Next Page  207 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 207 / 362 Previous Page
Page Background

207

2016 )9(

العدد

إذا كانت الحضارة المعاصرة تسير وُفق براديغم السعة أو

)، فإنّ خاصية

Paul Virilio

التسارُع كما بّ بول فيريليو (

الثقف هي التي تنطبق بشكل بارع على هذه الحالة المتسارعة

(اتصال سلكي ولاسلكي، مواصلات سريعة كالميترو والقطار

السيع والطائرة، الأنترنت أو الفضاء الأثيري،... إلخ). فالقيم

الإدراكية الأخرى مثل الفهم والفقه والعلم تبقى في مجالات

محصورة من التعاطي المعرفي والنظري، بينما يكتسح الثقف

مجالات واسعة من التجربة البشرية بحكم اليقظة الوجودية التي

تميّز الكائن (الإنساني والحيواني)، وبحكم السعة الحضارية

التي تميّز البشر اليوم. إنّ أقرب وسيلة إدراكية في معيشهم

اليومي وسبقهم المستقبلي هي الثقف الذي يمنح فُسحة حُرّة

من التخطيط والأداء والسلوك. وجود الإدراك الثقفي في مجال

خلفي وخفي هو الثقاف لا ينزع عنه مساره الحر في الأداء

والمتحرّر من العوائق الممكنة. بل يمكن القول إنّ الثقف يسعى

أساساً لأن يتجاوز جدلياً مجال الثقاف الذي ينتمي إليه ويتصرّف

فيه، تماماً مثلما أنّ الأفعال التكتيكية داخل الصروح الاستراتيجية

الحصرية والقسية لا تتعطّل بمجرّد تواجدها في هذه الصروح.

فمتى منعت كرة القدم مثلاً، بأحكامها القسية وقواعدها الثابتة

وطاقمها الرقيب، من الحركة العفوية للاعبين بأداء فني ومهارة

تقنية من أجل الظفر بالفوز؟

إذا كان الثقف ينبني على قيمة معرفية في سياق يتميّز بالعفوية

والمهارة، وإذا كان الثقاف يتميّز بقيمة وجودية في مجال قائم على

الثبوتوالرسوخ، فإنّ الثقافة المتجليّة بالأنواع الابتكاريةفيمجالات

السياسة والدين والفن والعلم تشكّل الميزان بين الثقف العفوي

والثقاف الراسخ، بين التكتيكي العابر والاستراتيجي المستقر.

فهي المكيال بين متناقضين هما بالأحرى متكاملان. تستقطب في

ذاتها هذا «الأكسيمور» بين ثقف حثيث ومتسارع وثقاف متجذّر

وبطيء. إنّا مربض التشاكل بينهما، لأنّ الثقف يشتغل في اللوحة

الجامعة، الخلفية والخفية، للثقاف؛ ولأنّ الثقاف لا يقوم أيضاً دون

ظواهر ثقفية تميّز التجربة البشرية في الحياة اليومية. إنّ الثقافة هي،

بشكل ما، التناقض الخلاق الكامن في الإنسان نفسه، بين ثبوت

يتأسّس عليه (هويّة، نظام، سمة) وتحوّل يتميّز به (إحساس،

géno�

حركة، انفعال)، أو الاختلاف الكائن بين «النمط الجيني»

(

) كما يُقال في البيولوجيا.

phénotype

) و«النمط المظهري» (

type

إذا كان على عاتق الثقافة سياسة هذا التناقض الكامن في الإنسان،

فإنّ المثاقفة ستكون، على هذا المنوال، سياسة التناقضات الكامنة

بين الثقافات بالبحث عن نقطة توازن بينها حتى لا يطغى بعضها

على بعضتحت أيّة ذريعة واهية. إذا كانت الثقافة هي أساساً قُدرة

الذات على مجاوزة ذاتها في الصنائع التي تبتكرها أو الروائع التي

) بالمعنى

esprit objectif

تخلّدها، وهو ما يُسمّى الفكر الموضوعي (

الهيغلي؛ فإنّ التقاء ثقافات هو ما يجعل الصنائع تتلاقى والروائع

تتلاقح، وتكون القيمة بينها هي «التثاقف».

أعمل إذن على تكميل المثلث الثقافي الذي أشرتُ إليه بعُنصر

جديد هو المثاقفة ليصبح عبارة عن «مربّع ثقافي»، يتركّبمن نظام

في الحقيقة هو «الثقاف» كمجالٍ متوارٍ يستحكمفي المجال المتحرك

الذي تمثله الإدراكات المعرفية والحركات التكتيكية؛ ونظام في

المعرفة هو «الثقف» كمجالٍ متحرّك يشكل العتبة المبدئية للثقافة؛

ونظام في الواجب هو «الثقافة» حيث تكون غاية الإنسان في ذاته

تبعاً لمقولة كانطية يبرّر بها الفلسفة الأخلاقية وتكون الثقافة لحظة

وُسطى بين ثقاف يمدّها بالأحكام والقواعد، ونظام الثقف تقوم

بضبطه وتنظيمه لدرء تشظيه وتبعثره؛ وأخيراً نظام في التواصُل

هو «المثاقفة» كمجال في التفاعُل بين الثقافات على قاعدة الإمداد

المتبادل والامتداد المشترك.

ربما من البدهي أن نقرّ بالاختلاف بين الثقافات بحكم الرؤية

والسلوك والانتماء، وأنّ النظريات الإثنولوجية والأنثروبولوجية

تُبرز كلها هذا الاختلاف الكائن بينها، وأنّه يستحيل اختزال

). إنّ الأطروحة

incommensurabilité

إحداها في الأخرى (

التي أدافع عنها، وهي فكرة تفيد البينية، مفادها أنّ المثاقفة تحقّق

جانباً من التشاكُل، لأنّا تقفعلى عتبة بينية، لادونية في أساسها،

تتجاوز الهويّةوالاختلاف. التشاكلإذنمجاوزة رؤيتينعقيمتينفي

. رؤية اختزالية

1

إدراك نظام العلاقة بين الثقافات أو الحضارات:

التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف

مقالات

المربع الثقافي

مثقافة نظام

التواصل

ثقاف نظام

الحقيقة

ثقف نظام

المعرفة

ثقافة نظام

الواجب