ندوة: الدولة بين الدين والقومية

فئة: أنشطة سابقة

ندوة: الدولة بين الدين والقومية

استضاف مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي يوم الخميس الموافق 19مارس الجاري الباحث والمؤرخ الدكتور شريف يونس، والمفكر الفلسطيني الكبير سلامة كيلة ضمن فاعليات ندوة بعنوان "الدولة بين الدين والقومية، في حوار امتد لأكثر من ساعتين، وذلك في جلستين منفصلتين أدارهما محمد عزت الباحث بمركز دال.

استهل شريف يونس حديثه بالتمييز بين مفهومي الدولة الحديثة والدولة ما قبل الحديثة، حيث أوضح أن الدولة ما قبل الحديثة كانت ذات طابع إمبراطوري، افتقدت لوجود علاقات مباشرة بينها وبين الأفراد، ومع ظهور الأديان التوحيدية وبالأخص الإسلام، صار الدين هو رابطة الدولة ومكمن توحدها، لكن سيادة الدولة في رأيه كانت سيادة اسمية متعلقة بتنفيذ مجموعة من القوانين منسوبة للدين على مجموع السكان، حيث تتداخل الأعراف والتقاليد المختلفة للجماعات المحكومة من قبل الإمبراطورية الواسعة، وأن فكرة كون الدولة الإسلامية ما قبل الحديثة تحكم بالشريعة هو حديث أشبه بـ"الفانتازيا" على حد تعبيره.

وأكد يونس أن السبيل الوحيد للدولة الدينية في العصر الحديث هو علمنة الدين؛ بمعنى وجود مجموعات معينة تعتبر نفسها المسئولة عن إنفاذ الدين، فتصبح حاملة للإرادة الإلهية، على عكس ما كان قبل الحداثة من وجود إرادة إلهية مظللة للمشهد السياسي، بالتالي يصبح تحقيق الدولة الدينية هو الاستيلاء على الدولة الحديثة، والدولة الحديثة هنا بمعنى الدولة التي تتعامل مع الأفراد بوصفهم أفرادا بشكل مباشر، تسجلهم في دفاترها، وتراقبهم من بداية حياتهم وحتى موتهم، وبالتالي يكون المعيار الأصولي للدولة الإسلامية هو تولي جماعة المؤمنين لمقاليد الدولة.

وبحسب شريف يونس، فإن الدين يتحول بدون هذه الفكرة، إلى نوع من أنواع الضمير الفردي الشخصي، وهو ما أطلق عليه مفهوم "الدين الفردي"، حيث لا يوجد معيار عام للدين وفروضه.

ثم تطرق شريف يونس إلى ما وصفه بالمشكلة الكبرى في التعامل مع الحداثة، وهو إعادة تعريف الدين؛ بمعنى متى نقول: "إن هذه الدولة دولة مسلمة"؟، حيث توجد في رأيه عدة اقتراحات؛ الأول: هو الاقتراح الأصولي بمعنى "استيلاء جماعة المؤمنين على جهاز الدولة من أجل تنفيذ الإرادة الإلهية"، والثاني: هو اقتراح الإصلاح الذي يمثله "محمد عبده"، وهو اقتراح مصاغ على نحو "الإسلام دين الدولة"؛ بمعنى أن الدولة تدخل لضبط أمور ما في المجتمع وفقا لأفكار دينية محافظة وتتبنى وتمول في الوقت نفسه مؤسسة دينية معينة - كالأزهر في الحالة المصرية- على ألا يتم ذلك وفق علمنة تامة للدين (بمعنى إحلال الإرادة الإلهية في الدولة التي يقوم عليها جماعة المؤمنين)، والاقتراح الأخير: هو الدين الفردي (أي الدين بوصفه ضميرًا فرديًا غير معياري)، وتلك الاقتراحات الثلاثة من وجهة نظر شريف يونس هي الاقتراحات المتصارعة في عصر الانتقال من الدولة القديمة "دولة الجماعات" إلى الدولة الفردية.

