يوم دراسي في موضوع: المتخيّل والعنف

فئة: أنشطة سابقة

يوم دراسي في موضوع: المتخيّل والعنف

احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس يوم الخميس 28 أبريل الجاري، فعاليات اليوم الدراسي: ''المتخيل والعنف''، الذي نظمته كل من مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ووحدة البحث في المتخيل، وقد افتتح اليوم الدراسي بكلمات ترحيبية قدمها د. بسام الجمل رئيس وحدة البحث، الذي أشار إلى أهمية انفتاح وحدة البحث على الهيئات العلمية والبحثية الجادة في هذا الباب وأهمية التعاون معها، كما أشار إلى أن الوحدة منذ تأسيسها قد دأبت على عقد أيام دراسية وندوات علمية دولية تطرقت إلى عدة مواضيع لها صلة بقضايا المتخيل، سواء كان المتخيل الأدبي أو الديني أو السياسي أو التاريخي. وقد نزّل هذا اليوم الدراسي في ذلك الإطار الذي يجمع بين المتخيل من جهة، والعنف من جهة أخرى. ثم أحال الكلمة إلى:

د. نادر الحمامي منسق مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في تونس، والذي انطلق من أحد المبادئ الأساسية لمؤسسة مؤمنون بلا حدود، ألا وهو مفهوم الإيمان باعتباره مفهوما مركزيا وفلسفيا لا يخص المدلول الإيماني الديني، بقدر ما يتفرّع إلى مدلولات متنوعة تجعل من الإيمان قيمة إنسانية منفتحة على العقل وعلى خيرية الإنسان وقدرته على التفكير وعلى التجاوز والنقد بالدرجة الأولى، وأشار إلى أن ذلك يكمن في مساعي المؤسسة نحو التعاون العلمي الجاد مع عديد الجهات البحثية ومن بينها وحدات البحث والكليات بصفة عامة. كما أشار إلى أن موضوع هذا اليوم الدراسي، يتقارب مع موضوع المؤتمر الثالث لمؤسسة مؤمنون بلا حدود الذي انعقد بالمملكة الأردنية، وحمل عنوان ''الدين والشرعية والعنف'' مما سيجعل من أعمال هذا اليوم الدراسي إضافة مهمّة لما توصلت إليه أشغال المؤتمر. وأحيلت الكلمة بعد ذلك إلى:

 د. مرشد القبي منسق اليوم الدراسي، والذي تطرّق في كلمته إلى أسباب اختيار مسألة ''المتخيل والعنف'' لهذا اليوم الدراسي، فبيّن أنها تنبع من حاجة مجتمعاتنا محليا وإنسانيا، حيث ترتفع فيها درجة العنف وتتنوع أشكاله "بشكل يثير الضمائر، ويدفع العقول إلى التفكير في هذه الظاهرة"، وأشار إلى أن وقائع التاريخ وحياة المجتمعات تخيّب الأديان والأفكار والفلسفات والإيديولوجيات التي تعد الإنسان بالخلاص من الحروب والعنف والتوحش، فتبقى وضعية الإنسان إشكالية بين التوق إلى الحياة والتحضّر من جهة، والعجز عن تدبر سبل العيش الآمن الخالي من كل أشكال العنف من جهة أخرى، وبيّن أنه في هذا الإطار يتنزل هذا الموضوع لليوم الدراسي حول المتخيل والعنف.    

