230
2016 )9(
العدد
.
39
أصوات متعدّدة تجعلنا نعتبر المعطيات والوقائع ذاتها تأويلات
بهذا المعنى تكون الكلمة بالنّسبة إلى الفيلولوجي جسداً لصوت،
ويكون النّص أو اللّغة جسداً حاملاً للموسيقى، وشأنه إزاء هذا
الجسد أن يكون قارئاً جيّداً، أي منصتاً لما هو «موسيقي» فيه حيث
الانتباه لإيقاعه وزمنيته، وقد عّ نيتشه عن هذه القراءة الجيّدة
ذات البعد
40
Lento
وعن هذا الإصغاء المتريّث بتوسّله كلمة
الموسيقي، معترضاً بذلك على التسّع عند القراءة حيث الانتقال
السّيع من الدّال إلى المدلول انتقالاً لا يكترث بجسديّة الدّال ولا
ينتبه لما يتوفّر عليه النّصمن بُعدٍ موسيقي.
على هذا الأساس نتبّ معنى امتلاك المفكّر الفيلولوجي «لأذن
ثالثة» بهدف الإصغاء، حيث الاضطلاع بجسديّة النّصوالانتباه
إلى عمقه الموسيقي، وبهذا المعنى يكون الفيلولوجي موسيقياً
وفيزيولوجياً.
ثانياً: الدّلالة الفيزيولوجية الطبيّة والفلسفيّة التي يمكن أن نتبيّنها
انطلاقاً من تحديد نيتشه لطبيعة طريقته بما هي طريقة قائمة على
إزاء التعامل مع «الأصنام» و«المثل العليا»، بيد أنّ هذا
41
الإصغاء
الإصغاء يتخذ شكلاً طبيّاً فيزيولوجيّاً، وذلك من جهة اعتبار هذه
«الأصنام» أجساداً حاملة لأعراض مرضيّة. من هذا المنطلق نتبّ
كيف يوفّر السّياق الفيزيولوجي الطبّي أرضيّة أساسيّة لمهمّة الإصغاء
لدى الفيلسوف، وذلك أوّلاً من جهة اعتبار المثل العليا والحقائق
والمعتقدات أصناماً، وثانياً من جهة اعتبار هذه الأصنام أجساداً
مرضية، وثالثاً من جهة تأكيد ضرورة تشخيص هذه الأمراض
ومعالجتها عبر الإنصات. غير أنّ التشخيصوالمعالجة يستوجبان لدى
الفيلسوفضرورة توسّل «المطرقة» كأداة إصغاء لهذه «الأصنام».
إنّ «المطرقة» استعارة يتوسّلها نيتشه ليحدد من خلالها طبيعة
مهمته النّقديّة إزاء الأصنام من خلال فعل «الإصغاء» للأصوات
أو الموسيقى الناتجة عنضربات المطرقة، بكيفية نتبّ معها كيف
أنّ استعارة المطرقة تحيل لدى نيتشه إلى السّياق الموسيقي فضلاً
41/40
ص
22 §
المصدر المذكور سابقا
P.B.M
ـ انظر: نيتشه
39
Automne de l’année 1886 Aurore, Avant- ،
ـ انظر: نيتشه
40
18
ص
5§
.،الأعمال الكاملة ،السفر الرابع
propos
59
الأعمال الكاملة، السفر الثامن ص
C.I: Avant propos
ـ انظر: نيتشه
41
عن السّياق الطبّي، وذلك بهدف جعل الجسد أو الأصنام تتكلّم
وتنكشففي مستوى فعل الإصغاء. وبهذا المعنى تكون «مطرقة»
الفيلسوف الطّبيب قوّة ترغم الأخرس على الكلام من خلال
إثارة الأسئلة والتظنّن والارتياب، وما يترتّب عن ذلكضرورة
. ولكن إذا كانت هذه الأصنام خرساء
42
من إرغام على الإجابة
صامتة فإنّ صمتها يظلّ بالنّسبة إلى نيتشه صوتاً دالاً على المرض
فيزيولوجياً وطبياً، كما أنه دالّ على الفراغ واللاشيء فلسفياً.
إنّ مطرقة الفيلسوف تجعل الأصنام الخرساء تتكلّم وتعّ عّ
بداخلها وعّ تبطنه، أي تعّ عن هذا الفراغ الذي يعدّ في تقدير
نيتشه علامة على المرض. وبهذا المعنى أيضاً تكون «المطرقة» أداة
الذي يمثّل
43
الفيلسوف في الإصغاء إلى هذا الصّمت المرضي
أساس معتقداتنا وقوام الميتافزيقا بجميع مجالاتها وعلى امتداد
تاريخها. وعلى هذا النحو يكون إصغاء الفيلسوف فعلاً لا نميّز
فيه بين ما هو فيزيولوجي وما هو طبّي وما هو موسيقي، فجميع
هذه الإمكانيات تمثّل قوام هذا الإصغاء في مدلوله الفلسفي.
إنّ هذا التحديد لدلالتي الإصغاء يكشف لنا عن مدى أهميّة
استعارة «الأذن» لدى نيتشه في تحديد صورة الفكر وتحديد طبيعة
مهمته تحديداً يُعلّل الوضع المرجعي للموسيقى باعتبارها شرط
إمكان امتلاك المفكر لهذه «الأذن الثالثة» من جهة، وتفرّده بهذا
الضرب من الإصغاء من جهة ثانية.
إنّ ما يميّز صورة الفكر الذي يسعى نيتشه إلى تحديد معالمه
يتعّ في طبيعة مهمّته التي أضحت في تقديره إصغاء من خلال
توسّل «أذن» موسيقيّة دقيقة، وإنّ الفكر لا يصير عظيماً إلا إذا كان
قائماً على الإصغاء بجميع دلالاته، مثل هذا التحديد لصورة الفكر
ولمهمته يجعلنا نتبّ الطرافة والفرادة في تصور نيتشه لفيلسوف
المستقبل الذي يمتلك «أذناً» تمكّنه من الإصغاء إلى الصّمت كما
تمكّنه من الإصغاء إلى ما هو آتٍ. وبناء عليه لا يكون الإصغاء
.
44ً
لدى نيتشه ضارباً في القدم فحسب، بل ممتدّاً إلى المستقبل أيضا
59
ـ انظر: نيتشه المعطيات السابقة نفسها، ص
42
المرجع المذكور
Blondel : Nietzsche le corps et la culture :
ـ انظر
43
158
سالفاً ص
الأعمال الكاملة، السفر
A.P. Z.I De la prodigue vertu
ـ انظر: نيتشه
44
91
السادس، الفقرة الثانية ص
المنصف الوسلاتي
مقالات