وفي رده عن سؤال حول مدى قدرة المؤسسة الإسلامية الرسمية على فرض رؤيتها المؤيدة للدولة القومية الحديثة في التجربة المصرية، والتي في نظرها لم تخالف الدين أبدًا حتى في مشاريع قوانينها، أجاب شريف يونس بأنه ليس في استطاعة أية مؤسسة الآن – سواء كانت دينية أو غير دينية- أن تفرض تصورا من أي نوع عن حقيقة شيء ما، كما أن الصيغة التي تتبنى فكرة أن الدولة تحافظ على الإسلام ما هي إلا صيغة من صيغ الدولة السلطوية الدكتاتورية الحديثة؛ فالدولة في هذه الصيغة لا تعبر عن السكان ولا عن إرادتهم، وإنما تعبر عن جوهر ما بداخلهم سواء كان جوهرا قوميا أو دينيا، فهي بذلك تميز بين الناس وفقًا لمدى قربهم من الحقيقة أو بعدهم عنها، وهذه المحاولة التي تتم دائمًا هي محاولة فاشلة، لأنها لا تفهم طبيعة المجتمع الحديث متعدد المراكز.

وبسؤاله عما ذكره في كتابه "البحث عن خلاص" من أن تدخل الدولة القومية الحديثة في القضاء لم يكن بدافع الانزعاج من العقوبات العنيفة كالجلد والرجم، وإنما كان بدافع السيطرة على المجتمع، ومدى علاقة ذلك بمنافسة الدولة الآن للإسلام الحركي، وهل هو بدافع الانزعاج من أجندته الرجعية والعنيفة، أم إنه أيضًا بدافع الرغبة في السيطرة على المجتمع، أجاب بأن الصراع بين الإسلاميين والدولة الآن ليس له علاقة بالسياق التاريخي لتعامل الدولة القومية مع العقوبات الإسلامية؛ فالإسلاميون يتحدثون الآن عن جماعة تشبه جماعة الغزو تسيطر على الدولة من أعلاها لكي تفرض نفس قواعد الدولة الحديثة بصفتها عملية علمنة للدين، فنحن الآن في العصر الحديث والكل يلعب وفق قواعد الدولة الحديثة بما فيها التيارات الإسلامية.

كما أكد شريف يونس في إجابته عن سؤال حول التعبئة القومية الحادثة في مصر الآن، وإذا ما كانت ستشكل دافعًا من أجل طموح نحو المساواة أم إنها ستشكل غطاءً ديماجوجيا لانعدام المساواة، أن ما يحدث في مصر لا ينبغي أن نسميه تعبئة؛ فلا يوجد في رأيه سيطرة مركزية على الإعلام في مصر، أو مؤسسات المجتمع المدني بشكل مركزي، وأننا بالتالي لا نعيش حالة ناصرية جديدة، وإنما هناك تحالفات قوية تقود الرأي العام. أما عن كون هذه الحالة ستدفع باتجاه ديمقراطية؛ فالمشكلة هنا تتعلق ببعد تاريخي متعلق ببناء القوى القادرة على حمل الديمقراطية، فالدستور المصري الحالي هو دستور ديمقراطي للغاية، ومع ذلك فالقوى الاجتماعية القادرة على إنفاذ تلك المواد في الواقع قليلة للغاية، بالتالي فتحقق الدستور بمزاياه وعيوبه سيحتاج إلى مدى تاريخي. 

وفي الجزء الثاني، تتبع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة تاريخ تشكل الدولة من "الدولة المدينة" إلى "الدولة الإمبراطورية"، وصولا إلى الدولة القومية الحديثة أو "الدولة الأمة"؛ فالدولة الإمبراطورية في رأيه كانت تحتاج إلى أيديولوجيا تستطيع أن تؤسس لاحمًا بين شعوب متعددة، لهذا كان نشوء الدين عنصرًا أساسيًا؛ ليصبح الدين هو أيديولوجيا الدولة، ثم تطور منظور جديد للدولة ارتبط بتطور البرجوازية ونشوء الصناعة، لهذا كان أساس الدولة الحديثة هو القومية التي صارت مفصلًا للعلاقات الدولية في العصر الحديث، وهنا نشأت المقابلة بين الدولة الحديثة التي تقوم على نمط الإنتاج الصناعي بعكس الدولة الإمبراطورية التي كانت تقوم على الزراعة بالأساس، وانعكس هذا التغير الاقتصادي على الفكر من حيث نشوء "العقلنة" و"إرادة الشعب" و"الدولة الأمة" وأخيرًا نشوء المواطن كـ"فرد"، ومن ثم الانتقال إلى فصل الدين عن الدولة.

