ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
115
2016 )9(
العدد
وهكذا تناول ديورانت في صورة واحدة تاريخ الحضارة كما روته
أزمنة تطوّر الحضارة البشرية منذ العصور الأولى إلى العصرالرّاهن
حسب التراث الإنساني.
فالتاريخ والفن والأدب الخلاق مثلاً بكل أنماطه الشعرية
والسدية أكثر الفنون تعبيراً عن حضارة الإنسان الروحية التي
هي أساس الحضارة المادية. والأساطير والملاحم الشعرية تجسّد
برمزيتها قصّة الإنسان الأولى في انتقاله من سلوك الهمجية إلى
ثقافة الحضارة. كانت العقائد والديانات تعكس جوهر الحضارة
الإنسانية السائدة، فشكّلت تراثاً جمعياً.
وهناك تقارب بين الحضارات حول القيَم الإنسانية التي تجسّد حاجة الإنسان إلى الخلود عن طريق التدوين والكتابة. كانت الكتابة
مفتاح الحضارة، لذلك يمكن أن نقول إنّ انطلاق الحضارة الإنسانية كانت منذ آلاف السنينفي العراق باختراع الكتابة عند السومريين،
فأصبحت وسيلة لتدوين المعارف والتاريخ والأدب.
فالكتابة المسمارية أقدم كتابة مكتوبة في العالم. وأولى الملاحم كانتملحمة جلجامشفي بلاد الرافدين، والتي هي أقدم وأطول الملاحم
البطولية في تاريخ كل الحضارات، وتسمى أوديسا العراق القديم. لكن ماذا تبقّى اليوم من عراق الحضارات الذي شهد أبشع صور
ّ لإنسان ما قبل الميلاد في الرمزية
الوحشية إبّان حرب الخليج؟ سأتناول هذه الأسطورة الخالدة لما وجدت فيها من رموز التفكير المتح
الميتولوجية. كان طه حسين أول ما اهتمّ به في مشروعه الفكري الثقافي هو ترجمة الأساطير الأدبية والملاحم الشعرية القديمة وتدريس
التراث اليوناني والروماني، لما للأساطير الإغريقية من دور في نشأة الحضارة الأوروبية. وهو ما كان للأساطير الرافدية من دور في نشأة
حضارات الشرق القديمة كحضارة الرافدين. هذه الحضارة التي انفتحتعلى كل الحضاراتوالآداب العالمية. إنّ الأساطير ثمرة الخيال
الإنساني. وهي تضرب بجذورها في تاريخ الأمم والشعوبوالحضاراتفي مواجهة الإنسان لمبهمات الحياة ما جعلها تؤثّر في كل ثقافات
الأمم. ويرى فراس السواح أنّ اهتمامه بالأسطورة راجع إلى تفسيرها نشأة الكون والوجود وهو ما يجمع عالم الميتولوجيا بالنظرية العلمية
.
1
الحديثة التي تهتم بنشأة الكون. فكل بحثفي الميتولوجيا هو بحث عنسر الوجود
ّ باعتبار الأسطورة حقيقة إنسانية
فكيف جسّدت الأسطورة التفكير المتطوّر لإنسان ما قبل الميلاد وانتقاله من التوحّش إلى التح
حاضرة في التراث الإنساني قديمه وحديثه؟ وكيف استطاع الأدباء والمبدعون بواسطة التخييل بناء الأنساق الشعرية والفلسفية لعالم
الأسطورة؟ ولماذا فرضت الأساطير نفسها على شعراء العصر الحديث والمعاصر؟ أوليست الأسطورة هي مادة الإبداع الحقيقية؟
أوليست العودة إلى الأساطير دليلاً على احتفاظها بجوهرها الإنساني الذي افتقده عالم اليوم؟
لا أريد أن أخوض في التعريف اللغوي والاصطلاحي والمفاهيمي للأسطورة في علاقتها بالحكاية والملحمة والتاريخ وغير ذلك.
وهذا ليس موضوعنا فلم يتوصل المهتمون والدارسون إلى تعريف شامل للأسطورة التي كانت مثار اهتمام الأدباء والفلاسفة وعلماء
النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها. ويرى القديس أوغسطين في اعترافاته حينما سئل عن ماهية الأسطورة بأنه يعرف جيّداً
ماهيتها لكن إذا أراد الجواب عن ذلك فسيعتريه التّلكّؤ.
.12 .
، ص
1976 ،
ـ فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دمشق، اتحاد الكتاب العرب
1
الهمجيّة والحضارة في الرمزيّة الميثولوجيّة من خلال ملحمة جلجامش
للهمجيّة والحضارة تاريخ طويل، تتغّ
مفاهيمهما من زمن إلى آخر، وترجع إلى
عصور ما قبل التاريخ. لكن يجمع المؤرخون
على أنّ الهمجيّة في أطوارها التاريخية تدمير
لعقل وروح الإنسان، في حين أنّ الحضارة
هي التي يرتقي بها الإنسان ويسمو.
والحضارة مرتبطة بالثقافة التي بها تتقدّم
الأمم وتزدهر وتدوم




