ندوة: مناهج دراسة التدين في العلوم الاجتماعية

فئة: أنشطة سابقة

ندوة: مناهج دراسة التدين في العلوم الاجتماعية

 متخصصون في علم الاجتماع يسلطون الضوء على مناهج دراسة التدين بصالون جدل الثقافي


احتضن صالون جدل الثقافي التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بمقرها في العاصمة المغربية الرباط، وخلال يومي السبت 21 والأحد 22 (تشرين الثاني) نوفمبر 2015، أشغال ندوة دولية حول موضوع "مناهج دراسة التدين في العلوم الاجتماعية" بمشاركة ثلة من الدكاترة والأساتذة الباحثين من دول المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس ومصر.

انقسمت أشغال الندوة على خمس جلسات رئيسة؛ عرفت كل جلسة مناقشة موضوع الندوة من وجهة نظر مختلفة، لإغناء النقاش، والخروج بأكبر كم ممكن من الخلاصات في الموضوع الذي بات من أبرز المواضيع الشاغلة اليوم، خصوصا عندما يرتبط التدين ارتباطا وثيقا بالعلوم الإنسانية على الأقل في المجتمعات العربية، إن لم يتعدّها.

وإبرازا للأهداف التي تسعى مؤسسة مؤمنون بلا حدود لتحقيقها من خلال هذه الندوات، فقد ألقى المنسق العام للمؤسسة الدكتور مولاي أحمد صابر كلمة أوضح فيها أن هذه الندوة التي تدخل في إطار افتتاح الموسم الثقافي 2015-2016، تأتي من كون علاقة التدين مع كل فرد في المجتمع علاقة وطيدة، وكذا كون هذا التدين يمس الفعل الإنساني بشكل عام، خصوصا وأن مشاكل العالم اليوم، ولو في بعض أطرافه، تكمن في التدين، وتحقيق تدين وسطي يتصف بالاعتدال والحوار، ولذلك فإن موضوع الندوة لدراسة التدين في العلوم الاجتماعية، مهم جدا، لكون العلوم الاجتماعية بمناهجها وآلياتها المتعددة والمتنوعة يعود لها الدور الكبير في دراسة ظواهر التدين بشكل عام.

من جانبه، تقدم الدكتور منير السعيداني من تونس بصفته منسق أشغال هذه الندوة، بإلقاء كلمة بدأها بتوجيه الشكر لمؤسسة مؤمنون بلا حدود على إتاحتها هذه الفرصة للباحثين من شتى الأقطار وشتى المشارب العلمية المختلفة في هذا الموضوع المهم، من أجل تبادل الآراء ووجهات النظر المختلفة، وموجها الشكر كذلك إلى الطلبة والباحثين، حضورا ومشاركين، على مساهماتهم الفعالة في إغناء الموضوع، وعن سبب اختيار الموضوع بالذات، أوضح الدكتور السعيداني، أن الأمر راجع إلى سببين رئيسين على الأغلب؛ أولهما أن العالم بات يعيش اليوم ما يمكن أن يسمى "زمن تفجر للمجال الديني" بصرف النظر عن كون هذا التفجر بأسباب من الداخل أو من الخارج، إذ إننا إزاء حركيات متوترة وعالية التوتر، كثيرة العمق، واسعة الانتشار، لمسائل التدين والدين في علاقتها بكثير من المسائل، أولها مظاهر الحياة اليومية وكيفية عيش الأفراد وصولا إلى المسائل السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ولذلك فإننا في هذه اللحظات، يوضح الدكتور سعيداني، نحتاج إلى لحظات تأمل حتى نرى أين نحن.

