ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
160
2016 )9(
العدد
وتورد المصادر التاريخية أنّ عدد الذين صُلبوا وأُحرقوا من قِبَل محاكم التفتيش بلغوا نحو مائة ألف، كان منهم المُفكرون والعلماء
والمسلمون واليهود والمعارضون السياسيون والمهرطقون الحقيقيون المارقون من الأديان جميعاً.
وهكذا مثّلت محاكم التفتيش في عصر النهضة مظهراً همجيّاً من الدرجة الأولى، فكانت كابوساً مزعجاً أَرّقَ الوعي الأوروبي طيلة
، فانطلق المبدعون
1834
تسعمائة عام، فقد أُنشئت تلك المحاكم في القرن العاشر واستمرّت حتى ألغاها نائياً جوزيف بونابرت سنة
الأوربيّون بحرية تامّة ليشيدوا النهضة الأوروبية التي بلغت الآفاق وسادت الأرض.
ثانياً: مظاهر الحضارة في عصر النهضة
مثّلت المظاهر الهمجيّة المخاض الشديد الذي سيولد من خلاله عصر التنوير، وسيادة العلمانية، وبداية الانطلاق لتحقيق النهضة
الأوروبية بمظاهرها الراهنة، فيضع رينيه ديكارت منهج الاستنباط الرياضي بقواعده الأربع القائمة على الوضوح والتميز، ويتمرد في
كتابه «مقال في المنهج» على اللغة اللاتينية التي كان العلم مقتصراً عليها، فكتب كتابه بالفرنسية إيذاناً بالثورة الكاملة على القديم، ولكنه
أخذ بمبدأ التقيّة فلم ينشر كتابه «في النور» الذي وافق فيه على ما ذهب إليه كوبرنيكوس من قبل، ولم يُطبّق منهجه على الدين خوفاً من
بطش الكنيسة، ولا على السياسة خوفاً من بطش الحاكم نصف الإله أو خليفة اللهفي أرضه، ولا على الأخلاق المجتمعيّة خوفاً من اتهامه
بتكدير السلم المجتمعي. ولكنه كان بذلك قد حدد المنهج الذي سيأخذ بأيدي الأوروبيين إلى النهضة، وحدد لهم مناطق الضعف، ممّا
كان له أثر كبير فيمن جاء بعده، فطبّق سبينوزا منهجه في الوضوح والتميز على الدين والسياسة والأخلاق، وتعددت المناهج العلمية،
وساد المذهب الإنساني، فتحولت قِبلة الأوروبي من الإله إلى الإنسان، ومن الميتافيزيقا إلى الفيزيقا، وبدأ الاستخفاف بالحق الإلهي
المقدّس للملوك، وخفت نجم الحكومات الثيوقراطية أمام نظريات العقد الاجتماعي ...، وغيرها من المظاهر التي سنرصدها في هذا
الجانب، على أنا مظاهر الحضارة في عصر النهضة.
. المذهب الإنساني ونشأة العلوم الطبيعية
1
ظهرت حركتان فكريتان في عصر النهضة تكمل كلّ منهما الأخرى: المذهب الإنساني، ونشأة العلوم الطبيعية بصفتهما بديلتين لوجهة
؛ فاهتموا بالفلسفة والأدبوالبلاغة
25
النظر اللاهوتيةفي فهم العالم والإنسان، ولعب«الإنسانيون» الدور الرئيسفيحضارة عصرالنهضة
وفن الكتابة والخطابة والشعر والفنون والتعليم، وأحيوا الآداب القديمة، فتعددت التيارات وتداخلت الاهتمامات فوحّدَ «لونزو فالا»
بين المذهب الإنساني والعلمانية كنظام سياسي، و«بيكودي لاميرندولا» بين المذهب الإنساني وتأسيس العلم، وتمّ إحياء الفلسفات
القديمة: الأفلاطونية، والأرسطية، والرواقية، والأبيقورية. كذلكظهرت المذاهب الطوباوية التي ترنو إلى عالم أفضل يعيش فيه الإنسان
عاقلاً حرّاً في مجتمع من العدل والمساواة. ووجد المذهب الشكّي أرضاً خصبة في مقابل تعصب ودوجماطيقية العصور الوسطى، ممّا كان
له أكبر الأثر على الفلسفة والفكر والأدب الأوروبي، حيثساعد على نقد القديم والشكفيصحته، حتى يمكن إفساح المجال للجديد،
وكذلك بدأ الاهتمام بالعلم التجريبي وتأسيس علوم الفلك والطب والنفس والطبيعة بعيداً عن الأحكام المسبقة وبرؤى جديدة.
. فإذا كان العصرالوسيط قد اعترف«بتفرّد
26
أمّا المذهب الإنساني فقدخرج من ثنايا الفكر الديني، وتمّ تحويل بؤرته من الله إلى الإنسان
الإنسان»، لأنّه قبل كلّ شيء هو الغاية من الخلق الإلهي، فإنّ معظم الإنسانيين قد رفضوا محاولة العصر الوسيط في تحديد خصائص
. وانظر أيضاً:
104
، ص
1999 ،
- أحمد محمود صبحي، صفاء عبدالسلام جعفر، في فلسفة الحضارة (اليونانية ـ الإسلامية - الغربية)، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية
25
D. Cooper, World Philosophies – An Historical Introduction , Black well Publishers LTD ,Great Britain,1996,P.226.
.238
- حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، ص
26
غيضان السيد علي