وانطلقت الجلسة العلمية الأولى برئاسة د. فيصل سعد، وبمداخلة قدمها د. أنس الطريقي، بعنوان: المتخيل والعنف: تفسير لصلاحيّة الحلّ الهيومي، أو نحو نظرية في الإنسان تحلّ مشكلة العنف: إعادة النظر في فلسفة دافيد هيوم'' أشار فيها إلى أن فرضية المداخلة مؤدّاها أن كل موقف مغلق هو موقف يقوم على تعريف معيّن لذات قارة وثابتة، ولذلك فهو موقف مانع من التحرّر، ومن ثم فهو منتج للعنف حتما. وأشار أنه من هذا الجانب يمثل التحليل الهيومي للإدراك نمذجة للإنسان تؤسس فلسفيا ومن منظور فلسفة الذات قطعا مع الموقف الهووي، بوصفه مصدرا للعنف. كما أشار إلى أن تناوله لهذه الفرضية ونسق الاستعمال الفلسفي لدافيد هيوم كان بالاعتماد على كتابيه الأساسيين، وهما: ''رسالة في الطبيعة البشرية'' و ''مبحث في الفهم البشري''، وتطرّق إلى محاولة هيوم إدخال الطريقة التجريبية في دراسة الظواهر الأخلاقية؛ فالأمر يتعلق بالتمكن بالعلم بالطبيعة البشرية، لتشكيل جميع المعارف، ومحاولة فهم هذه الطبيعة بواسطة العقل الذي هو بدوره أثر من آثار الطبيعة، كما بيّن أن ما يعنينا من هذه النمذجة التي أنجزها هيوم منهجها ومضمونها؛ فمن جهة المنهج المعتمد في هذا النسق الفلسفي يمكن الحديث عن "تجريبية معتدلة تؤطرها ريبية معتدلة"؛ لأنها من ناحية أولى تجعل من العقل الموضوع الأول للتجربة، ومن ناحية ثانية، فهي تبني هذا الاعتبار على وعي بظرفية هذا المنهج وبنسبيته الإبستمولوجية... وقد توصل إلى أن ما يهم من ذلك هو نفي ثبات الحقيقة وتحليل علاقة الاعتقاد ونفي مبدأ الضرورة، وأن هذه الأمور تنجز جميعا، انطلاقا من فكرة أساسية تكشفها الجينيالوجيا التي ينجزها هيوم للذات البشرية؛ وهذه الفكرة مؤداها أن الموجود الأولي الوحيد في الإدراك هو الانطباعات التي هي المصدر الأول لجميع الأفكار والاعتقادات، وهي متحركة ومتحولة باستمرار، لأنها حادثة في الزمن من خلال التجربة المباشرة. وأشار أن ذلك يؤدي إلى نفي وجود الذات فلا ذات أصلا، وبالتالي نفي وجود الحقيقة. وهكذا خلص إلى أن الإنسان كائن يتكون من التجربة؛ فلا وجود موضوعي لذات إنسانية يمكن الانطلاق منها إلا من خلال التجربة... 

ثم قدم د. شكري بوشعالة مداخلة بعنوان: ''المتخيل العقدي وعنف التأويل: دراسة مقارنيّة بين المقاربة الشّيعيّة والمقاربة الصّوفيّة للنّصّ القرآنيّ''، وقد نزّل مداخلته في السّياق العام لموضوع اليوم الدراسي عبر دراسة نماذج من التّأويل الشّيعيّ والتّأويل الصّوفيّ للنّصّ القرآنيّ.

ومن أبرز الإشكالات التي أثارها وحاول الإجابة عنها في هذا الصّدد: ما العنف وما التّأويل وماذا نعني بعنف التّأويل؟، ما المتخيّل العقديّ وكيف يكون أحد العوامل الفاعلة في إنطاق النّصّ الدّينيّ بغير ما قصد منشئه من المعاني والدّلالات؟، إلى أيّ مدى يمكن اعتبار الهرمينوطيقا شكلا من أشكال العنف المسلّط على النّصّ الدّينيّ؟ ثمّ أليس من المغالاة الحديث عن عنف التّأويل والحال أنّ النّصّ القرآنيّ لبيانه حمّال أوجه متجدّد المعاني تجدّد المقاربات والمنافذ إليه؟، كيف تتحقّق المعادلة بين اعتبار التّأويل حقّا بشريّا يمليه منطق التّطوّر وتفرضه مساعي التّحيين والتّجديد، وبين اعتباره عنفا مسلّطا من المؤوِّل على النّصّ المؤوَّل وعلى من يتلقّى تأويله؟ وبعبارة أخرى ما الحدود الفاصلة بين الحقّ في التّأويل والإفراط فيه بالاجتزاء على الدّلالة ومقاصد المنشئ بفعل المتخيّل العقديّ لدى الشّيعة ولدى المتصوّفة بوجه خاص وما سواهما من الفرق والمذاهب على وجه العموم؟

تلته الباحثة زينب الشيحي بمداخلة بعنوان: ''العنف ضدّ المرأة في المتخيّل الشّعبي: الأمثال العاميّة أنموذجا''، وقد حاولت الإحاطة بالدّور الذي يلعبه المتخيّل بأرضيّته الخصبة، في التّرويج لظاهرة العنف وخاصّة منه العنف الموجّه ضدّ المرأة. وقد اعتمدت على الأمثال الشّعبيّة بما هي ترجمة للمخزون الثّقافي والقيم الاجتماعيّة التي يختصّ بها كلّ مجتمع بعينه. وحاولت، من خلالها، إبراز مدى سلبيّة المادّة الثّقافيّة والفكريّة التي يفرزها هذا الإرث الذي ساهم بشكل كبير في ترسيخ سلوكيات عنيفة داخل مكوّنات المجتمع.

