

محاضرة "في الجمالية العرفانية: مطلات على أفق إنسي روحي في الإسلام" للدكتور محمد التهامي الحراق

في محاضرته المعنونة بـ "الجمالية العرفانية مطلات على أفق إنسي روحي في الإسلام"، والتي ألقاها في رحاب صالون جدل الثقافي التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بالرباط، حاول  الباحث والأكاديمي المغربي، المتخصص في الإسلاميات و التصوف، الدكتور محمد التهامي الحراق طرح جملة من المطلات على "الجمالية العرفانية"، من حيث هي تفكير في الجمال من منظور عرفاني إسلامي، و كذا من حيث هي أفق إبداعي روحي يتبلور في توقيعاتٍ إشاريةٍ سردية وشعرية وموسيقية، تشج بين تجربة ذوقية و وجودية منغرسة في التعالي، وبين تجربة جمالية تغذي حاجة الاغتباط في الفطرة بوصفها قاعدة أصلية للإنسان.

واستعرض الدكتور الحراق في محاضرة الماتعة التي أقيمت يوم السبت 26 مارس 2016، ما يخفيه الاحتفال الراهن بالجمالية العرفانية في مجاليها الفني بوجه خاص نسيانا عميقا ومضاعفا لما يشكل معناها ومغزاها في سياقها المخصوص؛ فسواء تعلق الأمر بالتفكير العرفاني في مفهوم الجمال أو ببلورة هذا المفهوم في ممارسة ذوقية وإبداعية وفنية، فإن الجمالية العرفانية تعاني من نسيان متعدد الأبعاد يحول العناية الاحتفالية ببعض مظاهرها الأدبية والطربية إلى أسلبة فاغرة من المعنى أو إلى لحظات طقوسية شكلانية، أو صرعات عابرة يحولها إلى مجرد التقاط للعرض في تلك الجمالية، وهو ما يحجب حسب الحراق، الأبعاد الرئيسة التي تستدعى من أجلها اليوم هذه الجمالية في الرهانات التاريخية المعاصرة.

وأوضح الحراق في مداخلته أنه "وكما سبق في مداخلات أخرى إبراز معالم التحولات المعرفية والأيديولوجية والحضارية التي استدعت مراجعة بعض أحكام السالفة المستبعدة والنابذة للحقل العرفاني معرفة وممارسة وإبداعا، فإنه لم تزل دواعي الحاجة إلى هذا المعنى من روح الإسلام اليوم قائمة، إن لم تكن قد تضاعفت سواء بالنظر إلى تفاقم الأزمة الروحية التي تختلق زمن الانفجار المعلوماتي الكوني، أو بالنظر إلى انفجار ردود فعل عنيفة حيال هذه العولمة وسياساتها ونتائجها الاقتصادية والاجتماعية والروحية، لا سيما وأن هذه الردود قد تبلورت في انغلاق هوياتي قاتل كما اتخذت صورا دينية تشددية ما تفتأ تسجن الإسلام بوجه خاص في صورة تدينية مرعبة، من سماتها التعصب والعنف ومخاصمة الجمال وإهانة الإنسان، صورة تتضامن موضوعيا جهات إعلامية يمينية دينية وغير دينية متآزرة ومتنافرة من الغرب ومن الشرق في سبيل إشاعتها وتكريسها وسدامتها، وهو ما يجعل الالتفات إلى الآفاق الإنسية الكونية الحاضرة في كل الثقافات وتعيينا في الثقافة الإسلامية واجبا تاريخيا، لإنقاذ إنسانية الإنسان وإبراز ما يمكن أن يسعف في إشاعة قيم المحبة والسماحة والانشراح للآخر، والقبول بالاختلاف والعيش المشترك"، ويضيف "غني عن البيان أن المسلمين في مقدمة المعنيين بهذا العمل بعد أن تعرض دينهم بفعل ملابسات سياسية واقتصادية وأيديولوجية محض لاختطاف تشددي شنيع ما فتئ يطمس كل أفق إنسي روحي كوني رحموتي في دين عنوانه السلام ورسوله رحمة للعالمين".

