ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
161
2016 )9(
العدد
الإنسان في ضوء علاقته بالإله، فأصحاب الاتجاه الإنساني مثل بومبانتزي وغيره اعتبروا أنّ أديان العالم ذات نشأة طبيعية، وأنّ ظواهر
العالم يمكن تفسيرها تاريخياً وليسفي ضوء اللاهوت، وفي مقابل ذلك نجد التصور المسيحي عن السعادة الإنسانية عند الإكويني مثلاً
.
27
على أنّا معرفة الإله، أمّا إرازموس فمفهومه عن السعادة الإنسانية أكثر واقعية «أن تريد أن تكون نفسك»
التي أعادت الاعتبار للعقل البشري، وآمنت بقدرته
humanism
ولذلك يمكن القول إنّ عصرالنهضة قد تميّز بسيادة نزعة «الأنسنة»
على فهم العالم والسيطرة على الطبيعة. فقد انشغل الإنسان أمداً طويلاً من الزمن بالبحث عن «المطلق»، وراح يعلن حيناً أنّ التاريخ هو
«المطلق»، ومضى يؤكد حيناً آخر أنّ «الطبيعة» هي الحقيقة الكبرى، وفي غمرة هذا الانشغال المستمر بالأفكار والأشياء نسي الإنسان
نفسه، أو خُيّل إليه أنه قد أصبح جزءاً من الطبيعة، ونجح المنهج التجريبي الذي بدأ استحداثه في عصرالنهضة مع الفيلسوف الإنجليزي
«فرنسيس بيكون» في دراسة الكثير من الظواهر الطبيعية، لكنسرعان ما كانت الهزات الكبرى التي أيقظت الإنسان من سباته العميق،
فسعان ما تذكر الإنسان نفسه وراح يكذّب ادعاءات الكثير من العلوم الإنسانية التي أرادت أن تهبط به إلى مستوى الموضوع.
إذن فقد أعاد توجيه الأنظار إلى الإنسان، فتحولت الفلسفة من البحث في الوجود إلى البحث في الإنسان، وكأنا تفعل ما فعله
سقراط قديماً، تنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فرفضت تلك اللامبالاة - التي مارستها الفلسفات السابقة عليها- بشؤون الموجود
الإنساني الفرد، وعادت إلى دراسة العالم الداخلي المدهش لروح الإنسان الذي أصبح فيها أهمشيء في الطبيعة، وهو غاية في ذاته، وقد
تجلت هذه النزعة بصورة جليّة وواضحة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فأصبح التأمل ليس في الكون بقدر ما هو دراسة
داخلية وتحليل للعقل الإنساني. الإنسان هو سيد الكون وكلّ ما في هذا الكون وسائل يستخدمها هذا السيد، فهو الغاية التي من أجلها
خُلقت الأشياء جميعاً، ليصبح الإنسان غاية في ذاته». ولذلكجعل عصر التنوير «الإنسان هو الغاية الأخيرة للخليقة، وذلك من حيث
إنّ حريته بتطابقها مع القانون العملي غير المشروط ترمي إلى تحقيق الخير الأسمى في الطبيعة، أي إلى تحقيق التوافق التام بين الفضيلة
والسعادة. ولا يصح إذن أن نسأل عن الغاية التي يحيا من أجلها الإنسان، فأخلاقيته هي الهدف الأعلى من وجوده، وهي التي تعطيه
. ويعني ذلك أنّ موضوع الفردية والمنزلة الرفيعة للإنسان من الاهتمامات الفكرية
28
الحق في أن يجعل سائر غايات الطبيعة خاضعة له»
الأساسية لعصر النهضة، فاعتبر الإنسان معجزة عظيمة جديرة بكل إعجاب، وأصبح مسؤولاً عن صنع حياته بأسرها، كما اهتم
الإنسانيون بكلّ ما هو إنساني إلى أقصىحد، وقد عّ «جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا» خير تعبير عن مفهوم الكرامة الإنسانية في خطبته
الشهيرة «خطبة حول الكرامة الإنسانية»، وذلكفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر.
كما شهد هذا العصر نضة علمية عظيمة، كان لها أبعد الأثر في تغيير نظرة الإنسان إلى الكون والطبيعة وظهور النظريات العلمية
الحديثة، ففي هذا العصر انطلقت العلوم انطلاقة رائعة نحو الآفاق الواسعة للتجربة العلمية، التي حررت العقل الإنساني من كلّ قيد
ومن كلّ سلطة فكرية، والظنّ السائد تحت رعاية الكنيسة والسلطة الدينية بأنّ العلم قد اكتمل على أيدي أرسطو لم يلبث أن تبدد، ولا
سيما أنّ هذا العلم كان يعتمد على التصورات الكليّة، في حين أنّ هذه المعاني الكليّة أو الكليّات كانت تحجب الواقع ولا تفسه، ومن
هنا كان اعتراضبيكون وديكارتوجاسندي وغيرهم على استخدام الكُليّات، فرفضبيكون التعريف الذي يفسّ المجهول بالمجهول،
كأن نقول: الإنسان حيوان عاقل، والذي يقتضي بدوره تحليلاً لطبيعة الحيوان ولطبيعة العقل، كما جعل الكُليّات من أوهام اللغة التي
يجب التخلص منها إذا أردنا التجنب في الوقوع في الأخطاء، في حين اعتبر «جاسندي» الكليّات بمثابة المأوى الذي يحتمي فيه الإنسان
الجاهل الذي لم يتوصل إلى معرفة الحقيقة، لأنّ أسرار الطبيعة تظلّ خافية حتى تكتشفها التجربة، وطالما أنّنا لم نصل إلى معرفة هذه
.109
- أحمد محمود صبحي، صفاء عبد السلام جعفر، في فلسفة الحضارة، ص
27
.88
، ص
1965 ،
- كانت: هامش تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: عبد الغفار مكاوي ، مراجعة عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة
28
مظاهر الهمجيّة والحضارة في عصر النهضة الأوربيّة




