200
2016 )9(
العدد
الطبقة المفكرة ووعاء التفكير: دو شاردان والمجال
العقلي
تتطوّر هذه النشأة السيكولوجية التي تُعّ الإنسان بصفته
أرقى وأعقد كائن في التاريخ البيولوجي للأرض نحو عتبة
:)
noosphère
أخرى هي ما يسمّيه دو شاردان المجال العقلي (
«عندما، لأول مرّة، قامت الغريزة في الكائن في رؤية ذاتها في
. يشير هذا
22
مرآة نفسها، إنّه العالم بأجمعه قام بخطوة كبيرة»
) مناسبة لغوية
réflexion
الانعكاس المرآوي الذي له بالتفكير (
وأنطولوجية كيف أنّ مجرّد غريزة كامنة في الإنسان أصبحت
تأمّلاً قائماً بذاته، قادراً على الولوج في الظواهر المعقّدة للوجود
قصد اكتناهها وفهمها وقياس أبعادها واستخلاص صورة أو
فكرة عنها. أصبحت الغريزة الدنيا الملتصقة بالأرض فكرة عُليا
23
تناطح السماء. يطلق عليها دو شاردان اسم «الطبقة المفكرة»
) مثل الطبقة المائية التي تنعكس فيها أشباح
nappe pensante
(
الأشياء المحيطة بها. عندما يرتقي الوعي نحو هذه الطبقة المفكرّة،
فإنّه سيجد علّة التواجُد-مع، لأنّ ثمة عدداً لا حصر له من
«الأوعية» (ربما «الوعي» لا يختلف عن «الوعاء» الذي توضع
فيه المضامين القصدية، لكن ينبغي أخذ هذه الفكرة بكثير من
التريّث) التي تتوافد على هذه الطبقة لتغترف من معينها وتتشرّب
بمياهها على غرار الإسفنج الذي يمتصّ السوائل.
يجد الوعي نفسه أمام أشياء أو ظواهر، أحياناً لا
يُدركها مباشرةً أو لا يفقهها نصاعةً، لكنها تتدفّق من
الطبقة المفكّرة المحيطة بالأرض، هذه الطبقة التي تحقّق
24
)
planétisation
شيئاً يسميه دو شاردان «الكوكبة» (
. لا يخرج الوعي عن ذاته ويستحيل عليه أن يخرج من المجال
الأرضيالذي يغترف من طبقاته. فهو يدور على ذاته تبعاً لدوران
الأرضعلى نفسها، يدور ويحور، وربما يحار ويحتار، لأنّ الدوران
يسبّب الدوخة وفقدان التوازن. لكن، أكثر من هذه الصورة
الحسية البدهية، ثمّة صورة مُثلى حول الكيفية التي يتواجد فيها
الوعي مع ذاته في التعرّف على شرطه الأنطولوجي، ومع غيره
22- Ibid.
23- Ibid., p. 201
24-P. Teilhard de Chardin, L’avenir de l’homme, Paris, éditions du
Seuil, 1959, p. 159.
في تواشُج وتعارُف متبادل على مستوى الشرط الحضاري. من
،)
Arbre de la Vie
خاصية الوعي أنّه يشتغل كشجرة الحياة (
شيء يتشعّب في الأوعية والأعصاب، بعدما تشبّع وتشرّب من
مياه الطبقة المفكرة. إنّ فكرة الشجرة أصلية أصالة الصورة
المجازية التي تنعتها (الأصل الفردوسي في شجرة المعرفة،
الأصل البابلي في شجرة الألسنة واللغات،... إلخ)، والعديد
من الصوفيات تشترك، باروكياً أو أيونياً، في صورة الشجرة التي
لها سيمانطيقا خاصة: الشجرة هي الإنسان (الإنسان الكامل عند
ابن عربي مثلاً)، بكل ما يحتمله هذا الأخير من قوى متعارضة
(حسية، خيالية، عقلية)، لكنّها متشاجرة تحت إمرة مبدأ متعالٍ
يضمن لها الوحدة في عين التبايُن والتنافُر.
إنّ التشاجُر الذي تجعله الطبقة المفكرة أمراً ممكناً وله القابلية
ُ الذي يجعل بين الفرديات
للإنجاز والتحقيق، هو التجا
المنعزلة وشائج وأمشاج من العلاقات المتفاعلة حيث «منتهى
) ليس شيئاً آخر، في كل حالة،
le Bout du Monde
العالم (
سوى منتهى كل عنصر منعكس، يحيا بمفرده الوحدة غير القابلة
لها
bout
. كلمة
25
للإيصال لما يفصله عن غيره من العناصر»
معنيان: تشير من جهة إلى منتهى الشيء، إلى آخر طرف يصل
إليه الشيء أو آخر طرف من الشيء؛ وتدل من جهة أخرى على
الجزء أو القطعة. منتهى ما يصل إليه الجزء (مضاعفة لكلمة
) هو أن يترابط مع غيره من الأجزاء مثلما تتفاعل الخلايا
bout
) جاعلةً ممكناً فكرة أو
synapse
العصبية عبر المشبك العصبي (
استجابة أو نباهة. كل جزء، رغم الوحدة التي يقبع فيها، فإنّ
له بالأجزاء اتصالات تحت إيعازٍ أيوني أو باروكي، أي تحت
وازع مونادي يفتح داخل الجزء مخارج لا بُدّية، أي لا بدّ منها،
ما له منها بُدّ: «إذا بدا ما قلناه لحد الآن صحيحاً، بمعنى وجود
26
«روح الأرض»، فإنّ عناصر هذه الروح لا يمكنها أن تتدافع»
؛ بل هناك تآلف مثلما تؤلّف الأبجدية نصاً ثم قصة. نحن
إزاء قصّة البشرية منذ أوديسّا التطوّر التي أعطاها دو شاردان
صفحات وافرة من التحليل والنقاش.
25- P. Teilhard de Chardin, La place de l’homme dans la nature,
Paris, éditions du Seuil, 1956, p. 139.
26- . P. Teilhard de Chardin, L’énergie humaine, Paris, éditions du
Seuil, 1962, p. 43.
محمد شوقي الزين
مقالات