أما ثاني أسباب إقامة هذه الندوة، فيوضح الدكتور سعيداني، أنه يتعلق بكون الأعمال المقدمة في هذه المسألة سواء كانت أعمالا أكاديمية، أو خارج الأكاديمية، أو لها علاقة بالأكاديمية في الكثير من الأقطار أو المؤسسات العربية، قد تشكو من بعض التشتت أو ضعف انعدام الانسجام، أو على الأقل الاطلاع على الاتجاهات الغالبة أو السائدة، بالتالي فإن إثارة مناقشة داخلية بين المهتمين بالمسألة، فيها الكثير من الأهمية، خصوصا بالنظر إلى أننا لا نعيش في محيط منعزل، ولكن نعيش في مجال أكثر فأكثر عولمة، أكثر فأكثر كوكبة، وأكثر فأكثر تأثيرا وتأثرا، من المجالات العلمية، في فضاء يبدو أن الحدود القومية فيه والحدود الثقافية بصدد التحطم بشكل سريع، لذلك فإننا نحتاج اليوم إلى أن نتموقع بالنسبة إلى ما هو موجود في دراسة الدين والتدين في العالم.

الجلسة العلمية الأولى:

عرفت الجلسة العلمية الأولى، والتي سير أشغالها الدكتور عبد اللطيف الهرماسي من تونس، إلقاء مداخلة الدكتور عبد الغني منديب بعنوان "في التدبر المنهجي للتدين كموضوع للسوسيولوجيا"، حيث وقف الدكتور منديب عند مفهوم التدين، وتعريفه المتعارف عليه، من حيث هو الطريقة التي يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية، وهو التعريف الذي كان  يصعب فهمه على مجموعة من الآذان، بما فيها آذان بعض الأكاديميين، لأن مفهوم التدين آنذاك والسائد في الحس المشترك حسب الباحث، هو الذي يحيل على التقيد بالتعاليم الدينية والحرص على تطبيقها، فيقال في اللغة السائدة هذا شخص متدين وهذا شخص غير متدين، بغض النظر عن التحدث عن الطريقة وأسلوب التدين. أما اليوم ومع السياق الراهن الذي نعيشه جميعا، بدا هذا المعنى يدب إلى الأذهان، وبدا الناس يرون بأن هناك علاقات معرفية وإبستيمولوجية متعددة مع نفس المنظومة العقائدية.

المداخلة الثانية، والتي كانت للدكتور رشيد جرموني من المغرب، والتي عنونها ب "سوسيولوجيا الظاهرة الدينية والجدل الإبستيمولوجي أسئلة حول المنهج"، تركز محورها حول النقاش الأكاديمي القائم منذ مدة حول البراديغمات التفسيرية للظواهر الدينية، والذي أثار العديد من النقاشات والتجاذبات، حيث يوضح جرموني، أنه إذا ما كان الاختلاف في الرؤى والمقاربات الذي طال مفهوم الدين بين المؤسسين لسوسيولوجيا الدين، عند دوركهايم، وفيبر، وكارل ماركس مثلا، لم يسفر عن نموذج تفسيري موحد لمقاربة الظاهرة الدينية، فإن الأمر الأكثر إثارة للجدل هو الاختلاف في البراديغمات النظرية المفسرة للظواهر الدينية على اختلافها وتعددها واتساع أشكالها كمقولة "أفول الدين" ونهاية الميتافيزيقا، ناهيك عن جدل آخر محايث للأول، والذي يتعلق بالمناهج المستعملة في عملية قياس ودراسة الظاهرة الدينية، خصوصا عندما تم التعامل مع هذه الظاهرة كبقية الظواهر الاجتماعية.

من جانب آخر، يرى الباحث جرموني أن الاختلاف في المقاربات والرؤى والبراديغمات المفسرة للظواهر الدينية، إنما يعكس جزءا من النقاش الإبستمولوجي الذي صاحب طبيعة المنهج العلمي السوسيولوجي المستخدم في دراسة مثل هذه الظواهر، خصوصا ونحن نشهد تحولات عميقة تطال مجمل البناء المعرفي للسوسيولوجيا، ولسوسيولوجيا الدين بشكل خاص. ونقصد تحديدا ما أطلق عليه في الآونة الأخيرة ببراديغم الخطابات البديلة، أو "سوسيولوجيا الإسلام".

