Next Page  180 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 180 / 362 Previous Page
Page Background

180

2016 )9(

العدد

نخرج منها أبداً. زد على ذلك أنّه في اللحظة التاريخية الراهنة،

ومع عودة الإسلاميين إلى الصدارة، نلاحظ تراخياً فكرياً مذهلاً

من طرف المثقفين الذين من المفروض أن يدافعوا عن العقل

ضد التجليات الأسطورية، وأصبح المشهد سورياليّاً حقاً، إذ

أننا نرى مفكرين علمانيين لم يكن لهم حتى عهد قريب أية علاقة

باستيهامات الأديان، (البعض، لكيلا أعمّم)، وإذا بهم قد ركبوا

ركاب المنافحة وأصبحوا من أكبر المدافعين عن الدين، وأشرس

من يذبّ عنه في كل المحافل و ُسّن من صورته مُقلّلاً من شأن

التعارض بينه وبين متطلبات العقلانية الحقة، لا عقلانية، «نعم

ولكن». منعرج في رأيي لا ينبئ بخير.

* ما العوامل الفكرية والتيارات الفلسفية؟ ومن هم الفلاسفة

الغربيون الذين ساهموا حسب رأيكفي هذا المنعرج؟

ربّما الثنائي نيتشه ـ هايدغر قد ساهما بقسط كبير في هذا الشأن.

ولا ننسى البعد اللاعقلاني لفلسفة نيتشه، وهو بّ منذ كتاباته

الأولى، وأقصد مولد التراجيديا، حيثعّ هناك عن موقفٍ معادٍ

للعلم الوضعي وللعقلانية بصورة جلية، قائلاً إنّ التفكير السّببي

الذي يدّعي الوصول إلى أغوار الوجود وأعماقه، والقدرة، ليس

فقط على معرفة الأشياء بل على تقويمها والتأثير فيها، هو وهم

ميتافيزيقي. أمّا هايدغر فالجميع يذكر قولته الشهيرة إنّ العلم لا

يفكر، حتى وإن خففمن حدّتها قائلاً إنّ العلم لا يفكر في مبادئه

ومعطياته الأولى لأنه يقبلها كمسلمات. ولكنّ مفعول هذه القولة

مدمّر جداً، وصداها لم يخفت بعد، فهي استفزازية محبطة، تلعب

على الكلمات وتنتهج الغموض للتحقير من العلم، ومعه كل

مكونات الحداثة، من تنوير وعقلانية وفيلولوجيا نقدية... إلخ.

والدليل على ذلك أنّ الرجل لم يتزحزح عن موقفه هذا، بل ذهب

أبعد من ذلك وضرب العلماء في أشخاصهم قائلاً بالحرف: إنّ

العلم هو «نفي لكل معرفة، ولذلك فإنّه لا أحد من الحكماء يَكنّ

die er�

مشاعر الحسد تجاه العلماء ـ أحقر عبيد العصر الحاضر

(

)»، وقد جاء هذا

bärmlichsten Sklaven der neuesten Zeit

،

45

الكلام في دروسه بعنوان (المسائل الأساسية للفلسفة، ج.

). لماذا يصبّ فيلسوف ألماني جام

4

من أعماله الكاملة، الصفحة

غضبه على العلماء في تلك الفترة بالذات حيث اكتشف آينشتاين

نظرية النسبية المذهلة، وأخذت تتمتّن النظرية الذرية عن طريق

تجاربمخبرية حاسمة وتتوسع معارف الإنسان بالكون ومكوّناته

الكبرى والصغرى؟ لأنّ هايدغر لاهوتي، وهو نفسه الذي يقرّ

ich bin ein christlicher Theol�

بذلك«أنا لاهوتي مسيحي»

(

)، ومن لاهوتي مسيحي أو إسلامي أو يهودي لا يمكن أن

oge

تنتظر تثميناً للعلم أو إشادة باكتشافات العلماء. إذا كان العلم هو

نفي للفكر فما هي البدائل أمام هذا الخراب؟ الأسطورة والدين.

الأسطورة لا تُنافي العقل، هكذا في رأي هايدغر، وهي ليست

تصوّراً خاطئاً للعالم ولا تأويلاً يمكن الكشفعن زيفه باستخدام

المفاهيم الفيلولوجية النقدية، بل إنّ الاعتقاد في أنّ الأسطورة

)، هذا الاعتقاد

λογος

) وقع تحطيمها من طرف العقل (

μυθος

(

هو مجرّد فكرة مسبقة اعتمدها التاريخ النقدي والفيلولوجيا، كلها

مستمدة من عقلانية التنوير الحديثة. الأسطورة، بما أنا انفتاحُ عالمٍ

ما، هي دائماً في الصواب. وفي هذه الحال، وطبقاً لمنطق هايدغر،

ليس لدينا الحق في الحديث عن زيف الأسطورة، وإنما عن صيغة

مختلفة لتجربة الحقيقة، التي تتشكل في الأسطورة بحسب جدلية

المقدّس والمدنّس. ليس الأسطورة فقط وإنما الدين أيضاً يبقى

صامداً أمام أي فكر علمي وأي منطق، ذلك أنّ «ما هو ديني لا

يمكن القضاء عليه بالمنطق»، فهو آلة ضعيفة لا تفلّ في الدين أبداً.

وهكذا مع هايدغر انتصر الدين والأسطورة على المنطق والعقل،

لا أبالغ وإنما كلّ هذا نقرأه في كتبه ودروسه، والكلمات الأخيرة

نجدها في كتاب (مجموعة محاضرات: ما معنى التفكير؟).

في الثلاثيناتمن القرن الماضيوفي أحد دروسه ذهبأبعد

منضرب العلم، تصدّى لكل من يقول في الأسطورة كلمة

سوء. قال مستنكراً: «بأيّ حق نُقرّر هكذا بكل تسّع أنّ

mit welchem Recht dekretie�

الأسطورة هي خرافة؟

(

.» )

ren wir einfach,der Mythos sei Aberglaube

فهو لا يرضى حتى بأن نصف الأسطورة بأنا خرافة، لأنّ

في ذهنه ليس هناك من فارق نوعي بين العلم والأسطورة،

والعلم لا يسمو على الأسطورة من حيث قدرته التفسيرية:

«إذا سلمنا، أو بالأحرى، إذا فهمنا في العمق أنه حتى في

الأسطورة تكمن حقيقة أصيلة، إذن بكل وضوح، لن

يبقى هناك أي فارق بنيوي بين حقيقة ما قبل علمية (يعني

أسطورية) وحقيقة علمية، ولكن بينهما يوجد فقط اختلاف

في الدرجة ـ اختلاف راجع إلى واقع أنّ في المعرفة العلمية،

هناك أكبر عدد من المفاهيم والعناصر الفردية محددة بطريقة

أكثر دقة، فضلاً عن أنا في مجموعها، مفسة بأكثر فعالية».

المهدي مستقيم

حوارات

?