ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
165
2016 )9(
العدد
الوسطى قد استبدوا وزاد استبدادهم، وأصبحت الديكتاتورية هي نظام الحكم الشائع في غالبية أنحاء أوروبا، واعتمد الملوك في تبرير
هذا الاستبداد وتلك الديكتاتورية على ما يعرف باسم «الحق الإلهي المقدّس»، حيث كان الملك يعتقد أنّه خليفة الله في الأرض، وأنّه
مفوضشخصيّاً من الله تعالى في حكم هذه المجموعة من البشرفي دولته الخاصة، ومن ثم لا يجوز لأفراد الشعب أن يثوروا على ممثل الله
أو أن يتمروا على إرادته. فتصبح كلّ أوامر الملك ونواهيه مستمدّة من وحي الله تعالى وواجبة النفاذ دون اعتراض؛ لذلك كانت نتيجة
هذه الفكرة عن الحق الإلهي المقدّس هي ترسيخ أقدام الحكم الملكي الديكتاتوري المستبد، وانحسار نطاق الحرية الفردية للمواطنين
الذين أصبحوا خاضعين تماماً لإرادة الملك الإلهية.
لكنّ الأمر بدأ يتغير تماماً مع بدايات عصر النهضة؛ فقد برزت مجموعة من ألمع مفكريه تناهض فكرة الحكم الإلهي المقدّس، وتحارب
استبداد الحكام وتُندد بديكتاتوريتهم، فذهب «كلفن» إلى القول إنّ الشعب هو صاحب السيادة، وإنّ أفضل الحكومات هي الحكومة
الجمهورية التي ينتخب الجمهور رئيسها بكلّ حرية، وأوجب على الشعب طاعة أولي الأمر في غير معصية الله، فهذه الطاعة جزء من
طاعة الله؛ لأنّ الله هو الذي يقيم الحكام ويدبر كلّ شيء بعنايته. وقد ذهب «بيز» أحد تلاميذ «كلفن» إلى أنّ هناك عقداً بين الملك
والشعب يرمي إلى حفظ الجماعة وتحقيق مصالحها، فإذا تصرّف الملك بما يتنافى مع هذا فظلم وطغى كان من حق الشعب أن يعزله وأن
.
43
يحاكمه وأن يعدمه، فالملوك لخدمة الشعب وليس العكس
ومن ثمّ أخذ فلاسفة عصر النهضة يفنّدون ذلك المبدأ الخطير الذي يُعطي للملك الحق في حُكم رعاياه حكماً مطلقاً استبدادياً، دون
أن يكون لأيّ فرد من أفراد الشعب الحق في المعارضة أو الثورة عليه، لأنّ الملك مفوّض من قِبل الله لحكم هذا الشعب، ومن هنا كان
على الشعبطاعة أوامره وأحكامه. هذا المبدأ الذي يجعل الملك مشرّعاً للقوانين التي هو أعلم بها من غيره، وهو فوق هذه القوانينلأنّه
صاحبها، وقد استمدها من السلطة الإلهية ذاتها، ومن يحاول تغييرها أو الخروج عليها فهو متمرد على الإرادة الإلهية.
» الذي كان
Patriarcha
التي وردت في كتابه«الحكم الأبوي
Sir Robert Filmer
ولذلك فَنّدَ جون لوك آراء سير روبرت فلمر
يدعم بقوة فكرة الحكم الإلهي المقدّس للملوك، وينكر القول إنّ الإنسان وُلِدَ حرّاً، أو أن يكون هناك ما يُسمّى «الحرية الطبيعية»، فما
هذه الحرية المزعومة سوى خرافة رومانسية، وما من إنسان يولد حراً؛ لأنّ العناية الإلهية قد أخضعتنا لإرادة الحاكم المطلقة. فنحن جميعاً
نُولد عبيداً. ومن تُرّهَات «فلمر» أيضاً في هذا الكتاب أنّ القول بوجود حكومة تقوم على رضا أفراد الشعب واتفاقهم خرافة ثانية. أمّا
ما يسميه البعض«الحكومة النيابية» فهي خرافة ثالثة. يقول: «إننا لنخدع أنفسنا إذا راودنا الأمل يوماً أن تحكمنا سلطة غير استبدادية».
وقد ذهب«فلمر» فضلاً عن ذلك إلى القول إنّ الحكومة إذا اعتمدتعلى إرادة المحكومين فسعان ما ينتهي الأمر إلى عدم وجود حكومة
تماماً، حيث إنّ كلّ فرد أو مجموعة أفراد ستزعم لنفسها الحق في العصيان والتمرد، وفقاً لما يمليه «الضمير»، وتلك هي الفوضى بعينها،
.
44
أو هي حكم «الرعاع». وليس هناك طغيان يمكن أن يقاس بطغيان الجماهير
وقد ظلّ علماء ومفكرو عصرالنهضة ينددون بفكرة الحق الإلهي المقدّس للملوك واستبدلوها بفكرة «العقد الاجتماعي»، تلك الفكرة
التي ألمح إليها «بيز» ولاقت قبولاً كبيراً، وذلك في العصر التالي لعصر النهضة، وهو عصر التنوير، عند فيلسوف فرنسا العظيم «جان
جاك روسو» الذي أراد أن يحارب الحكم الملكي والحق الإلهي المقدّس بطريقة جديدة، فأعاد النظر والتفكير في طبيعة الحُكم وتحديد
العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث رفض مقدّماً فكرة الحق الإلهي المقدّس، وشرع في بحث الطريقة الصحيحة التي أدت إلى ظهور
نظام الحكم عامة في أيّ مجتمع إنساني. وهي في نظره تدور حول فكرة «العقد الاجتماعي». فقد كان الإنسان البدائي يعيشحياته الأولى
.233
. ص
1954،
- عبده فراج وآخرون، مشكلات فلسفية، وزارة التربية والتعليم، مطبعة جريدة الصباح بمصر، القاهرة
43
.285
- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، ص
44
مظاهر الهمجيّة والحضارة في عصر النهضة الأوربيّة