مداخلة الدكتور محمد الخياري من المغرب، وهي المداخلة الثالثة ضمن الجلسة العلمية الأولى، تناولت موضوع "راهنية المنهجية الفيبرية في دراسة التدين"، ناقشت بعض أعمال "فيبر" المختصة بالتدين، انطلاقا من كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، وهو الكتاب الذي حاول إبراز دور القيم الدينية في ظهور قيم العمل في المجتمعات الصناعية الجديدة، التي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي، والتي اعتبر فيها الدين من ركائز التغير الاجتماعي وفاعلا أساسيا فيه، وأن بعض الحركات الدينية كالبروتستانتية في صيغتها الكالفينية أحدثت تحولات جوهرية في المجتمعات الغربية.

وقد انطلق الباحث الخياري في مداخلته من الكتاب ليقارنه بالوضع الراهن، حيث وجد صداه من خلال الكم الهائل للدراسات التي تتساءل حول دور الأفكار والقيم في التغيير الاجتماعي، وحول ما إذا كانت السمات الثقافية ذات أثر في تنمية البلدان، وكذلك الاهتمام المتجدد للتأثيرات السياسية للأديان، وفعاليتها الاجتماعية، ودورها في توجيه السلوكيات الفردية في اتجاه تقوية التماسك الاجتماعي والإنساني، وفي دراسة التغيرات الاجتماعية التي تخترق المجتمعات الراهنة.

كما تعرض الباحث الخياري في مداخلته إلى مفكرين تأثروا بالمقاربة الفيبيرية، وأصبحوا يشكلون مدارس قائمة الذات في العلوم الاجتماعية والإنسانية كـ "بتر برجر"، "كليفورد غيرتز" و"يورجين هابرماس"، من حيث تبنيهم لمنهج يعتمد القرب من المعنى الذي يعطيه الناس لما يقومون به وما يعتقدونه في الدين في حياتهم اليومية، بعيدا عن التصنيفات النظرية العامة والتأكيدات الشمولية.

واختتمت أشغال الجلسة، بمداخلة الأستاذ حمادي أنوار من المغرب، والتي عنونها بـ "تجربة السجن وعلاقتها بالسلوك الديني - دراسة ميدانية على ضوء التحليل النفسي للدين عند إريك فروم"، حيث تساءل فيها عن المعنى الذي يضفيه الإنسان على حياته، بعد أن حقق فيها كل مبتغياته، منطلقا من تحليلات المحلل النفسي والفيلسوف الأمريكي "إريك فروم"، الذي بحث في الدين، باعتباره ظاهرة سيكولوجية، مؤسسا بذلك لمنهج جديد في دراسة الدين من منظور إنساني اجتماعي مشرحا السلوك العدواني والعنيف لدى الإنسان مبينا أهمّ محرضاته، وهو ما جعله يؤسس له كمنهج من مناهج دراسة التدين، يصلح للتطبيق على السلوك الديني للسجناء السابقين، من خلال إبراز العلاقة القائمة بين تجربة السجن والتدين.

الجلسة العلمية الثانية

انطلقت أشغال الجلسة الثانية، والتي سيرها الدكتور رشيد الجرموني، حيث تقدم الدكتور محمد يحيى باباه من موريتانيا بإلقاء مداخلته بعنوان "المخيال المؤسس للتمثلات الراهنة للتدين في المجتمع الموريتاني"، والتي جعلها عرضا بمنهجية فلسفية، معتمدا في ذلك على الأنثروبولوجيا المعرفية والرمزية، والسيكولوجيا المعاصرة، لإيضاح  المقاربات الفكرية لدلالات المخيال المؤسس للتمثلات الراهنة للتدين في المجتمع الموريتاني، حيث أوضح علاقة المخيال بالفعل الاجتماعي، والدلالات السياقية للدين والتدين، وتنزلاتهما الأكسيولوجية، ثم المخيال، باعتباره إطارا ناظماً للتمثلات، يعبر عن الفعل التأويلي للمجتمعات.

