201
2016 )9(
العدد
ثمّة مغنطة كامنة في هذه الروح بحكم أنّ الأجزاء النفسية
الصادرة عنها ترجع إليها وتغترف منها، لأنّا ذاتسلوك دائري
مثل دائرية الأرض، حيث كل ما يخرج منها يعود إليها في دورة
طبيعية ونفسية، متحقّقة. يتعلق الأمر بروح مشتركة، مثلما هناك
طبقة مفكرة مشتركة يرتقي إليها العقل البشري للحصول على
مؤونة نظرية يفكّر بها، ومعونة عملية يشتغل بموجبها: «إنّ معنى
الأرض، بكشفه لكل واحدٍ أنّ جزءاً منه يوجد عند الآخرين،
يُبرز أيضاً، من كتلة الأحياء، مبدأ في الوُدّ الكوني: رغبة كل
27
عنصر في عنصر آخر والوفاء له في صُلب العالم الذي يتقدّم»
. هذه الفكرة رواقية في جوهرها ومبدئها، لأنّا تقرّر أنّ ثمة وُدّاً
كونياً يتعالى على الجزئيات المتناثرة والمتنافرة؛ وكانطية في نتائجها
بالبحث عن المشترك بين البشرية، بجعل الإنسان غايته في ذاته،
بمعزل عن النزوع الآلي الذي انتهى بأنيجعل الإنسان أداة للتطوّر
التقني، وبالتالي ضحية الاستعمال الإجرامي للتقنية كما حصل في
الحروب العالمية. إنّ أفكار دو شاردان، بزخم المباحث العلمية
والطبيعية التي أدرجتها، بقيت في حدود التصوّر الوضعي الذي
اكتسح أقاليم واسعة من التفكير الديني والفلسفي في منعطف
القرنين التاسع عشر والعشرين.
غير أنّ بعض الحقائق المتعالية التي أدرجها دو شاردان
بمجاوزة الحقائق الفيزيائية أو الطبيعية المحضة، كانت محط
اهتمام من المعاصرين أمثال إدغار موران الذي يستحضر
بصريح العبارة المجال العقلي ليدرس به عالم الأفكار، أو
يمكن القول بعبارة أكبرية (نسبةً إلى الشيخ الأكبر ابن عربي)
إنّ الأفكار هي «أمّة من الأمم» لها طبعها ونظام اشتغالها،
وهذا ما يمكن استشفافه ابتداءً من عنوان موران: «المنهج،
28
الجزء الرابع، الأفكار: مسكنها، حياتها، آدابها، تنظيمها»
. يدافع موران أيضاً عن فكرة مجال عقلي (نوسفير) ترتحل
فيه الأفكار بوصفها كائنات لا مادية قابلة للتطوّر والزيادة
والنماء مثل الأفكار العلمية، أو قابلة للتصلّب والجمود مثل
الإيديولوجيا. فالمجال العقلي هو فضاء مستقل عن العوارض
التي تطرأ على البشر، فهو بمثابة اللوحة الخلفية والخفية التي تدبّر
27- Ibid., p. 44.
28- Edgar Morin, La méthode, 4- Les Idées. Leur habitat, leur vie,
leurs mœurs, leur organisation, Paris, Le Seuil, 1991.
شؤونم. يمكن لهذا المجال أن تكون له قيمة بنائية في تشكيل
الثقافات والارتقاء بالتقدّم، لكن يمكن أن تكون له أيضاً قيمة
سلبية من حيث القرصنة التي تمارسها بعض الأفكار على عقول
البشر، فتكون أفكاراً عنصريةً مثلاً، أو انتحارية أو استبدادية،...
) الذي اعتبر
Pierre Auger
إلخ. كانت هذه فكرة بيير أوجيه (
أنّنا تحت سلطان الأفكار، بعدما كانت الأرض ترزح تحت
السلطان النباتي أو الحيواني (مثلاً، عصر الديناصورات).
هل يمكن القول إنّ النظرية الأفلاطونية حول سديم الأفكار
المتواجد في فضاء مستقل لم تنقطع عن غزو الفلسفات؟ هل هو
تحيين دائم لنظرية أصلية تجعل من الأفكار عالماً قائماً بذاته، يفلت
من الضرورة الطبيعية والبداهة التاريخية؟ دون الحديث عن عالم
أثيري منقطع كليّةً عن عالم الكون والفساد بالتعبير الأرسطي،
يمكن التسليم بفضاء نظري أو مجال عقلي تنتعش فيه الأفكار،
تتحوّل، تتبدّل، تتعدّل، تتفاعل مع الطبيعة والتاريخ، تتواصل
مع البشر، وتخضع إلى ما أمكنني تسميته بالإمداد والامتداد. فهي
تمدّ العالم المادي بخرائط في التنظيم والتنسيق التي بدونا يصبح
هذا العالم مجرّد كومة من الأشياء والكائنات المبعثرة؛ وتمتدّ في هذا
العالم بأن تتسلّل فيه، تنساب بين أطرافه، إلى منتهى ما يمكن أن
يصل إليه هذا العالم تبعاً لفكرة دو شاردان، أي أنّ الأفكار تتغلغل
في أدق تفاصيل الوجود، وتسي فيه سريان الدم في الشريان؛
تمدّه بالحياة النبيهة وتمتدّ فيه كحياة جارية. فهي تربط أجزاء العالم
المتناثرة في وحدة نسقية لا تعدم الفروقات والاختلافات. إذا كان
كل جزء لا معنى له في ذاته سوى بارتباطه بالأجزاء الأخرى لأنّه
يشكّل معها منظومة متواشجة، فنحن فيصُلب الشرط اللادوني،
لأنّ هذا الجزء لا يقوم دون الأجزاء الأخرى.
بهذا المعنى، يمكن الحديث عن «لا دونية» ثقافية يتعذّر فيها
أن تستقل ثقافة بمبدأ مطلق يميّزها عن غيرها ويمنحها الامتياز
والأفضلية، لأنّ هذا التميّز يفتح الثقافة على النزوع العنصريتجاه
الثقافات الأخرى، نزوع إقصائي تتوهّم فيه كل ثقافة أنّا تستغني
عن الثقافات الأخرى بمبدأ ميتافيزيقي يدبّرها (عرق صافٍ،
انتخاب طبيعي، اختيار إلهي،... إلخ). إنّ المنطق اللادوني ضدّ
هذه المزاعم، لأنّه منطق رواقي في جوهره، نسقي في بنيته، يجعل
الأجزاء لا تنفك عن بعضها بعضاً ما دامت تنتمي إلى المجال
الإنساني الواسع بجذوره الطبيعية وبفروعه الفكرية المتشاجرة
التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف
مقالات