وانتقل كيلة إلى عالمنا العربي، مؤكدًا أن تطور أوروبا انعكس سريعًا على عالمنا؛ فمحاولة محمد علي باشا سبقت ألمانيا في التطور، حيث تبنى مشروعًا نهضويًا ينطلق مما تبلور في أوربا، قام على الصناعة والدولة القومية ومدنية التعليم كعناصر أساسية، لكنه فشل لأن الحامل الطبقي له لم يكن مهيئا لإنجاحه؛ فالبرجوازية في وقتها لم تكن مهتمة بالصناعة أو السيطرة على السوق الداخلي؛ فالتنافس لم يكن ممكنًا في وضع البنى المتخلفة القائمة آنذاك، لذلك اختارت البرجوازية العربية أن تنشط في المجال الذي لا يسبب لها صدامًا مع الرأسمالية الأوروبية، وهو القطاع المرتبط بالتجارة والخدمات والبنوك بشكل أساسي، وفي المقابل كان صراع القوى الدينية في المرحلة الأولى يعتمد على تكريس الدولة العثمانية لمشروع يحاول الحفاظ على تلك الجامعة وتحديثها من داخلها؛ انطلاقًا من الدين، ومع انهيار تلك الدولة انتقل الصراع ليكون أكثر احتدامًا مع الفكر الحديث عمومًا، وكان هذا ظاهرًا مع رشيد رضا بشكل مباشر، ومن ثم مع نشوء حركة الإخوان المسلمين التي سعت لإعادة إنتاج القوى التقليدية القديمة، فلم تكن معادية للإقطاع ولا للنظام الملكي، وكانت ترى أن الخطر يأتي من الفكر الذي يحاول بناء دولة حديثة حتى بمعناها الرأسمالي.

وبسؤاله عن الاختلاف داخل الحقل الديني نفسه على فكرة الدولة القومية الحديثة، حيث ترى المؤسسة الدينية الرسمية أن تلك الدولة نشأت لتحمي الدين، ولم تخالفه أبدًا حتى في مشاريع قوانينها، مقابل رؤية بعض الإسلاميين بالأخص الشباب منهم أن هذه الدولة القومية فكرة جلبها الاستعمار لمحاربة الدين، وإلى أي مدى يرى أن هناك تنازعا بين القومي والديني على كيان الدولة، أجاب بأن الصراع ليس بين الدين والقومية، وأن هذا فقط هو شكل الصراع، مؤكدا أن الأمر يتعلق بنشوء طبقات جديدة تريد أن تشكل دولة جديدة تمثل البرجوازية في المرحلة الأولى، وبالتالي فالتطور الذي تدفع به هذه القوى يؤدي إلى تهميش القوى التقليدية، ففرض التعليم المدني يعني إلغاء تعليم الكتاتيب في هذا الوقت، وفرض أن تتحكم الدولة في الزواج والطلاق والعلاقات الاجتماعية يعني انتهاء دور الشيوخ، بالتالي كان طبيعيًا أن تلعب المؤسسات التقليدية دور الرافض للتغيير، لكن حين حدث التغيير تكيفت المؤسسات الرسمية مع الدولة الجديدة وخضعت لها، وبالتالي صارت تعبر عنها. أما الفئات التقليدية المتبنية لفكرة بناء دولة انطلاقًا من الشريعة؛ فترى بالضرورة أن الفكر الحديث هو عدو وجودها، وبالتالي كانت معركة الإسلام السياسي هي معركة مع الفكر الحديث عمومًا، وهذا ما جعل التقاطع بينها وبين الاستعمار تقاطعًا كبيرًا، لأن الإمبريالية أيضًا كانت ترفض تغلغل الفكر الحديث في البلدان المستعمَرة، وبالتالي كانت معنية بالمحافظة على البنى التقليدية كي تخضعها لمصالحها؛ فالأصولية الوهابية تحارب الفكر الحديث، لأن هذا الفكر يؤدي إلى إلغاء البنى الاقتصادية القائمة على الريع لصالح بنى منتجة حديثة تلغي سيطرة الأيديولوجيا القديمة.