ويستطرد الدكتور الحراق في حديثه بالقول: "علينا أن نعترف منذ البداية أن طموح هذا المعنى أكبر من منجزه وأن الغاية الأساس التي ينحصر ضمنها هذا المنجز لا تتعدى الإسهام في تظهير هذا الأفق الإنسي الروحي للإسلام وذلك من خلال الانخراط التأملي والتأسيسي للجمالية العرفانية قصد تجاوز مختلف أشكال النسيان التي تطولها، سواء تلك التي تطول مفهوم الجمال داخل النسق العرفاني، أو تلك التي تطول الممارسة الجمالية الإبداعية المتخلقة من رحم التجربة العرفانية، والتي ما فتئت تتعرض لدنيوية قاسية تتنوع مظاهرها، لكنها تتقاطع في محاصرة التعالي الروحاني في تلك الممارسة، فيما يشكل هذا التعالي الملمح الرئيس الذي يميز الجمالية العرفانية ويشكل خصوصية أفقها الإنسي المنسي، لذا واعتبارا لشاطئية موجز هذه المداخلة قياسا إلى بحرية الطموح الذي تنخرط فيه فقد اختارت الاقتراب من موضوعها من خلال مطلات تستشرف أفقا ما زال ينتظر في شغف رياحا كريمة تدفع بسفن البحث فيه".

وأوضح الدكتور الحراق في مداخلته كذلك بعض الإضاءات والعلامات في الجمالية العرفانية، والتي رأى أنها تتعدد وتتنوع، بحسب تعدد وتنوع أمكنة قراءتها والاقتراب منها، مشيرا بهذا الاصطلاح، التفكير في مفهوم الجمال من داخل المنظور الإسلامي، وتعيينا، كما تبلور في السياق النظري والذوقي العرفاني، ثم التفكير فيه انطلاقا من مجاليه الإبداعي الأدبي والفني، كما تبلورت في الممارسة العرفانية، وهي جمالية ما فتئت تسمو بالإنسان في أفق يوهج فيه الروحانية من حيث هي شغف في معرفة ومحبة المطلق، ذاك الشغف المثمر للمعنى والمشكل لمقصد المقاصد في كل تجربة ذوقية عرفانية.

ويوضح الباحث المغربي أن اختيار اصطلاح العرفانية بوصفه نعتا للجمالية بدل اصطلاحات أخرى ممكنة، يكمن في أن هذا الاصطلاح يشير إلى الترقي في مراتب معرفة الله معرفة لا نهائية يتواشج ويتوالج فيها طلب المعرفة بطلب الفناء على بساط المحبة، كما يشير إلى ذلك الحديث القدسي "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق فبه عرفوني"، والمعرفة هنا أسبق من المحبة فيما محبة الله لنا في الأزل أسبق من محبتنا له إذ هي منبعها وممتحها.

كما حاول الحراق في مداخلته، الوقوف عند بعض ما يؤسس، جماليا، لإنسية روحانية في الإسلام؛ إنسيةٍ تقوم على أولوية الإنسان باعتباره مجلى للجمال الإلهي وأثرا للنفخة الروحية الأزلية، كما تقوم على أفق روحي كوني يتجاوز مختلف أشكال الانغلاقِ المهدِرةِ لمعنى التعالي فيه و النابذةِ لبعده الروحي، أكان ذلك باسم "العقل" أم باسم "الإيمان"، وهو ما اعتبرها مساهمة في بسط إمكاناتٍ تأملية في أفق إنسي منسي في الإسلام،  يتشيدُ على الوشج الجمالي و الروحي بين المحبة والمعرفة، و يعملُ على فتح باب رحبٍ لمعاودة النظر في كل نزوع إنسيٍّ يُقصي التعالي من اعتباره، و في كلِّ نزوع تديني يُلغي الإنسان، كأولويةٍ كونية، من أفقه.