Next Page  167 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 167 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

167

2016 )9(

العدد

شؤونه بلا وصاية من أحد، الأمر الذي سيظهر بوضوح في عصر التنوير عندما يعلن كانط «رفع الوصاية عن الإنسان»، لأنّه بلغ سن

الرشد ولم يعد قاصراً بحيثيحتاج إلى غيره ليفكر نيابة عنه. ومن هنا كان شعار عصرالتنوير: «لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك»،

. فكان عصر التنوير بمثابة نتيجة

47

تشجع واعرف بنفسك ولنفسك، وأعمل العقل في كلّ مناحي الحياة، وفي أيّ موضوع يطرح عليك

حتمية تلزم عن مقدمات عصر النهضة، وتجسيداً حقيقياً لما ذهب إليه ديكارت من ضرورة إعمال العقل، وأنّ التفكير وجود، وعدمه

نفي، وأنّ التخلصمن كلّ سلطة تعوق العقل هي وهم وصنم يجب التخلصمنه كما ذهب بيكون.

خاتمة

وهكذا تجلت مظاهر الهمجيّة جنباً إلى جنب مع مظاهر الحضارة في عصر النهضة الأوروبيّة. لكنّ تَقَدُم العصر نحو الأمام ونحو

ترسيخ مبادئ الحضارة كان الأقوى، فانتصرت أوروبا العلمانية على ذلك الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهت

الذي وضع حدّاً للنزاع بين الطوائف،

1648

الحروب الدينية التي أشاعت أبشع مظاهر الهمجيّة في ذلك العصربصلح «وستفاليا» في عام

وفتح المجال للدول المختلفة لكي تستوعب في حدودها أفراداً من انتماءات دينية مختلفة. «وأيّد جوزيف الثاني جهود التسامح، وسعى

إليها على العكسمن والدته «ماريا تيريزا» التي تمسكت بفكرة وحدة الملكوت، (أي نبذ غير الكاثوليكمن إمبراطوريتها)، وبرع فيمجال

إرساء دعم التسامح الديني «فرديدرك» الثاني ملك بروسيا الذي منع الجدل في المواضيع الدينية واللاهوتية، وتحمّل نفقات بناء كاتدرائية

. أي أنّ عصر النهضة قد شهد بدايات اضمحلال سلطة الكنيسة وضعف التدين،

48

كاثوليكية، وكانت أغلبية رعاياه من البروتستانت»

والاتجاه القوي نحو المادية. كما شهد نوض العلم الطبيعي التجريبي.

، بعد تحجيم دورها منذ بدايات

1834

وأُلغيت محاكم التفتيشفي النصف الأول من القرن التاسع عشر على يد جوزيف بونابرت عام

عصر التنوير. وتمتّع الأوربيّون بالحرية، وأُطلقت يد العلماء بعيداً عن أيّة رقابة دينية أو غير دينية، فانتقل العلم من مرحلة تسجيل

الملاحظة والانطباع الحسيإلى مرحلة تكوين النظريات العلمية المتكاملة، التي أدت إلى اكتشافواختراع المبتكرات التقنية والتكنولوجية

في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي شهدت ثورة تقنية غير مسبوقة مع بدايات القرن الحادي والعشرين.

كما تلاشي الحق الإلهي المقدّس للملوك، وانتشرت نُظم الحكم المختلفة التي ُدد أولوياتها انطلاقاً من تحقيق مصلحة المحكومين؛

وذلك عن طريق إدارة الاقتصاد، وتحديد هويّة الدولة وعلاقاتها الخارجية وعلاقة نظام الحكم بالدين. فسادت ثقافة سياسيّة جديدة

عموم أوروبا، التي ارتكزت على أهمية تحقيق ثراء الدولة وقوة الحكومة وخدمة المواطن. وأكدت على واجب الحاكم في تنظيم حياة

الناس والوفاء بطموحاتهم، وقد تأسست معاهد للتدريب على هذه المفاهيم تخرّج منها الموظفون الذين عملوا في الدول الأوروبية

الأخرى لتطبيق المنهج ذاته. وهكذا كان عصر النهضة الأوروبي بمثابة المخاض الذي أخرج عصر التنوير الذي استطاع أن ُفف

من حدة مظاهر الهمجيّة لصالح مظاهر الحضارة، تلك التي جعلت من الدول الأوروبية قوة قاهرة استطاعت أن تقهر دول الشرق

وتستعمرها، ليرى الشرق عن طريق الهمجيّة الاستعماريّة بصيصاً من أضواء الحضارة.

.288

- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، ص

47

- ماجد موريس إبراهيم، التنوير هو الحل، مقدّمة ترجمته لكتاب، دوريندا أوترام، التنوير، بيروت، دار الفارابي، مؤسسة محمد بن رآشد آل مكتوم، الطبعة الأولى،

48

.18

، ص

2008

مظاهر الهمجيّة والحضارة في عصر النهضة الأوربيّة