179
2016 )9(
العدد
اللاهوت. هل بالإمكان التّعاون؟ هناك مجموعة من اللاهوتيّين
المستعدين لذلك». وفعلاً، حوار هابرماز مع راتسينغر، ومن
قبله مع اللاهوتي مِيتْز، جاء كتتويج لهذا المنحى الملتبس في فكر
هابرماز: نصف لاهوتي ونصف فلسفي، لا مع ولا ضدّ، وكلنا
نعلم أنّ الفلسفة لا تتعايش مع الدين، وليست محايدة إزاءه، بل
مهمتها هي تدميره والقضاء عليه باعتباره آخر معقل من معاقل
الرجعية والتخلّف والجهل والعنف.
* هل يمكن نعت مقاربتك للظاهرة الدينية بالعلمانية أو اللا
إيمانية أو الإلحادية؟
مقاربة عقلانية مَبنيّة على معطيات موضوعية وعلى فحص
نظري في هذه الظاهرة وملابساتها. لمعرفة هذه الظاهرة
الدينية يجب الإلمام، قدر الإمكان والطاقة، بمختلف جوانبها
التاريخية وتشكلاتها الأسطورية والتغيرات التي طرأت عليها
والاستعارات التعاليمية التي استقاها كل دين من الآخر،
وأقصد بالتحديد الأديان التوحيدية الثلاثة. وهذا ليس من باب
الترف الفكري وإنما وقاية للمفكر في جهده النظري كي لا يقع
في تعميمات متسّعة وتبسيطات مخلّة، أو يصدر أحكاماً قيمية
غير مُدعّمة بما يكفي من الوقائع التاريخية والتحليلات النظرية
المناسبة.
* كيف يتم التعامل الآن مع مثل هذه المقاربة للظاهرة الدينية في
الثقافة العربية الإسلامية؟
أظن أنّ هناك عدداً قليلاً من المفكرين العرب الذينتجرّؤوا على
القيام بمقاربة نقدية للدين الإسلامي، كان ذلكفي فترة الستينات
والسبعينات من القرن الماضي (نذكر مثلاً «الثالوث المحرّم»
لبوعلي ياسين)، لكنْ إثرها بقليل بدأ الخطاب يتغّ ويأخذ ملمحاً
إسلاموياً مُتخفّياً، خصوصاً مع الجابري وأركون وأتباعهما،
وتحوّل من خطاب عقلاني علماني ومن مطلب تحقيق مبادئ
التنوير لخلق مجتمع متحرّر من أسر الدين، إلى كيفية التعامل مع
التراث الإسلامي، ووفق أيّة شروط يمكن أن نتحدّث عن عقل
إسلامي، وما هيخاصياته ومحدداته؟ وما العناصرالتي يمكن أن
نقبلها من تراثنا والتي يجب أن ننبذها ونستبعدها؟ وهكذا رجعنا
إلى نقطة الصفر، ولمدة أربعين سنة سقطنا في دوامة إشكالات لم
حوارات
حوار مع المفكر التونسيمحمد المزوغي
أوروبا وارتباطها بالإرث اليهودي المسيحي. قال: «إننا نحن
الأوروبّيين لا يمكننا حقاً أن نتقبّل مفاهيم من قبيل الأخلاق
والإيثيقا، الشخصيّة والفرديّة، الحرية والتحرّر ...، من دون
تمثّل جوهر فكر تاريخ الخلاص المشتقّ من اليهودية ـ المسيحية».
ودائماً على المنوال نفسه وفي الكتاب نفسه يرى أنه دون وساطة
اجتماعية وأيضاً دون تحوير فلسفي من طرف دين عالمي كبير،
ربما في يوم ما هذه الطاقة الدلالية ستبقى مغلقة عنّا. الفلسفة لا
تستطيع أن تُغطّي على الدين أو تزحزحه من مكانته، وهذه فكرة
رجعيّة تحريفية، يكرّرها المُتديّنون في جميع الملل. لكن أن تصدر
من فيلسوف «عقلاني» «تنويري» فهذا أمر يثير تساؤلات عن
مدى جدّية ومصداقية قائلها. حتى لغة الدين بالنسبة لهابرماز
تحمل في ذاتها قوة بيانية كبيرة وتحافظ على حقها الذاتي، وسيبقى
الأمر كذلك ما دمنا غير قادرين على إيجاد لغة أكثر إقناعاً للتعبير
عن التجارب والتجديدات المخزّنة فيه. إنّ ثقة هابرماز في قدرة
الدين على إضفاء معنى للحياة لم تخبُ منذ تسعينات القرن
الماضي، ورغم استخدامه لمصطلحات ُعنة في التجريد فإنّ
ماهية أفكاره يمكن إدراكها إن نَقّيناها من قشرتها التجريدية.
إنه موقف غريب جداً، فيه خنوع للدين بصورة رجعية، وتملّص
حتى من إرث التنوير. والدليل على ذلك أنه بعد أن قدّم للمجتمع
الفلسفي نسقاً متكاملاً إلى حد ما عن نظريته الفلسفية لفعل
التواصل، فهو يصحّح معلومات نقاده، أو بالأحرىيحذر كل من
اعتبره، من قرّائه الماركسيين الملحدين، علمانياً مناهضاً للرجعية
الدينية، أنّ العقل التواصلي لا يعني معارضة الدين ولا سحب
البساط من تحت أقدام اللاهوتيين والإكليروس. هابرماز يحدّد
بدقة صلوحيات فلسفته: «العقل التواصلي لا يتحقق في نظرية
إستيتقية، مثلصفيحة اللون السلبي للأديان المُعزّية. فهو لا ينشد
العزاء لعالم تخلى عنه الله، ولا يعطي لنفسه الحق لكي يكون بطريقة
أو بأخرىعزائياً. فهو يتخلىحتىعن وضعيته الاستثنائية. وبما أنّ
العقل التواصلي، في وسط الخطابات التأسيسية، لا يقدر على إيجاد
عبارات أفضل مما يستطيع أن يقوله الدين، فهو بالتالي سيتعايش
معه، متخذاً موقفاً محايداً، دون مساندته أو محاربته». لقد أعجبت
هذه التخريجة اللاهوتيين وارتكزوا عليها للذهاب أبعد من خيار
هابرماز مقترحين عليه تضامناً بل عملاً مشتركاً. هل توجد
كلمات أفضل من هذه؟ يتساءل إيدموند آرنس أحد اللاهوتيين
الألمان بعد أن قرأ عبارات هابرماز هذه. «السؤال مفتوح وموجّه
إلى هابرماز أيضاً. العقل التواصلي يتعايشمع الدين بل وحتى مع