كما أبرز الباحث الموريتاني، هيمنة المخيال البانية لصورة ومضمون الفعل الاجتماعي في المجتمع الشنقيطي، واصفا  حضور النماذج الحركية، ثم الآفاق الختامية الجامعة للتمثلات، كأخيلة أنتجت وعيا متخيَّلاً شنقيطيا، تُمثـل إضافات الإنسان فيه، وكذا الأداء الإبستيمولوجي لفقه البادية كآلية لإخضاع النص.

واختتم يحيى باباه مداخلته ببعض المقاربات حول آفاق التجديد الديني في ثنائية (اللفظ ــ المعنى)، كإجابة عن تساؤله عن الصورة العامة التي يتقدم ضمنها الأنا الديني الشنقيطي،  وذلك لتحديد الخطوط العامة للمخيال بوصفه أنا أو ذاتا إسلامية تنشر مساحات فعل تعبدي يملك قوالبه الخاصة، وهو السياق الذي يوضع فيه السؤال حول إمكانية تحديد بنية أو نسق للدين في الفضاء الشنقيطي.

من جانبه، قدم الدكتور أحمد موسى بدوي من مصر في مداخلته التي جاءت بعنوان "المقاربة النظرية والمنهجية لظواهر التدين في علم الاجتماع المصري"، شرحا وافيا عن عمليات اكتساب وإنتاج المعرفة السوسيولوجية المعالجة لظاهرة التدين في الأكاديميات العربية، خصوصا المصرية منها، والتي تواجه جملة من التحديات، على المستوى الخاص لحقل السوسيولوجيا الدينية، وكذا على المستوى العام.

كما أشار الباحث المصري إلى أن هذه المنظومة تواجه تحديا من نوع آخر، يتمثل في تسارع تقادم المعرفة، وميلاد وموت مستمرين للنظريات والمنهجيات، وهو ما يستلزم تجددا مماثلاً في الأطر النظرية والمنهجية الملائمة للدراسات السوسيولوجية للدين. ليتساءل عن، علم الاجتماع المصري، وهل طور نظاما معرفياً أصيلا لوصف وفهم وتفسير ظواهر التدين في المجتمع المصري؟ وكذلك كيفية مقاربة علم الاجتماع المصري ظاهرة التدين نظريا ومنهجيا؟ وما العتبة الأنطولوجية والسياسية العلمية الحاكمة لهذه المقاربات؟

وتنوعت مداخلة الدكتور بدوي، بين عدة عناصر مهمة، ما بين مراحل تطور علم الاجتماع المصري، وتحليل ببليوغرافي للمنتج العلمي في ميدان علم الاجتماع الديني. ثم تحليل كمي وكيفي لعينة من الكتب الجامعية ورسائل الماجستير والدكتوراه المصرية في الميدان.

الدكتور زبير عروس من الجزائر، وفي مداخلته الخاتمة للجلسة العلمية الثانية، والتي جاءت بعنوان "في منهج دراسة الحركات ذات التوجهات الدينية"، فركز على "الجدوى المعرفية من دارسة مظاهر التديّن الاعتقادي، العَمَلي، الحَرَكي ومَوْجاته التاريخية". انطلاقا من التجربة الميدانية، ومن خلال قضايا المقاربات النظرية، وكذا سبل المناهج التي توظف في دراسة ومعالجة قضايا الحركات  السياسية، ذات التوجهات الدينية من حيث أشكال التنظيم الجمعوي، الحزبي، والخطاب  الأيديولوجي الذي تجمع بنيته بين عقائد الإيمان المبسط والقيم الأخلاقية المنظمة للسلوك الاجتماعي.

ورأى الباحث الجزائري، أن دراسة موضوعية لتلك الظروف تستلزم مقاربة أنثروبو- سوسيولوجية مكيّفة لفهم الوضع التاريخي والاجتماعي الذي تشكلت فيه، كحركة مطالبة وقوة تغيير جعلت منها الممارسة الفعلية  لبعض فصائلها حركة تعطيل لمسيرة ديناميكية عملية الانتقال السلمية في مجتمعاتنا.

