ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
166
2016 )9(
العدد
بكامل حريته معتمداً على نفسه، لكنّ الظروف الطبيعية أجبرته على أن يتعاون تدريجياً مع غيره من أفراد البشر الآخرين، ويعيش معهم
فيمجتمع واحد. سواء كانفي مرحلة الصيد أو الزراعة أو الصناعة. وهكذا رأى روسو أنّ هؤلاء البشراتفقوا فيما بينهم منذ بداية تجمعهم
في المراحل الأولى لظهور المجتمع على تكوين نوع من الاتحاد بينهم بمحض إرادتهم، حيث اختاروا بعض الأفراد منهم ليتخصصوا في
تنظيم المجتمع وإدارته. أي ليتولوا مقاليد حكم الجماعة، بشرط أن يضمن هؤلاء الحكام المختارون توفير الحرية لأفراد المجتمع؛ لأنّ
الإنسان عند روسو وُلِدَ حُرّاً ، والاتحاد مع الآخرينفي المجتمع من شأنه تسخير قوة المجتمع لحماية الحرية الشخصية والممتلكات الخاصة
لأعضاء المجتمع، وذلك بطريقة تجعل كلّ فرد وهو يتحد مع أقرانه إنّما يطيع إرادة نفسه الحرّة. وينتهي روسو إلى أننا نتجمع ونتعاون
باتفاقنا، ونتنازل عن بعضحقوقنا مقابل هذا التجمع طواعية وبكل إرادتنا الحرّة. وكذلك نختار من سيتولى مقاليد حكمنا، بشرط أن
يحافظ لنا على حريتنا، أمّا لو خرج عن إرادة المجموع واعتدى على الحريات الأساسية للأفراد، فيحق عندئذ للشعب أن يخلعه من الحكم
ويختار حاكماً غيره، وهكذا حلل روسو قيام الثوراتضدّ الحكام المستبدين، محطّماً فكرة الحق الإلهي المقدّس.
كما انتشر في هذا العصر كتابة «اليوتوبيا السياسية» أو الدولة المثالية، على غرار ما فعل أفلاطون، ومن أشهر كتابها «توماس مور»
الذي دعا إلى نبذ الملكية ووضع السلطة العليا في يد مجلس منتخب من شيوخ الأمّة، كما دعا إلى الشيوعية العامّة في الأمور الاقتصادية
دون الجنسية، وجعل العمل إجبارياً للجميع، كلّ يعمل بحسبطاقته ما عدا العاجزين لأيّ سبب، ويقتصرفي إعطاء الناسعلى ما هو
.
45
ضروري لهم، ويحتفظ بما يفيضكاحتياطي للظروف الشديدة، ويرى في هذه المساواة وحدها سعادة الناس
وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض الاتجاهات التي دافعت عن الحكم المطلق للملك، وكما سبق أن أسلفنا، مع إقرارهم بنظرية
العقد الاجتماعي، مثل توماس هوبز الذي رأى أنّه ليس من حق الشعب الثورة على الملك مادام قادراً على حماية أرواحهم وإقرار النظام
بينهم، إذ ليس من حق الأفراد أن ينقضوا ميثاقهم لأيّ سبب، أو أن يستردذوا ما منحوه بلا قيد ولاشرط بمحضحريتهم . فإذا عجز
الملكعن تحقيق الغرضالذي من أجله أُقيم ملكاً حدثت الثورة. فإذا نجحت فقد زالت من الملك السيادة وزالت من الأفراد رعويتهم،
وزالتصفة الدولة عن الجماعة، وعاد الناس إلى حالاتهم الفطرية ما لم يقيموا فيهم حاكماً جديداً يحميهم منشرّ أنفسهم، ويضفي على
المجتمع من جديد صفة الدولة، وتكون له فيهم سلطة مطلقة.
وكان من معاصري هوبز في القرن السابع عشر مفكران فرنسيان من فلاسفة القانون ومن أنصار الحكم المطلق هما «بودان»
و«جروتيوس»، وقد ذهب «بودان» إلى أنّ الملك هو مصدر السلطة العليا وليس الشعب، فالأسرة أصل الدولة وفيها يخضع الأفراد
للأبخضوعاً مطلقاً، فالملك من الشعب بمنزلة الأب، فهو صاحب السيادة التي تخوّل له وضع القانون وهو مطلق السلطان؛ لأنّه هو
مصدر القوانين، وهو لا يتقيد إلا بمبادئ القانون الطبيعي الأخلاقي. أمّا «جروتيوس» فقد ذهب إلى أنّ السيادة مظهر لقوة الشعب
والشعب هو صاحب السيادة، ولكنه تنازل عنها مختاراً لشخص يباشر أعمالها نيابة عنه وهو الملك. فللملك حق الحكم المطلق، لأنه
.
46
أصبح مالكاً للسيادة
ولذلك نؤكد على أنّ البدايات الحقيقية للاستخفاف بالحق الإلهي المقدّس للملوك كان من أهم المظاهر الحضارية لعصر النهضة
الأوروبيّة، حيث تعددت في ذلك العصر الآراء التي تدعو إلى تهافت تلك الفكرة، وهي فكرة تعتمد على حجج واهية، لا يقبلها سوى
السذّج. فأخذ يتدعم في ذلك العصر الفهم البشري لبناء الدولة الذي بدأ مع مكيافيللي في بدايات عصر النهضة مروراً بتوماس هوبز
وغيره من فلاسفة السياسة، ويتقرر حق الشعب في اختيار حاكمه، ومراقبته ومحاسبته على اعتبار أنّه صاحب السلطة المطلقة في تدبير
.233
- عبده فراج وآخرون، مشكلات فلسفية، ص
45
.-234 233
- المرجع السابق، ص
46
غيضان السيد علي




