222
2016 )9(
العدد
*
المنصف الوسلاتي
المقدمة
ليس بوسعنا أن نضمن لهذه المحاولة المتعلّقة بمقاربة علاقة
الفلسفة بالموسيقى قدراً من الطرافة وبعضاً من الجدّة إلا إذا ما
قلبنا النظر فيها على غير الوجه الذي تواترت به في تاريخ الفلسفة،
حيث الاستغراق الفلسفي لهذا الضرب من الفن ضمن الأفق
الإستيتيقي أين يتنزل كموضوع للجماليات شأنه في ذلك شأن
غيره من الفنون سعياً إلى الإحاطة بمعقوليته الجمالية، وذلك
من جهة اضطلاعه بتجسيد الحقيقة كما حددت الفلسفة معالمها
وشروط إمكانا قبلياً، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بمعاينة الطابع
الحدثي لهذه العلاقة حيث يكفّ فن الموسيقى بمقتضى ذلك عن
أن يكون مجرد مجال من المجالات الممكنة للانشغال الفلسفي
ليصبح نموذجاً يؤسس شروط إمكان التفلسف على نحو آخر،
وبذلك تكون علاقة فن الموسيقى بالفلسفة في تقديرنا حدثاً
بالمعنى الذي نشهد فيه قطيعة فكرية وانعطافاً تاريخياً.
فأمّا الطابع الحدثي للقطيعة فيتجلى في التغيير الجذري في
مستوى نموذج التفكير الذي بمقتضاه يكون الانتقال من براديغم
استعارة «العين» الذي يقضيباستغراق التفكيرضمن دلالة الرؤية
الذي شأنه استيعاب التفكير
1
والنّظر إلى براديغم استعارة «الأذن»
ضمن دلالة الإصغاء. وأمّا الطابع الحدثي للانعطاف التاريخي
فيتعّ في تأسيس قدرية للفلسفة لا يكون فيها الوجود أو الإنسان
* باحث من تونس
ـ في هذا السياق نحيل القارئ إلى مقال يضطلع فيه صاحبه بمعالجة استعارتي
1
العين والأذن ضمن الأفق الموسيقي
-Pierre,Plumerey, « Lire la musique », Musique et philosophie, in
Cahier du Séminaire de philosophie, Centre de documentation en
Histoire de la philosophie, N°4,1987,pp12- 13- 14- 15.ّ
والموسيقي
الفلسفيّ
)للنّظر والتمثل
Ob-jeter
بمعنى الكائن الملقى ـ أمام (
2ً
موضوعا
بل مجالاً للانفتاح على النحو الذي يكون فيه الفكر قريباً يصغي لما
يقولانه مضطلعاً بمهمة استيعاب ذلك القول وصياغته فيضرب
آخر من الخطاب لا يجعل من التفكير الفلسفي تفكيراً قريباً من
الوجود والإنسان مصغياً إليهما فحسب، بل ويمنح هذا التفكير
ضرباً آخر من «الكليّة» لا تستمد شروط إمكانا من السياق
النظري المعرفي ولا من السياق العملي الأخلاقي، بل تستمدّها من
السياق الإنشائي، الأمر الذي يجعل من التفلسف فكراً مبدعاً،
منشئاً وخلاقاً، بدلاً من كونه فكراً معلّلاً أو مؤسساً أو مشرّعاً.
لكن أن نرفع الموسيقى إلى مقام النّموذج المؤسس لضرب
آخر من التفكير الفلسفي استناداً إلى براديغم «الأذن» فذلك
لا يعني أنّ النّموذجية ههنا تتعلّق بالموسيقى كفنّ وإنما تتعلق
) في فنّ الموسيقى، سواء تمثلنا هذا
Musiké
بما هو «موسيقيّ»(
«الموسيقيّ» جوهر الوجود، أو تمثلناه تجسيداً لما هو أصيل في
الإنسان، وبصرف النظر عن كيفية النّفاذ إليه سواء على جهة
الرؤية والتعقّل أو علىجهة الإصغاء والاستجابة فإنّ «الموسيقيّ»
يتعّ كقاسم مشترك بين الفلسفات على اختلاف أنساقها، رغم
تجليه في كلّ مرة على نحو يتناسب مع هذا النسق الفلسفي أو
. على هذا الأساس وجب التمييز ههنا بين الموسيقى كفنّ
3
ذاك
و«المُوسيقيّ» كمرجع نحدد بحسبه دلالة الحقيقة أو كيفية
ـ انظر في هذا السياق ما أورده عبد العزيز بن عرفة من دلالة لمفهوم الموضوع
2
ضمن مؤلّفه «الدّال والاستبدال»، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى،
48
. ص
1993
ـ يحوز الموسيقيّ في بعض الأنساق الفلسفية دلالة «التناغم» ويُحمل في
3
البعض الآخر على معنى «الإيقاع» أو معنى «الضجيج» أو «الصراخ» أو غير ذلك
من الدلالات والمعاني، وسنعمد في هذا المقال إلى تقليب النظر في هذه المعاني
تباعاً بحسب السياق الفلسفي الذي نحن به وتناسباً مع مقصودنا منه.
مقالات




