Next Page  206 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 206 / 362 Previous Page
Page Background

206

2016 )9(

العدد

تكتب في الصفحة نفسها أنّ ما يُفهم من «الأويكونوميا» هو

العلاقة. فهي بالتعريف علاقة تنتظم بموجبها الحياة (عضوية

provi�

) أو عنائي (

naturel

أو روحية)، وُفق مخطط طبيعي

(

). تتجسّد العلاقة بين الحدود المشكّلة للمنظومة المراد

dentiel

تدبيرها، والجسد هو أيضاً علاقة ترتبط بموجبها الأعضاء من

أجل سير متناغم وتدبير منسجم. إذا تسنّى لي تحديد الثقاف،

فهو هذه العلاقة الضمنية التي تدبّر بها كل ثقافة منظومتها

الرمزية. إنّه الهيكل الذي يتيح للثقافة أن تتّخذ هيئة ما. إنّه نظام

الحقيقة المتواري الذي يجعل من الثقافة ما هي عليه من سمات

وخصائص، وما تقوم بإنجازه من قواعد وأحكام. ينخرط

الثقاففي المجال التداولي بوصفه القاعدة وقد تمّ إنجازها تحت

)، إذا جاز لي اللجوء

sous le feu de l’action

نيران الفعل (

إلى استعارة استعملها بيير بورديو. ليس الثقاف (قاعدة، تراث،

قانون...) نظاماً حديدياً أو فولاذياً تذعن له الإرادات، بل هو

شيء يتمّ أقلمته في المجال التداولي للفعل البشري، شيء يتمّ

السير وُفقه، فهو «يوجّه» الأفعال بقدر ما «يتوجّه بـ» الأفعال،

وعكسه: أن «تتوجّه» الأفعال بالثقاف كفسحة تداولية في

الحرية، ولا تكتفي بأن «يوجّهها» هذا الثقاف. العلاقة كياسمية

إذا جاز لي العودة إليها بوصفها تداخُلاً بين الثقاف المتواري

والثقافة المتجلية، وكيف يتم الانتقال من أحدهما إلى الآخر

بشكل يُبرز التفاعُل بينهما. يمكنني أخذ الثقاف كـ«طبيعة

طابعة» يسِمُ سلوكاً أو تمثّلاً، والثقافة كـ«طبيعة مطبوعة»

موسومة في السلوك والتمثّل، بالأمر المتواري الذي يجعل تجليها

الرمزي أمراً ممكناً.

إذا كان الإنسان «يتوجّه» بالثقاف كإرادة فاعلة، ولا يكتفي

بأن «يوجّهه» الثقاف كإرادة منفعلة، فإنّ الأمر الذي ينطبق

على هذا الإنسان هو ما اصطلحتُ عليه اسم «الثقف». فهو

يثقف قيم التراث بتحيينها في اللحظة التداولية التي يتحرّك

فيها. معنى أنّه يثقف القيم التراثية، أي أنّه يتوجّه بها على سبيل

الإرادة الفاعلة، المجتهدة، الخالقة؛ ولا يكتفي بأن توجّهه على

سبيل الإرادة المنفعلة، المستسلمة، الخاملة. الثقف هو الإدراك

الآني الذي يحوّل القيم إلى عُملات قابلة للتصريف. يتصرّف

معها كصفقات رابحة، لأنّ الثقف كإدراك معرفي، آني وفوري،

يترادف مع مجموعة من الأفعال الإدراكية نصّت عليها القواميس

في شكل «لقم»، «لقف»، «رمي»، «روية»،... إلخ. كنتُ قد

حدّدتُ هذه الأفعال الإدراكية في صيغة استدلال عملي كالذي

سنّه أرسطو (مشورة/مداولة ـ خيار/قرار ـ تنفيذ/إنجاز)

ورأيتُ أنّ الاستدلال العملي الذي يتيحه الثقف ينبني على صيغة

مماثلة (رَوية ـ رمي ـ لقف/لقم). هناك فقط اختلاففي الصيغة:

إذا كان الاستدلال العملي الأرسطي يتركب في أزمنة هادئة من

الترتيب المنطقي والعقلي للفعل البشري (مشورة، خيار، إنجاز)؛

فإنّ الاستدلال الثقفي يتشكلفي أزمنة فورية تتطلب الفعل الآني.

لا غرابة في ذلك، وأسير هنا وُفق مخطط وضعه ميشال دو سارتو

وهو أنّ الأفعال الفورية في الحياة اليومية هي «تكتيكية»، ذات

مداخل تحتية ومخارج متوارية، تتطلب النباهة والذكاء، تقتضي

درس الوضعيات والسياقات للظفر بالأرباح والمستويات. الحياة

اليومية في رُمّتها مبنية على نمط تكتيكي في الأداء، فيما التشكيلات

النظرية والعملية القائمة فيها كأرخبيل متناثر مبنية في معظمها على

. يعني أنّ الحياة اليومية، في سيولتها العفوية،

41

نمط استراتيجي

ذات «منطق ثقفي» كالذي أحاول وضع لبناته النظرية هنا وفي

دراسات أخرى. الثقف هو إدراك معرفي لا يختلف في جوهره عن

الفهم والفقه والعلم، غير أنّه يزاوج بين النظري والعملي، لأنّه

ليس مجرّد إدراك ذهني من جرّاء ُعة اللقف والاستيعاب في

وضعية فورية (الحياة اليومية حُبلى بهذه الأشكال الثقفية: السعي

اليومي عبر المشيأو الركض، الرياضة، البورصة على المستوى المالي

أو التجاري، السعة مع وسائل الاتصال والمواصلات،... إلخ)،

لكنّه أيضاً إنجاز عملي بإقحام النباهة أو الموهبة في اللحظة القانصة

للفرص المواتية. وعليه، يعقد المنطق الثقفي علاقة وطيدة بزمان

،)

kaïros

عفوي غير الزمن الكرونولوجي، وهو «الكايروس» (

زمن المصادفات الجميلة والخير الجزيل والعطاء الوجودي في

نفحاته الآنية والعابرة التي ينبغي «ثقفها» على وجه السُعة في

اللحظة المناسبة.

- حول ثنائية الاستراتيجية والتكتيكية عند دو سارتو وتطبيقاتها العملية في

41

فنون الأداء

1- ،

الحياة اليومية، طالع: ميشال دو سارتو، ابتكار الحياة اليومية

العملي، ترجمة محمد شوقي الزين، الدار العربية للعلوم ناشرون/منشورات

؛ محمد شوقي الزين، ميشال دو سارتو:

95-90

، ص

2011 ،

الاختلاف، بيروت

منطق الممارسات وذكاء الاستعمالات، ابن النديم للنشر/دار الروافد الثقافية،

، الفصل الثاني: «الاستراتيجية والتكتيكية: «حصان طروادة» داخل

2013 ،1

ط

144.- 93

الصروح النسقية»، ص

محمد شوقي الزين

مقالات