Next Page  181 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 181 / 362 Previous Page
Page Background

181

2016 )9(

العدد

لكن في نظر هايدغر كلّ هذه الخصائص الفائقة وكلّ القدرة

التفسيرية والتنظيمية لا تشفع للعلم ولا تُعلي من شأنه، لأنّ العلم

لا يحدد الموضع الذي تبدأ منه الحقيقة العلمية والتي تنتهي فيه

ما قبل العلمية. ذلك أنّ حقيقة الأسطورة أيضاً لها ميزة الوحدة

التنظيمية، وقوّتها تنبع من أنّ كل عناصرها موحدة في نسق محكم،

بينما في العديد من المعارف العلمية وَفْرَة المعطياتتجعلنا نغفل عن

حقيقة الكائنات.

وبالجملة، في عرف هايدغر، وأستشهد بكلامه حرفياً من

) «الحقيقة العلمية ليست

1928

خلال درسه (مدخل إلى الفلسفة

die wissenschaftliches Wahrheit

هي الوحيدة ولا الأعلى (

)». تصوّروا الكارثة

weder die einzige noch die

höchste

الفكرية التي نحن بصددها، تصوّروا كم هو خطير هذا الكلام،

وكم سيسعد به كل عقل مهووس بالدين وناكر لأفضلية العلم على

الأسطورة، بل أكثر من ذلككم كان سيسعد به أركون ومَن والاه؟

فعلاً، ألم يقل أركون إنّ الأسطورة لها مشروعيتها، وإنّ المقدّس لا

يُمسّ؟ لكنّ أركون اتّبع أنثربولوجيا ليفي شتراوس المنحدرة

من لاعقلانية نيتشه وهايدغر والتي صُدّرت للفكر الفرنسي في

السبعينات وهبّ ريحها على شمال إفريقيا، حيث شهدت هناك

رواجاً كبيراً بين المثقفين. وهكذا نرى كيف أنّ الدائرة أغلقت،

وعُدنا إلى نقطة البداية: نيتشه ـ هايدغر ـ ليفي شتراوس (فوكو،

دريدا، دولوز)، محمد أركون، محمد عابد الجابري، وصولاً

إلى المفكرين المحدثين، وأخيراً الالتقاء في بؤرة الوهابية، أي

النزول إلى قاع الجحيم دون الأمل في الخروج منه بتاتاً. لا تظنوا

أني أبالغ، بخصوص الأسطورة هناك موقف واضح وصريح

من طرف أركون عّ عنه في ُمل كتبه، ونجده حرفياً في كتابه

«الفكر الاسلامي قراءة علمية»، حيث يقول ما معناه «إنّ إعادة

الاعتبار للفكر الأسطوري، في الغرب، تمثل ردّ فعل على مرحلة

الانتصار المتطرّف للعقل التكنيكي، المركزي ـ المنطقي، والوضعي

(في القرن التاسع عشر وحتى منتصف هذا القرن). هكذا يبدو

أنّ زمننا الراهن يمتاز بأنه يعترف، وللمرّة الأولى، بالأسطورة

كأسطورة، وإدخالها مع كل قيمها الإيجابية (الواقعية) ضمن إطار

معرفة تعدّدية. يسمح لنا هذا الوضع المعرفي الجديد، بأن نفهم

كيفية اشتغال الفكر الديني، دون أن نضطر إلى معاكسته بالرفض

الاعتباطي للعقل المنطقي ـ المركزي». وهكذا مع أركون أيضاً فإنّ

أعزّ ما يملكه الانسان: العقل المنطقيخرجخاسئاً أمام الأسطورة.

* سجلت في بعض كتاباتك مجموعة من الفراغات والبياضات في

مشروع محمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط سواء على

مستوى المنهج أو على مستوى المادة المدروسة. هل لكأن تذكر لنا بعضها؟

على ما استقيته من مؤلفاتهم، حاولت أن أناقش كتابات

هؤلاء المفكرين بحكم انتمائهم إلى تيارات فكرية غير إسلاموية

يعني أنا تتّسم، أو هكذا يُزعَم، بالعقلانية التنويرية والعلمانية،

اخترتهم دون غيرهم لأنّ الجِهة المقابلة، يعني الإسلاميين ليس

لهم فكر ولا عقل، يردّدون ويلفقون أفكارهم من هنا وهناك

وغرضهم ليس علمياً وإنما إيديولوجي ظلامي. لقد تربّينا على

كتابات هؤلاء المفكرين وكانوا لنا قدوة في فترة تاريخية ما، ولكن

بعد مراجعة عميقة لما كنت قد قرأته، تبّ لي أنّ الأمر ليس كما

كنت أعتقد، وتبخّرت كل الآمال التي علقتها بهؤلاء. محمد

عابد الجابري مثلاً يتحدث في كتابه: تكوين العقل العربي عن

«المعقول» الديني مقابل «اللامعقول» العقلي، وهو فصل عقده

تحت هذا العنوان بالذات في كتاب «تكوين العقل العربي».

أين يتجّ هذا المعقول الديني؟ في التوحيد القرآني على عكس

التعدد الوثني، ولو تابعت هذا الفصل بعين ناقدة لرأيت كيف

تسي أمامك كل المكوّنات الأسطورية الدينية وإلصاقها صفة

العقلانية. أنا أرى أنّ هذا تسويق للوهابية، لأنّ خطاب الوهابية

مبنيّ كله على إشكالية التوحيد، وعلى تكفير الأديان الأخرى،

خصوصاً اليهودية والمسيحية، وصولاً إلى الفرق الإسلامية ذاتها

من شيعة ومتصوّفة، وفعلاً الجابري في ثنايا خطابه، يدين هو

أيضاً، وراء ثوب التحليل العلمي، التصوف والتشيع. أركون

أيضاً لم أرَ أنه يساعد على فهم دقيق للتنوير والعقلانية أو حتى

العلمانية، لم يتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً من الحركات الإسلامية

التي كانت في فترة تعيث في البلاد فساداً، بل إنه أبدى في بعض

الأحيان تعاطفاً معها، حيث قال بكل أريحية في إحدى حواراته:

«أنا لا أسمحُ لنفسي أن أجدّف بِدِينيّة جماعات، في حقيقة أمرها،

هي قوى اجتماعية تريد أن تنال حقوقها الاقتصادية والسياسية

في المجتمع». رغم نر الدماء ورغم الخراب الذي سبّبته تلك

الجماعات في العشريّة الدموية بالجزائر، فإنّ الرجل يملك الجرأة

للقول إنا قوى اجتماعية ترغبفي نيل حقوقها الاجتماعية.

أمّا جعيّط فاعتراضاتي تخص ليس فقط الجانب النظري

من تفكيره، فهو نفسه يرى أنّ العقلانية والإنسانوية أصبحتا

حوارات

حوار مع المفكر التونسيمحمد المزوغي