وأشارت إلى أن العنف، في هذا السّياق، يكاد يكون من بين أهمّ سمات الأمثال الشعبية التي ساهمت إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في ترسيخ صورة تحقيريّة للمرأة جعلتها تحت سلطة المجتمع بقوانينه الذكوريّة المشحونة بمفهوم التّمايز والمفاضلة بين الجنسين، وبالتالي الهيمنة والسيطرة بما تحملها هذه المعاني من عنف وعدوان تجاه الجنس الأضعف؛ وذلك من خلال أنماط العنف المتعدّدة التي تؤسّس لها، والتي قسمتها الباحثة على النّحو التّالي:

العنف الجنسيّ: الذي تظهر فيه المرأة خاضعة جنسيّا لرغبة زوجها ليس لها حقّ في الرّفض، وهو ما تنتج عنه بعض الظّواهر الاجتماعية، مثل ظاهرة الاغتصاب الّزوجي.

 العنف الجسديّ: يتجلّى من خلال بعض الأمثال التّي تدعو إلى تأديب المرأة بضربها وإذلالها.

 العنف الاجتماعي: وفيه تكريس للنظرة الدّونية واحتقار المرأة.

 العنف اللفظيّ: وبيّنت أنه يتجسّد في الأمثال الشّعبيّة من خلال منظومة من الألفاظ الخاصّة، ينتجها المجتمع ويريد بها التسلّط على المرأة من قبيل عبارة «الهجالة» «الموبارة» «الوليّة» توجّه عادة إلى المرأة التي تبدو خارج وصاية الرّجل (الزوج) وفيها احتقار وانتقاص لها..

وشهدت الجلسة العلمية الثانية برئاسة د. نور الدين المكشر، مداخلة الباحثة عفاف مطيراوي بعنوان: ''العنف المقدس في المتخيل الإسلامي''، وقد تعرضت فيها إلى مسألة العنف في علاقته بالمقدس، وتتبع تجلياته وفهم آلياته ومعرفة مسوغاته فضلا عن سبر دلالاته، وقد قسّمت هذا المبحث إلى خمسة أقسام، بدءا بالقسم الأول الذي وسمته بالعنف التأسيسي أو الأسطورة التأسيسية للنظام الذبائحي (أسطورة قابيل وهابيل)؛ وأما القسم الثاني، فتناولت فيه موضوع العنف البديل، وقسّمته إلى ثلاثة أقسام فرعيّة، وهي على التوالي:

-       الذبيحة الحيوانية

-       الختان والخفاض

-       دم البكارة، أو قربان شرف مقدّس.

وأما القسم الثالث، فكان حول القرابين البشرية، وقد قسّمته إلى قسمين

-       ذبيحة السّفور، أو الوأد المقدّس (قرّة العين أنموذجا).

-       ذبيح الاجتهاد (الجعد بن درهم أنموذجا).

ثم تناولت في القسم الرّابع من مداخلتها ما سمّته برحى العنف المقدس ضد المرأة. أما القسم الخامس والأخير، فقد تناولت فيه بالدرس مسألة الحروب المقدسة (الفتوحات الإسلامية نموذجا). وقد اختتمت مداخلتها بالنتائج التالية: العنف هو غريزة في الإنسان مبعثها حبه للبقاء وخوفه من الفناء، يرنو إلى الخلود فيقتل غيره ظنا منه أنه يستجيب لرغبة المقدّس، كما أشارت إلى العنف والقداسة يمثلان بنية داخل الحضارة العربية الإسلامية، فلا يمكن للمقدس إلا أن يكون عنيفا، بل المقدس نفسه عنف أو هو آلية من آليات العنف. 

