Next Page  119 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 119 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

119

2016 )9(

العدد

)...(

والقلب مهجور

كبئر جفّ فيها الماء، فاتّسع الصّدى

الوحشيّ: أنكيدو ! خيالي لم يعد

يكفي لأكمّلَ رحلتي. لابدّ لي من

قوّة ليكون حلمي واقعياً. هات

أسلحتي ألمّعها بملح الدمع. هات

الدمع، أنكيدو، ليبكي الميت فينا

الحيّ. ما أنا؟ من ينام الآن

أنكيدو؟ أنا أم أنت؟ آلهتي

كقبض الريح. فانهضبي بكامل

طيشك البشريّ، واحلم بالمساواة

القليلة بين آلهة السماء وبيننا.

نحن الذين نعمّر الأرضَ الجميلةَ بين

دجلةَ والفرات ونحفظ الأسماء.

فحواره مع أنكيدو هو حوار بين الذّاتي والإنساني الكوني، وهو ما جعل جمالية خطاب الموت في قصيدة الجدارية تنفتح على معالم

أسرار التخييل الجمالي عند الشاعر في مواجهة المصير المؤلم للذات بالخلود الشعري. وهو خلود ثقافي حضاري كان يسعى إليه جلجامش

منذ آلاف السنين، والذي ارتبط ذكره بقصّة بداية أعظم حضارة إنسانية في أرض الرافدين. وهي أيضاً تأمّل في طبيعة السلوك الإنساني

ونموذج فني فكري إبداعي للقيَم النبيلة للحضارة الإنسانية. إذا كانت الحضارة عند وليام هاولز هي كل ما يساعد الإنسان على تحقيق

إنسانيته، فملحمة جلجامش أجمل تجسيد لأنسنة الإنسان وإحساسه بعمق الوجود وبالمحبة والصداقة والوفاء. وبذلك يمكن أن نقول

ّ لإنسان ما قبل الميلاد. لذلكشكّلت إرثاً فكرياً إنسانياً حاضراً بقوّة في كل الثقافات الإنسانية،

إنّ الملحمة تمثّل التفكير المتطوّر والمتح

ما جعلها تحتفظ ببريقها الأدبي والفكري والفني.

ونجد أنّ سعي الإنسان إلى الخلود كفكرة وجودية كونية تخصكل البشرفي الماضيوالحاضر. لكن ما يميّز رحلة جلجامشفي البحث

عنسرالخلود هو إدراكه في أنّ قيمة الحياة وحكمتها وسرّها يكمنفي الإنسان ذاته وفي أعماله الجادّة والصادقة التي تؤهّله للخلود. وهذه

الأعمال هي التي تبقى شاهدة على الازدهار الحضاري للشعوب والأمم.

لذلك احتفت هذه الملحمة بمعاني رائعة لمعنى الأخلاق المتمثل في القيم الإنسانية التي تنتصر للخير على جبروت البشر. كما أنّ نُبل

علاقة جلجامش وأنكيدو كانت وراء انتصار الإرادة البشرية الخ ّة على مخطّطات الآلهة التي حاولت بثّ روح العداوة والبغضاء بين

الصديقين الحميمين، اللذين عملا معاً من أجل الحرّية وتحقيق الأمان ونبذ الخوف وإزاحة الشرور عن العالم.

إنّ موت أنكيدو هو الذي تُبنى عليه كل الأحداث، لأنّه سيكشف عن الوجه الحضاري لجلجامش في رحلته الشاقّة للبحث عن

ّ به تغ ّتحياة الناسوالعباد. صحيح أنّ جلجامش رجع من رحلته وقد فقدَ سرّ نبتة الخلود، لكن حمل

الخلود. وهذا السلوك المتح

معه سرّ الحكمة من الحياة بعد أن آمن بأنّ الخلود يأتي بالذكر الطّيب. فعمل على تغيير سلوكه والاهتمام فيما بقي من حياته لإنجاز أعمال

عظيمة تخلّد اسمه. فكان أول ملك يُزيل الحواجز بين الناس، بعد أن أدرك أنّ السلطة ليست تسلّطاً ولكنها مسؤولية وخدمة.

الهمجيّة والحضارة في الرمزيّة الميثولوجيّة من خلال ملحمة جلجامش

كان حضور الأساطير والملاحم الشعرية

عاملاً جوهرياً في كل الحضارات الراقية،

لأ ّا إبداع متّسع الآفاق تحكي قصة الإنسان

القديم في سعيه إلى الانتقال من سلوك

ّ سواء

التوحّش إلى سلوك التّمدّن والتّح

في ملحمة جلجامش أو غيرها من الملاحم

الخالدة