204
2016 )9(
العدد
الحقيقية في النص إلى الدلالة المجازية المستديرة بين التأويلات،
يمكنه أن يتقهقر في تغ ّه، يصبح عُملة صدئة من جرّاء التداوُل
وهو النعت الذي وصم به نيتشه الحقيقة في صيرورتها استعارة
متآكلة. هذه التجارة الرمزية بين النص والتأويلات، بين رأس
المال والصفقات، من شأنا أن توجّه المعنى نحو أرباح إذا كانت
العلاقة بينهما «لادونية»، أو نحو خسائر إذا كانت العلاقة احتكارية
وأيدولية تنتهي بتصنيم النص: «لا تنكشف «حقيقة» الأصل
سوى بفضاء الإمكانات التي تتيحها: إنّا ما تبديه الاختلافات
34
بالمقارنة مع الحدث الأصلي، وما تخفيه بتشكيلات جديدة»
. إنّ التجارة الرمزية بين النص والتأويلات هي احتمالية، لأنّا
رهان مفتوح على الربح أو الخسارة، بين ارتقاء المعنى نحو آفاق
جديدة من الافتتاح النظري والعملي، أو انحدار المعنى نحو أبعاد
غائرة من التميّع والتلف. بين الاحتمالين من الاستحالة (التحوّل
بالارتقاء أو بالانتفاء)، يشتغل التآوُل كإمكان «لادوني»: غياب
النص ببروز التأويل أو غياب التأويل ببروز النص، وهذا الغياب
هو بالأحرى تغييب كما ألفيناه في نظام المشهد للعتبة اللغْوية،
تغييب لشكل بحضور شكل آخر: «العلاقة «بالأصل» هي إجراء
.
35
في الغياب»
ما تقوم به التأويلات في علاقتها اللادونية بالنصوفيما بينها،
هو تغييب النص بإظهار نشاطها التأويلي في القراءة والتفسير
والترميز. غياب النص هو تواريه في التأويلات ذاتها كمحفّز
أولاً (يبيح، يتيح، يسمح) وكعنصر أيوني ثانياً، ينساب في
تعاريجها ويرتحل على سطوحها (يتغ ّ، يتعدّل، يتحوّل). النص
سبب إمكان التأويلات وعلة تمكين دلالاتها المتنافسة. فهو
متوار فيها وبها، يتحوّل في مجاريها ومياهها، يرتقي في إراداتها
ورؤاها، يتوزّع ويتنوّع في تشكيلاتها الرمزية والثقافية: «تبدو
هذه الحقيقة مغتربة فيما تسمح به، لأنّا تبقى ذاتها حقيقة أخرى
يستحيل اختزالها في المعرفة. إنّا شرط وليس موضوع العمليات
. هذه الفكرة التي
36
(التأويلية) النابعة منها. فهي تتيه فيما تتيحه»
أشار إليها دو سارتو مفيدة، لأنّا تُبرز بشكل بدهي اغتراب
النص في التأويلات أو استلاب الحقيقة في الدلالات المجازية
34- Michel de Certeau, La faiblesse de croire, op. cit. p. 213.
35- Ibid., p. 215.
36- Ibid., p. 213.
التي تقتنصها. اغتراب النصفي التأويلاتليسغربته. لا يصبح
النص غريباً وهو الأليف والمألوف لدى التأويلات في تجارتها
الرمزية معه؛ لكنه يغترب بأن يختفي فيما يتيحه في التأويلات من
إرادات ودلالات (غروب النص بشروق المعنى). فهو ينساب
فيها، يتموّج معها، يدوم أو يخلد بها.
سفر النص في التأويلات عبارة عن تيه وحيرة، وكل حيرة
هي دوران على رحى ما لا يمكن نعته أو وصفه: إنّه «هذا» بلا
هوية واضحة، أو «هنا» بلا أرضية معلومة. لأنّ النص يختلف
بماديته الحرفية عن التأويلات التي تسعى لمحاكاته بحياكة أنساقه
وحكاية مضامينه، وفي الوقت نفسه يتداخل مع هذه التأويلات
) يتعاضد ببنايتها وهياكلها: «هو
un corps
بأن يشكّل «جسداً» (
لا هو». «هو» النص عندما يُنظر إلى جسده الأبجدي والمعنوي،
و«لا هو» النصعندما يندمج في التأويلات على سبيل التناص أو
التأوّل. بين النصوالتأويلات إجراء في الغياب أو التغييب يسميه
دو سارتو «الحدّ»، لأنّ هذا الحد يفصل/يصل بينهما، ويجعل
العلاقة بينهما «لادونية». ثمّة فاصل ضروري يجعل النص ليس
التأويلات، وثمة واصل يجعل النص يتيح التأويلات بأن يتسلل،
خفيةً أو عنوةً، في خباياها الدهليزية: «الحد له وظيفة إباحية»
يقول دو سارتو. يرنّ الحدّ كإيقاع مرهب: الحدّ هو الفاصل
والفيصل، المقراض الحادّ، السيف المسلول، العقوبة الصارمة
والقاصمة في التشريعات القانونية أو الدينية،... إلخ. كيف ما
يقطع الأوصال يمكن أن تكون له وظيفة إباحية؟ هل نحن إزاء
أكسيمور يجمع بين نقيضين؟ لا ينبغي فهم الحدّ بالمعنى المبتذل في
القطع والبتر والحسم. يمكن أخذه أيضاً كمنتهى أو مآل: «منتهى
العالم» بتعبير دو شاردان، أو على غرار مقبس التيار الكهربائي. لا
يمكن للتيّار الفكري بين البشر أن يسي دون حدود أو منتهيات
تتيح التوصيل والتشبيك.
المجال الثقافي: «لادونية» المثاقفة
الحدّ ليس القطع. المنتهى ليس النَهْي. مظاهر بعض الكلمات
تفيد شيئاً، لكنّ ظواهرها تدلّ على شيء آخر. لأنّه لا شيء في
منتهيات العالم أو مآل المعنى يفيد الحظر أو البتر، لكن الإباحة
والإتاحة، ممّا يجعل الرابطة الأصلية بين الكائنات ممكنة،
والرابطة المعرفية والنظرية بين النص والتأويلات متحقّقة،
والرابطة الإنسانية بين الثقافات متجلية. منتهيات كل ثقافة
محمد شوقي الزين
مقالات




