ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
118
2016 )9(
العدد
وهو الذي خبر جميع الأشياء وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكلشيء
لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة
وجاء بأنباء الأيام ممّا قبل الطوفان
لقد أوغل في الأسفار البعيدة حتى حلّ به الضنى والتعب
فنقشفي نصب من الحجر كل ما عاناه وما خبره (...)
اعلُ فوق أسوار «أوروك»، وامش عليها
تفحص أسس قواعدها وآجر بنائها
وتيقن أليس بناؤها بالآجر المفخور؟
وهل وضع «الحكماء السبعة» أسسها؟
في هذا اللوح من ملحمة جلجامش تبدو قداسة المضمون الذي تتفاعل فيه أحلام الإنسان ورغبته في الاكتشاف والسّمو والخلود
بالحكمة والذّكر الطيب وكل أشكال التجربة الإنسانية. ففي تعلّق الأسطورة بفضاءات الميتولوجيا والأنتولوحيا، مجال خصب لتوسيع
مدارك الإنسان صوب الجمال والدهشة في انفتاح ملحمة أسطورة جلجامش على كل أشكال التعبير الأدبي والفنّي، لذلك كان الشعر
دائماً موطناً خصباً للأسطورة.
فما أصدق الأساطير والحكايا حينما تُبحر في الزمان والمكان وفي سماء الأدب والتاريخ والفلسفة! تفتح عقولنا على أسئلة الوجود
والحياة ومسيرة الإنسان ومصيره في رحلة البحث عن المعنى والحقيقة. إنّا إعادة لقراءة التاريخ البشري البدائي بعيداً عن سلطة الفكر
الديني. ففي الأساطير عالم من المعتقداتفيصراع الحياة والموتوالتوحّشوالتّمدّن والخير والشروالذّكورة والأنوثة والمؤسسة الدينية.
تعلمنا الأساطير أنّ الإنسان لا يولد إنساناً إلا حينما يعي دوره في الحياة ودوره تجاه الآخرين من صنف البشر أو الآلهة، وحينما يدرك
هذه الأشياء فإنه يعي ذاته. فالكثير من الشخصيات الأسطورية الخارقة تعلمنا كيف يمكن للإنسان أن يكون إنساناً يتمتّع بكل معاني
الإنسانية. وبذلك يمكن أن نقول إنّ الأسطورة هي البداية الأولى لتأريخ الحضارة الإنسانية.
لذلك كان توظيف الأسطورة في الشعر الحديث تجربة رؤيوية تنطلق من الذات المبدعة في تفاعل مع التجارب الإنسانية في الفكر
. ونجد
4
الأسطوري قديماً وحديثاً. فالأسطورة حسب أدونيس نضج وانفتاح وعودة الدفء إلى اللغة الشعرية لأنّا دفء للعقل والجسد
هناك دراسات عديدة تناولت موضوع الأسطورة في الخطاب الشعري العربي المعاصر. ففي كتاب «أسطورة الموت والانبعاثفي الشعر
العربي الحديث» قدّمت ريتا عوض منهجاً نقدياً جعلت فيه الأسطورة عنصراً بنائياً في النقد الأدبي. ويحضرني استدعاء محمود درويش
في جداريته الرائعة لأسطورة جلجامش رؤية حضارية وحواراً عميقاً وأسئلة وجودية حول كنه الحياة والموت ومصير الإنسان بعد أن
اكتشف الشاعر أنّ الحياة لا تستحق أكثر من أن تُعاش، خاصّة وأنّ مرضه في تلك المرحلة جعله في مواجهة تجربة الموت القاسية في تمازج
:
5
جميل بين الفردية الإنسانية والبُعد الإنساني الشّمولي حيث فضاء الموت والأسطورة. يقول محمود درويش
ّنام أَنكيدو ولم ينهض. جناحي نام
ملتفّاً بحفنة ريشه الطيني
.8
، ص
3
ـ أدونيس، ديوان الأساطير، الكتاب الأول، ج
4
.514-513 .
، رياض الريس، بيروت، لبنان، ص
2009 ،1 .
محمود درويش، الأعمال الجديدة الكاملة، ج
5
حورية الخمليشي




