ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
124
2016 )9(
العدد
بالموت والخراب، فلئن استبدل قايين الأخ بالابن، فإنّه لم يستطع محو آثار الجريمة، ففي المدينة ينشأ أحفاده وأحفاد أحفاده يتواصلون
ويتشاركون الأعياد والمآتم، ولكنّ الرغبة في التخلصمن بعضهم بعضاً قابعة في أعماق أنفسهم.
في الخلاء في الظلمة في الفجاج بين الجنّ (الثعابين) بين الذئاب يبحث الإنسان عن الأنسوالأنيس، يشعر بالحاجة إلى الأخ والصديق
7
ُالمعين الذي يدفع عنه أخطار البراري، وقد عّ عن ذلك الشّنفرى الأزدي في لاميته [من الطويل]
ُأَقِيمُوا بَنِـي أُمّي صُـــــــــدُورَ مَطِيّكُمْ فَإِّ إَِ قَـــوْمِ سِـــــوَاكُــم ََمْـــيَل
ُفَقَدْ ُّتْ ا َْاجَاتُ وَالْلَيـــــــلُ مُعْمـِرٌ وَشُدّتْ لِـــــطَيّاتِ مَـــطَايَا وَأَرْحُـــل
ُوَِ ا َْرْضِ مَنْأَى لِلْكَـرِيمِ مِـنَ ا َْذَى وَفْيهَا َِنْ خَــــــافَ الْقِــــَ مُتعزّل
ُلَعَمْرُكَ مَا بِا َْرْضِ ضِيْقٌ عََ امْرِئ سَــــرَى رَاغِــباً أَو رَاهِباً وَهْوَ يَعْقِل
وَِْ دُونَكـم أَهْلــونَ سِـــــيْدٌ عــمـلّسٌ وَأَرْقَــطُ زُهْـلُولٌ وَعَــــرْفَاءُ جَـــيْأل
8ُ
هُـمُ الأهْلُ لاَ مُسْـــــتَوْدَعُ السّـــرّ ذَائِعٌ لَدَيهم وَلاَ ا َْانِـــي بِمَــا جَــرّ ُْذَل
وحوش البراري (سيّد عملّس/ الذئب القويّ السيع، أرقط زهلول/ نمر أملس الظهر، عرفاء جيأل/ الضبع الطويلة كثيرة الشعر)
اتخذها سيد صعاليك العرب في الجاهلية أهلاً، تهشّ إليه ويهشّ لها، يطلب رفقتها فإذا هي ذاك الأخ الذي قال فيه العرب «ربّ أخ لك
لم تلده أمّك». أمّا في المدينة الفضاء فيكون الاحتكاك بالناسسبباً في نشأة الحقد والبغضاء بين القوم.
على الواو يكون الكلام عودة على بدء في تصنيف البشر ومعايير التمييز، ما قبل الواو مرفوض منبوذ وما بعدها محمود مرغوب فيه،
الواو حدّ فاصل بين الظلمة والنور، بين كائنفي البراري عاشومات، وإنسان استوفىشروط الانضمام إلى التاريخ، وبينهذا وذاكلا بدّ
من التمييز وتحديد وجوه الاختلاف، ولكنْ خلف «الواو» الفاصلة «واو» تؤكد وجود وجوه ائتلاف، ووراء تلك الوجوه يقبع السؤال
ّ هو الهمجي؟
الآتي: أيّ معنى للتمييز قبل تحديد موضع كل طرف؟ ألا يكون المتح
ألا يقتضي ذلك إقراراً بأنّ للحضارة وجهاً آخر؟ فالتكالب الدائم نحو جني المال وكنزه على حساب الآخرين (الجياع، الفقراء)
ّ يسفك الدماء، هي الموت
يجعلنا إزاء صورتين: شعوب تأكل خشاش (حشرات) الأرضوشعوب تأكل غيرها، فإذا بالمتمدن المتح
، هي الموت في أحضان حضارة لا تقام
9
، هي المدّ الاستعماري المعاصر (العراق، ...)
Nagasaki
ونكازاكي
Hiroshima
في هيروشيما
أعمدتها إلا بموت الأطفال والنساء والشيوخ ...، حضارة لا تحقّق ذاتها إلا بقدر استعبادها للآخرين.
الهمجية بربرية ووحشية، فهي الإرهاب، وهي أيضاً حركات اليمين المتطرف في الشرق (الاحتلال الإسرائيلي)، وفي الغرب (فرنسا،
...)، البربرية الهمجية ليست الشعوب الجائعة التي تحيا في أدغال أفريقيا وغابات البرازيل، وليست تلك الشعوب التي تحيا في سلام
ـ تُعدّ لامية العرب من أهم القصائد التي انكبّ على شرحها القدامى (الزمخشري،...) والمستشرقون (روس)، ومأتى هذا الاهتمام ما نسب إلى الرسول محمّد (صلى الله
7
عليه وسلم ) من قول «علّموا أولادكم لامية العرب فإنّها تعلّمهم مكارم الأخلاق».
.-39 38
ـ ديوان الصعاليك، شرح يوسف شكري فرحات، دار الجيل، بيروت لبنان، (د ت)، ص
8
ـ ذهب إدغار موران إلى ضرورة إقرار أوروبا -الغرب عموماً- ببربريتها وأنْ تعترف بضحاياها وما لم تفعل ذلك فإنّها سوف تبقى شقية معدمة
9
Morin (Edgar): Culture et barbarie européennes, Éditions Bayard Jeunesse, Collection Essais, Paris, 2005.
Morin (Edgar):L’Europe à deux visages, Humanisme et barbarie, Ed Lemieux, Collection Lemieux éditeur, Paris, 2015.
محمّد يوسف إدريس