الجلسة العلمية الثالثة

الجلسة العلمية الثالثة، والتي سير أشغالها الدكتور زبير عروس من الجزائر، افتتحت بإلقاء مداخلة الدكتورة بشرى زوكاغ من المغرب بعنوان "التعابير الافتراضية عن القناعات الدينية لدى الشباب العربي"، والتي رأت فيها أن النموذج الاستهلاكي هو المهيمن على التفاعل الاجتماعي والتبادلية الرمزية للمجتمعات الحديثة داخل العوالم الافتراضية التي تنتجها وتبنيها شبكة الإنترنيت، إلا أن التحول الديني في اختيار أسلوب الحياة، ربما يكون دليلا على تزايد أهمية الدين الاجتماعية ونشأة سوق دينية مزدهرة، تؤشر على تنامي اقتصاد الاعتقاد وظهور منتجين ومزودين جدد يعرضون بضاعتهم بشتى الطرق، ومستهلكين كثر أغلبهم من الشباب يتبضعون ما لذ وطاب لهم من أشكال وممارسات وتطبيقات، بما يوافق قناعاتهم ومشاعرهم ويخدم ترميق الهوية لديهم.

وتناولت الباحثة المغربية في مداخلتها ظاهرة التدين لدى الشباب داخل الواقع الافتراضي للإنترنيت، من منظور تفهمي، مع محاولة تفسير التعبير عن أشكال التدين الجديدة، من حيث هي تعبيرات افتراضية نابعة عن قناعات شخصية تعكس الضرورة الوجودية والهوياتية لدى الشباب المتدين، معتمدة في ذلك على  ثلاثة مفاهيم أساسية هي الشباب والدين والواقع الافتراضي، باعتبارها من أكثر المفاهيم التباسا وغموضا، والتي تعبر عن حالة انتقالية مستعصية، فالشباب مرحلة انتقالية صعبة من عالم الطفولة إلى عالم الكبار، والدين صلة وصل بين الحياة الطبيعية وما وراءها مع ما يصاحب هذا الوصل من غموض والتباس، وكذلك الواقع الافتراضي بما هو سيرورة انتقالية من واقع طبيعي مادي إلى واقع افتراضي رقمي المحدود.

المداخلة الثانية، والتي قدمها الأستاذ محمد الحوش من المغرب، بعنوان "نمط الشخصية والتدين من منظور نموذج إيريك فروم التحليلي؛ استخلاصات دراسة ميدانية"، رأى فيها أن التفكير في الدين يفرض توسيع منهجية النظر والتحليل، من خلال أخذ مجموعة من المعطيات ذات البعد الاجتماعي والإنساني بنظر الاعتبار، إضافة الى البعد النفسي والروحي كبعد جوهري في مقاربة الموضوع؛ لأن الدين يمثل استراتيجية معرفية، وشكلا من الإفصاح عن سلوكيات طقوسية، وضربا منظما من العقائد، وهو في النهاية آلية اجتماعية ثقافية لتحديد الهوية العرقية والسياسية وما شابهها".

ولذلك، فإن الباحث يرى أن إشكالية التدين تطرح بين الفردي والجمعي، بين الحميمي والخاص لدينا وبين ما يتجاوزنا موضوعيا في إطار المجال العام. ما يجعل التساؤل قائما عن آليات تدبير هذه الاختيارات داخل الفضاء العام بالنسبة إلى هؤلاء ؟.

