178
2016 )9(
العدد
المهدي مستقيم
حوارات
الثنائيات، من حيث إنّ القائلين بها لكي يُنقذوا الدين من براثن
النقد العقلاني التهديمي فهم مستعدّون لأن يتخلوا عن أبسط
قوانين المنطق والعلوم الصحيحة.
* هل تعتقد أنّ مجتمعاتنا في حاجة إلى حوارات عميقة بين
العقل الإيماني والعقل العلماني، مثل تلك التي جمعت الفيلسوف
هابرماز بالبابا راتسنغير، وأمبيرتو إيكو بالكاردينال كالرو ماريا
مارتيني؟
حوارات جيّدة لو أنا ساهمت مساهمة فعالة في إجلاء
الالتباس النظري، أو أثمرت شيئاً ملموساً ونافعاً للطرفين؛
لكنها أحدثت بلبلة في أذهان المتابعين للشأن الديني، واستياء
بين الفلاسفة العقلانيين. فعلاً لقد تساءلتُ عشرين مرّة: كيف
يمكن لفيلسوف مثل يورغن هابرماز، سليل مدرسة فرانكفورت
اليسارية، أن يتخذ في المدة الأخيرة مواقف فكرية ذات منحى لا
عقلاني رجعي؟ أن يشهد تفكيره منعرجاً دينياً خطيراً، الأمر الذي
ولّد لدى جلّ متابعيه العقلانيين نوعاً من الذهول والاستياء،
وعلى العكس من ذلك أثار موجة فرح وابتهاج وترحيب وتطبيل
بين مؤمني الأديان، خصوصاً من المسلمين والمسيحيين. لكنني
بالعودة إلى أعمال هابرماز اكتشفت أنّ هذه المواقف ليستجديدة
كلّ الجدّة، وإنما كان قد عّ عنها، على شكل جُرعات طفيفة
وعابرة، في بعض مؤلفاته السابقة. وقد أعلن منذ التسعينات
من القرن المنصرم عن موقف مبدئي، خرج في مؤلفاته الأخيرة
إلى العلن بصيغة أكثر حدّة. قال في مداخلته التعالي من الداخل
): «أعيد وأكرّر: «ما دامت اللغة الدينية تحمل في ذاتها
1988
(
مضامين دلالية مُوحِيَة لا بل حاسمة، والتي (إلى حد اللحظة)
تَتمنّع عن الخضوع للقوّة المع ّة للغة فلسفية، وتنتظر ترجمتها إلى
خطابات مؤسّسة حتى في شكلها ما بعد الحداثي، فإنّ الفلسفة لا
يمكنها لا تعويض، ولاحتى إزالة الدين». الرسالة واضحة جداً:
الفلاسفة العقلانيون مهما فعلوا لا يمكنهم إنتاج بديل للدين ولا
الإطاحة به كليّاً. ليس هذا فقط، بل في مجموعة المقالات التي
نشرها تحتعنوان «التفكير ما بعد الميتافيزيقي» على عكسما قاله
(باحتشام) في كتاب «نظرية الفعل التواصلي» من محاولة استبدال
الدين بأخلاق تواصلية، قام هنا بخطوة غير متوقّعة وتحدّث عن
ضرورة تمثّل الخطاب الديني، لا بل إنه يصرّح بشيء مدهش،
استبق به أطروحات اليمين الديني الذي يركز على مسيحية
واللاتينية بصورة مذهلة، وقد تتلمذ هو بدوره في أكسفورد على
أيدي واحد من أكبر المتخصصين في الفلسفة القديمة، جونتان
). كنا نتناول كتاباً من كتب أرسطو،
Jonathan Barnes
بارنس (
ونقوم بشرحه فقرة فقرة، وجملة جملة، كانت تمارين فكرية ممتعة
وبنّاءة. وبالجملة الاحتكاك بهذه العقول كان له تأثير على مساري
الفكري، ومَنحني حافزاً لكي أنل منهم أكبر قدر من المعارف
والخبرات، والغوصفي الفكر الفلسفي بكل ما أوتيت من جهد.
* أين وصلت العلاقة الصراعية بين العقل والدين في الثقافة
العربية الإسلامية؟
ليس هناك صراع بين العقل والدين، هذه الثنائية مُفتعلة
كمثيلاتها من الثنائيات الأخرى عقل/ إيمان، قانون موحى/
قانون بشري وضعي، حقيقة/ضلال، صواب/ خطأ، خير/
شرّ، معنى مجازي/ معنى حقيقي، وهذه الثنائيات هي الآن في
طريقها للا ّاء والتجاوز. هذه أطروحة أركون ومدرسته، وقد
تمسّك بها في مجمل كتاباته وسرّبها إلى أتباعه. لكنها وإن كانت
فعالة من الجانب الخطابي العاطفي فهي غير مُقنعة فكرياً، وفاقدة
لأيّ معنى من الجانب الفلسفي. إنا أطروحة عدمية كسولة،
ّ الطريق على الباحث وتُغنيه عن التحقيق الجدّي في
لأنا تُق
المسائل الفكريّة الهامّة. الحقيقة هي أنّ الثنائيات موجودة وثابتة
ولا يمكن الاستهانة بها. هناكصراع حادّ بين العقل والدين: أن
تكتشف قانوناً طبيعياً ليسكما تؤمن بالخوارق والجن والعفاريت
والحصان المجنّح الذي يسبح بين النجوم، الشريعة والقانون
الوضعي في تضارب تامّ: بين بتر عضو شخص ما أو جلده في
الساحة العامة أو تعنيفه لأنه لم يؤدّ فريضة دينية، وبين قانون
وضعي مُتعالٍ عن الهموم العقائدية يحفظ كرامة الإنسان ولا
يمسّ من صحّة أعضائه، هناك بون شاسع بين الصواب والخطأ،
هناك حاجز لا يمكن تجاوزه: أن تقول إنّ الشمسهي التي تدور
حول الأرض، كما يزعم أحد الأئمة الوهابيين، فهذا خطأ فاقع،
أمّا العكس، أي أنّ الأرض هي التي تدور حول نفسها وحول
الشمس فهذا صواب لا يمكن أن يبدّله أي كتاب دين أو شيخ؛
كذلك الأمر بين الخير والشرّ، أن يفجّر أحدهم نفسه لكي يقتل
أكبر عدد من الأبرياء فهذا عملشرّير في أقصىمراتب الشرّ، لكن
أن تُشفي شخصاً من مرض عضال أو تخترع دواء ينفع البشرية
فهذا عمل خّ في ذاته ولذاته. هناك خدعة في عملية تعويم