 وقدم د. محمد إدريس مداخلة بعنوان: ''في قتل الأخ ونشأة العمران في النصوص المقدسة''، وقد انطلق من اعتبار العنف قاعدة؛ لأنه نشاط بشري، وذلك من خلال النظر في صراع ابني آدم، والقتل الرمزي للأخ في سورة يوسف، وقد دارت المداخلة في فلك الرباعي التالي: الابن أو الأخ، الأب وهو الطرف الغائب ولكنه موجود، لأن صورة الابن لا تكتمل في عملية القتل إلا بالأب والقتل ونشأة العمران. ووقف الباحث، بعد النظر في النصوص المقدسة من خلال دراسة مقارنة، على ما تشترك فيه في مسألة نشأة العمران وعملية القتل، بين سفر التكوين والقصة القرآنية، وقد رصد الاختلافات بين كلتا القصتين والمعاني التي ترتبت عنهما؛ فالقربان الذي تقبله الرب الإله من خلال سفر التكوين هو قربان الراعي وليس قربان المزارع، وقد علّق ذلك بقراءات عديدة حول المنظومة الزراعية والرعوية، وتساءل عن المعنى المستفاد من قصة الأخوين هابيل وقايين: هل هما يتصارعان من أجل إله واحد؟ أم لكل واحد إلهه الخاص به؟ ولماذا رفض قربان المزارع وتقبل قربان الراعي؟ ويفسر إدريس ذلك بأن المزارع لم يكن يرغب منذ البداية في إرضاء الربّ الإله، ولكنه كان يريد تجنب غضبه؛ لأنه هو الذي يرسل القحط والجفاف، ولكن عملية القتل هي التي يكتمل بها فعل القربان، لأنه حينما قتل هابيل قايين طمره في الأرض التي يزرعها، والتي ستنتج له، وفي ذات السياق أشار إلى أن عملية وأد البنات لدى العرب كانت تقرّبا للآلهة، وكذا كانت قصة يوسف الذي ألقى به إخوته في البئر أي في الأرض، وبذلك تم الانتقال من القحط والموت إلى الزراعة والاستقرار، وأشار إدريس إلى أن هذه الصورة لا يوجد لها مقابل في النص القرآني، وفسّر ذلك بأن القرآن حينما استعرض صراع الابنين لم يوضّح أيّهما قتل من، فنحن لا نجد في القرآن حديثا عن الصفات ولا عن العمران، ولكننا نجد حديثا عن الاستخلاف، استخلاف الإنسان في الأرض، وذلك الشيء نفسه في قصة يوسف، فلا نجد توصيفا لإخوته ولا ذكرا لأسمائهم، ولا نعرف من هؤلاء الإخوة الذين تصارعوا؛ فالنص القرآني جعل من محاولة قتل الابن، الأخ، استرجاع الأب. وقد خلص يوسف إدريس بناء على ذلك كله إلى أن النصوص المقدسة، وإن اشتركت في أحداث معينة، فإنها لم ترو تلك الأحداث بنفس الطريقة، وأثار مسألة أخرى تخص المتخيل الإسلامي؛ هل هو امتداد للمتخيل القرآني أم هو امتداد للمتخيل المسيهودي، وهنا طرح سؤالا ختاميا دون إجابة، وهو لماذا يذهب المفسر المسلم أو القصاص إلى المدونة اليهودية التي فيها توجّه مخالف لتوجه المدونة القرآنية، ويزعم في ذات اللحظة بأنه يبني تفسيره انطلاقا من النص القرآني؟

واختتمت سلسلة المداخلات بمداخلة قدمها د. عارف العليمي بعنوان: ''ثنائية السلم والحرب في المدونة الفقهية المعاصرة''. وتطرّق من خلالها إلى تضخم صور العنف والاقتتال بين مختلف الدول وداخل بعض الدول نفسها، وهو أمر دعاه إلى البحث في بعض نماذج، مما أسماه المدونة الفقهية المعاصرة التي وصفها بالوسطية، من خلال عنصر علاقة التشريع بالعنف، ومن خلال ما طرحه على هذه المدونة الفقهية من ريادة في التفرقة بين الحرب والسلم، في إطار الدعوة التي قرأها في متونها إلى بناء ثقافة تقوم على السلم والتسامح والتعايش مع الآخر، حتى في باب فقه الجهاد والحرب، لذلك مثل فقه السياسة الشرعية محورا رئيسا في تشكيل الصورة المدنية للعنف والإرهاب ونشر الإسلام بالقوة، وقد ربط ذلك بتنامي دعوات الإسلاموفوبيا ونعت الدين بالتخلف وصناعة الموت، وهو ما جعله يحاول رصد مواقف الفقهاء المعاصرين حول المسألة، فعدد بعضها وقدّمها، باعتبارها علامات بارزة عن التسامح والوسطية.