وفي إجابته عن سؤال حول شروط استمرار الدولة القومية، أكد كيلة أنه لم تتشكل دولة قومية بالمعنى الحرفي للكلمة في العالم العربي، وإنما ما تشكل هو دول قطرية، وأن دراسة التجارب القومية كتجربة عبد الناصر أو البعث، تؤكد أن الأساس كان هو منع الإسلام السياسي، وإبقاء الشريعة قائمة في المجتمع فقط في إطار المسائل الشخصية، مع الحفاظ على دور الدين بمعناه العام في المجتمع، بالتالي فهذه النظم لم تكن علمانية بالمعنى الدقيق.

وعن إمكانية منافسة الماركسية بمنهجها العلمي الصارم للدين والقومية على صعيد قدرتهم على إعطاء معنى للحياة وهوية للفرد، أكد أن الدين كان قادرًا على إعطاء معنى ما للحياة في الماضي، لكنه الآن غير قادر على ذلك إذا نظرنا  بمنظور شخصي أو مجتمعي؛ فالدين يلبي حاجة روحية في لحظة الأزمات، لهذا كان هناك انتشار واسع للدين مع نشوء الانهيار الاقتصادي الذي حدث، وهو ما مثل انسدادًا في الأفق أمام قطاعات واسعة من الشباب، مما أدى إلى اللجوء لما هو روحي، ولكن حين يتجدد شعور الفرد بأن لديه مشروعا، سيتراجع هذا العنصر الروحي، وعمومًا الماركسية لا تتعارض مع السعي من أجل تشكيل "الدولة الأمة"، فمن أجل وجود اتحاد أمم يجب أن تكون الأمة موحدة أصلًا، وفي ظل الرأسمالية "المافياوية" المسيطرة – على حد تعبيره - على العالم، سيكون مشروع التحرر أكثر ارتباطًا باليسار والماركسية؛ فالليبرالية تعيد إنتاج التمايز الطبقي القائم.

وبسؤال سلامة كيلة عن إمكانية إعادة طرح التبشير باقتراب عصر نهاية القوميات، وعن رأيه في أطروحة عالم الاجتماع الماركسي "توم نايرن" من أن النظرية القومية تمثل الإخفاق التاريخي الأكبر للماركسية، أجاب بأن نهاية عصر القوميات لا يلوح في الأفق الآن؛ لأن العالم يقوم على التمييز القومي؛ فالقوى الإمبريالية تسيطر بوصفها "أمم إمبريالية" على العالم، فالقومية لن تصبح جزءًا من الماضي إلا بعد نهاية الرأسمالية، وأما عن فشل الماركسية في تفسير القومية فهذا جزء من إشكاليات الماركسية بكل تأكيد، وقد كان الموقف من القومية مع كتابات ماركس وإنجلز وحتى مع لينين مواقف واضحة تميز بين "أمم مضطهٍدة وأمم مضطهَدة" وحق تقرير المصير وما شابه، لكن بالتأكيد لم تكتب نظرية كاملة في الماركسية حول مسألة القومية، لهذا حين أصبحت الماركسية السوفيتية هي المهيمنة، أصبح هناك إشكال بفهم القومية في إطار الماركسية.

وفي نهاية كل جلسة طرحت أسئلة عدة ، ومداخلات من جمهور الحضور، حيث اكتظت القاعة بعدد كبير من المهتمين في الوسط الثقافي المصري، وسط تغطية إعلامية كبيرة.