المداخلة الأخيرة في الجلسة العلمية الثالثة، كانت من طرف الدكتور طارق يشي من المغرب بعنوان "التدين بالمغرب: دراسة في الأصول والامتداد"، والتي رأى فيها أن عملية التدين تعتبر إرثا ثقافيا ظهر بظهور الإنسان، وتطور بتطوره، وتعدد باختلاف مجالات انتمائه، حتى صرنا أمام أشكال لا حصر لها للتدين، وبما أن المجتمع المغربي لا يخرج عن هذه القاعدة، باعتباره جزءا لا يتجزأ من هذه المنظومة الثقافية الكونية، فقد عرف التدين منذ فترات تاريخية قديمة، واستطاعت الأبحاث التاريخية أن توضح بعض الطقوس التي كانت معتمدة في زمن معين، سواء قبل مجيء الإسلام أو بعد ترسخه في أذهان المجتمع، إلا أن الإشكالية التي تبرز هنا حسب الباحث، هي خاصية الاستمرارية في هذه الطقوس، خاصة أمام إضفاء طابع القدسية عليها من جهة، وإلصاق كثير منها بالدين الإسلامي من جهة ثانية، لتبدأ عملية التعصب، ورفض الانقطاع مع الممارسات المختلفة.

ويوضح الباحث المغربي يشي، أن دراسة التدين انطلاقا من المقاربة التاريخية، تتيح لنا إمكانية رصد أصول الظاهرة وامتداداتها، بشكل يجعلنا نفهم السياق التاريخي لبروز المذاهب والطوائف الدينية، ومعرفة الأسباب وراء انتشارها، وبالتالي إمكانية الوصول إلى فكر ناقد وواع، وليس متلقيا ومعطلا، وبالتالي الوصول إلى درجة الاقتناع بالنسبية في التأويل والاجتهاد الديني، واحترام الرأي والرأي الآخر، وقبوله وعدم الصدام معه.

اليوم الثاني من ندوة

الجلسة العلمية الرابعة:

تميز اليوم الثاني من الندوة بتسليط الضوء على مناهج دراسة التدين، من خلال تفكيك علاقة علم الاجتماع بالدين ودوره في المجتمع، ومن خلال التركيز على التفاعل المتبادل بين الدين والمجتمع والافتراض الأساسي لهذا الأخير بتركيزه على البنية الاجتماعية التي تشمل الخبرة الإنسانية والثقافية . 

 لم يركز اللقاء، الذي جمع بين باحثين شباب ومتخصصين أمضوا عمرا كبيرا في الغوص في المبنى والمعنى السوسيولوجي للدين والتدين، فقط على  البحث في المناهج والنظريات الاجتماعية في دراسة الدين وتطوره،  مع الأخذ بعين الاعتبار أن تاريخ الأديان علم جديد لا يزيد عمره عن مئة سنة، بل غاص في حيثيات المناهج المؤسسة لدراسة التدين من خلال طرح مجموعة من العناصر المؤسسة للمنهج، كأداة علمية موضوعية للفهم النسق السوسيولوجي للتدين، ومن أهم العناصر عالج الباحثون الرمزية كبناء لنموذج تفكيكي للمعنى، وقراءة الواقع كعنصر أساسي أيضا، كما قدموا قراءات مهمة في تقارير وطنية ودولية حول الحالة الدينية، سواء في المغرب أو تونس.

فصل الباحث المغربي جمال الخلوفي في مداخلته التي كانت بعنوان "مناهج دراسة التدين: الرمزية وبناء نموذج من المخيال"، أهمية الرمز في التأويلية الرمزية، كمنهج تأويلي ينظر للدين من منظور سيميائي، وبالتالي يجعل من الدين والثقافة أيضا نصاً قابلا للفهم والتأويل، فعندما نحاول أن نحلل ثقافة معينة، ظاهرة معينة، أو دين معين، نبحث عن رمز أساسي يشكل جوهر هذه الظاهرة، وبفهمه نفهم باقي الرموز المحيطة به.

كما قدم بحثا في المخيال ورمزيته، ولم يكتف فقط بطرح السؤال حول ما السبيل للوصول إلى المخيال كعنصر مؤسس للتصورات الجماعية للأفراد والمجتمعات؟ بل قدم طرائق عن كيفية بناء نموذج عنه.

