205
2016 )9(
العدد
ترتبط بثقافة أخرى بحكم المنطق اللادوني والمجال العقلي
الذي تحدّث عنه دو شاردان، والذي يتيح التواصُل الثقافي
تحت المسمّى المتداول اليوم في شكل «مثاقفة» أو «تثاقف».
قبل عرض المنطق اللادوني في المثاقفة الذي لا تنفصل بموجبه
الثقافات تبعاً للمقولات المدروسة أعلاه (العنصر الأيوني
عند دورس، المجال العقلي عند دو شاردان،... إلخ)، بودي
37
أن أعرض باقتضاب ما يمكنني تسميته «المثلث الثقافي»
المركب من ثلاث محطات أساسية وهي «الثقاف» بوصفه نظام
الحقيقة الذي يميّز كل ثقافة؛ «الثقف» باعتباره نظام المعرفة المتاح
لكل ثقافة في نمط اشتغالها؛ «الثقافة» باعتبارها نظاماً في الهويّة
يتحدّد بالمقارنة مع النظامين الآخرين. أستعمل «الثقاف» للدلالة
على نظام الحقيقة الذي تضطلع به كل ثقافة ويشكّل العتبة المبدئية
لكلّ تصوّر وسلوك أو اللوحة الجامعة، الخلفية والخفية، من
حيث كونه وراء التصوّرات والسلوكيات يدبّرها ويوجّهها على
غير دراية منها. فهو لها بمثابة الخيط المتواري، الرفيع والهادي،
الذي تستقيم به وتتقوّم، تسير وُفقه وتنتهج به، تتسوّى وتعتدل.
الصورة التي يعكسها الثقاف هي الشيء المقوّم للاعوجاج،
يسوّي أمزجة الكينونة بأن يجد لها التوازُن فيما وراء الإفراط
أو التفريط. لكن، ينبغي تجريد الصورة عن الفكرة القيمية في
كون الثقاف باعثاً أخلاقياً أو زاجراً إيديولوجياً. لا أتحدث هنا
من منطلق قيمي (حتى إن بدا مهًّ في نتائجه)، لكن من منطق
أنطولوجي (الذي يبدو مهًّ في مبادئه وأصوله)، لأرى كيف
يشكّل الثقاف «الطبع» الخفي والغائر لكل ثقافة، هندستها
المتوارية التي تحتكم إليها في كل تصوّر أو سلوك، في كل نظر
أو عمل. إذا قمتُ بوضع الثقاف في نظام الحقيقة، فلأنه يشكّل،
من جانب آخر، «كينونة» كل ثقافة، الوضع الأنطولوجي الذي
تتواجد فيه. يتجسّد الثقاف في كل ثقافة كمجموعة من القواعد
والأحكام تدبّرها. فهو «الجسد» الذي يعّ عن أنظمتها التصوّرية
والسلوكية. لا آخذ الجسد هنا بالمعنى الحسيلجسم عضوي، لكن
بالمعنى الرواقي العريق في منظومة ُكمة، مشدودة الأوصار
- طرحتُ هذا المثلث بشكل مبدئي وجامع في: محمد شوقي الزين، «سؤال
37
، العدد
43
الثقافة من وجهة نظر فلسفية»، مجلة عالم الفكر (الكويت)، المجلد
؛ وسيكون أكثر تدعيماً وتطعيماً في الجزء
222-179
، ص
2014
، أكتوبر-ديسمبر
2
الأول من نقد العقل الثقافي، عنوانه «فلسفة التكوين وتأسيس فكرة الثقافة».
والأوتار. كل منظومة مترابطة من الرؤية والسلوك هي «ثقاف»
كل نظام (ثقافي، سياسي، ديني، لغوي،.... إلخ). يمكننا القول
إنّ الثقاف «يتجسّد» في كل ثقافة كمنظومة في الرؤية والسلوك،
ولا «يتجسّم» لأنّه ليس شيئاً حسياً يمكن لمسه، وإنّما هو شيء
حدسي، يمكن الوقوفعليه في دبيب الممارساتونظام الأعراف.
ما نراه أو نلمسه من القواعد والأحكام هي «الثقافة» فيتجلياتها
العملية في الدين والسياسة والأخلاق، وما ندركه من وراء هذه
التجليات هو «الثقاف» بوصفه السمة الأساسية والمتوارية لكل
ثقافة. ليس فقط «السمة» الثابتة والمميّزة لها، لكنه نظام التدبير
) الذي يمكن أخذه كمرادف لكلمة «أويكونوميا»
disposition
(
) العريقة: اقتصاد، تدبير المنزل، إدارة، تخطيط،...
oikonomia
(
إلخ. كانت لهذه الكلمة دلالات ميتافيزيقية بارزة في الكيفية التي
يدبّر بها الخالق شؤون العالم، واكتست بعد ذلك دلالات تاريخية
في الكيفية التي تدبّر بها المؤسسة الدينية (الكنيسة في المسيحية،
لسان حال العقيدة) شؤون الناس. أشكال هذا التدبير حاضرة
. أستعين
39
أو إسلامية
38
في نصوص تراثية عديدة، مسيحية
هنا بالدراسة الرائعة للسيّدة ماري جوزي موندزان «الصورة،
الأيقونة، التدبير» قصد تبيان أنّ ما أسميه «الثقاف» له علاقة
بالكلمة «تدبير» بالمعنى العريق لمفردة «أويكونوميا»: «بشكل
عام، تستلزم الأويكونوميا الكلاسيكية التنظيم الوظيفي لنظام من
أجل المنفعة، مادية كانت أو غير مادية. نموذج هذا النظام طبيعي،
لكن تسيير هذا النظام في المجتمعات يقتضي تحليل الوضعيات
.
40
والتدخّل البشري من أجل أفضل استخدام للغايات»
م،
828-Nikephoros, Nicéphore) 758(
- عند البطريرك نيكيفوروس
38
صاحب مؤلفات لاهوتية حول فقه الصورة في المسيحية والتدبير الإلهي للعالم
بواسطة الصورة.
م، صاحب رائعة في هذا المجال
1240-1165
- عند محي الدين بن عربي
39
«التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية» التي يمكن اعتبارها «أويكونوميا»
في الثقافة الإسلامية، من حيث التدبير الإلهي لشؤون الخلق بوظائف قدّم لها
الشيخ الأكبر الصيغ والمضامين.
40- Marie-José Mondzain, Image, icône, économie. Les sources
byzantines de l’imaginaire contemporain, Paris, Seuil, 1996, coll. «
L’ordre philosophique », p. 35.
التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف
مقالات