وأكد أن السؤال حول المخيال، هو طرح أساسي،  بل هو إشكالية في حذ ذاتها، إذ يتساءل الباحث: هل يمكن أصلا الوصول إلى المخيال في حد ذاته؟ وقد أجاب الخلوفي في ورقته عن هذا الاستشكال من خلال قوله إنه لا يمكن الوصول إلى المخيال، بل إلى نموذج يحاكيه ويقاربه. كما قدم ثلاثة عناصر لدراسة المخيال وتحديد نموذج له، وهي أولا مفهوم الخيال، الذي يقود الباحث إلى الرمز، والمخيال، وقد اعتبر الثلاثي (الخيال، المخيال الرمز) كعدة مفاهيمية أسياسية لتقديم نموذجا تطبيقي عن المخيال. 

سافر الباحث المغربي المتخصص في السوسيولوجيا، الدكتور عبد الرحيم العطري في مداخلته المعنونة بـ "التدين ملاحظا: قراءة في تقارير وطنية ودولية حول الحالة الدينية بالمغرب"، قبل تقديم قراءة في تقارير وطنية ودولية حول الحالة الدينية بالمغرب، بالحضور في رحاب المقدس متسائلا عن أهمية فهمه، وفهم الحالة الدينية، قبل قراءة المناهج التي سعت لمقاربته في تقارير أو في دراسات أكاديمية، وقد استشهد في بداية ورقته بمقولة جوليا كريستيفا:" إنني أسافر، ولكن سفري هذا هو عبور من ذاتي، وهو أيضاً عبور للآخر، إنني أسافر، لأعبر حدودي ولأعبر حدود الآخر أيضاً"،  البحث العلمي هو اكتشاف للآخر، هو اكتشاف للواقعة الاجتماعية، هو إمكان لاكتشاف المعنى الذي ينسكب في هذه الوقائع، وبما هو عبور، طرح العطري السؤال هل من الممكن أن نعبر إلى المقدس؟ أن نعبر إلى جوهر العملية التدينية؟ وبما أنه سفر هل يمكن أن نمارس هذا السفر لنكتشف سر الأشياء؟

كما تساءل هل في المقدور قياس الحالة التدينية لمجتمع من المجتمعات؟ خصوصاً أن عبارات جديدة طلعت علينا بما هو أن المغرب ثالث دولة من حيث التدين، وهنا اختلاف كبير في تفسير وتبرير مفهوم التدين، وما الذي تعنيه عبارة تدين؟ هل نقرأ المجتمع من خلال التدين؟ أم نقرأ التدين من خلال المجتمع؟ هل من الضروري تكميم السلوك الديني؟ وأن نقول مثلا 37 في المئة من المغاربة يؤدون الصلاة؟  هل من الجدوى العلمية أن نتحدث بكل يقينية وبكل إطلاقية عن عبارات تكميلية حول السلوك الديني؟ ثم أخيراً هل ما ننتهي إليه من خلاصات بصدد السلوك الديني ينسحب على الفرد أم يمتد على الممارسة الجمعية؟ باعتبار أن التدين في النهاية هو ممارسة فردية؟ كيف ننتقل من توصيف ما هو فردي إلى التعميم على ما هو جمعي؟ هذه الأسئلة لديها امتدادات على فصول أخرى، خصوصاً ارتباطها بهذه الحالة الدينية أو تقارير الحالة الدينية،  ما حدود الجدوى الفعلية التي تكتسيها تقارير الحالة الدينية؟ ما هي خلفيتها المنهجية؟ واستراتيجيتها البحثية؟ ماهي مزالقها واستئنافاتها الضرورية ؟ أي بديل منهجي ممكن لدراسة التدين؟ وهل الدين اليوم يسير في خطاب البدايات على خطاب النهايات؟

قدم العطري في البدء سياقين متلازمين لارتفاع الطلب على السوق الدينية، وعلى اسئلة الدين والتدين، وتجلى الأول في ما أسماه بسياق الدمع والدم، أغلى سائلين في الحياة، مشيرا أننا نعيش اليوم انهراقا في هذين السائلين بدون مبرر وأحيانا مع مبرر على أقل في ذهن مقترفه. أما السياق الثاني، فأرجعه إلى ما سمي بالعودة للديني.

على مستوى الحالة الدينية، لابد من معرفة، كما يقر العطري، أن توصيف الحالة أصبح اليوم يمارس نوعا من الإغراء على الكثير من المؤسسات العلمية مغربيا، ويجب أن نعود دائما إلى الجذور؛ هناك كتاب أشرف عليه الكثير من الباحثين وهو كتاب"l’état du Maghreb"  وتعني حالة المغرب، الذي أشرفت عليه كامي وإيف لاكوسط، ، وفي هذا الكتاب تم استجماع مجموعة من المعطيات الوثائقية حول المغرب في مختلف المستويات المعيشية، وهو المنطلق الذي أغرى مجموعة من الباحثين خاصة في العلوم السياسية لاستعمال كلمة حالة.

وقد خلص العطري إلى أن معظم تقارير الحالات الدينية تنبني على المنهجية التقريرانية التي تتمركز بالأساس على معطى التكميم وليس التكييف، لأن الهدف في النهاية هو الخروج بأرقام صادمة، وما هو الرقم الذي سيتم تسويقه إعلاميا، مثلا تقرير كالوب الذي كان حول التدين والآحاد كان بالنسبة إليه رقم ارتفاع عدد الملحدين في السعودية أكبر نصر، كيف لدولة تقام فيها المراكز المقدسة أن تحوي هذا الرقم المهول، وبالتالي فالأهم لعدد كبير من معدي تقارير الحالات الدينية هي الفرقعات الإعلامية، عوض التركيز على المناهج العلمية الأكاديمية التي تعتمد في عمقها على الجانب البحثي الأكاديمي المحض والموضوعي في غالب الأحيان، ولا تهمها الأرقام والضجات الإعلامية التي تحوي في عمقها جانبا أيديولوجيا متخفيا. 

انتقل الدكتور منير السعيداني في مداخلته المعنونة بـ "أسئلة المنهج في تقارير الحالة الدينية العربية" بين أهم التقارير للحالة الدينية في المغرب وتونس والأردن ومصر، موضحا أننا إزاء تعدد مصادر الطلب وطنيا ودوليا( التقارير التي تخرج  في وزارة الخارجية الأمريكية مثلا) ، وإزاء نوع من طلب أيديولوجي،  ففي السياق العربي مثلا هناك حاجة لتأكيد بعض الحقائق والوقائع التي تبنى عليها تحاليل سياسية انطلاقا من تقارير الحالة الدينية، كما أن حالة الدين والتدين هي محط صراع أيديولوجي وسياسي. إننا أيضا إزاء أثر متبادل بين التقرير والجهد الأكاديمي البحثي بمعناه الدقيق، إذ لا يمكن للأكاديمية أن تتغاضى عما يحدث في الساحة، كما لا يمكن لهذه التقارير عن الحالات الدينية أن تتغاضى عن التراث المتراكم من البحوث بالمواصفات الأكاديمية في مسألة الدين والتدين.

وفي نهاية هذا اللقاء العلمي في يومه الثاني في ندوة " مناهج دراسة التدين في العلوم الاجتماعية"، أقيمت جلسة حوارية جماعية حضرها كل من الدكاترة: عبد الرحيم العطري، منير السعيداني، عبد اللطيف الهرماسي، ورشيد الجرموني، وقد تميزت بفتح نقاشات حول الصناعة الاجتماعية ومدى أهمية الحوار الواجب فتحه بين كل الفاعلين في هذا المجال في العالم العربي، والهدف هو تبادل الخبرات من أجل مناهج علمية أكثر انفتاحا وإتقانا على مجالات متعددة وعلى رؤى متنوعة.