225
2016 )9(
العدد
على مستوى الصوت إنما هو في ناية المطاف محاكاة لحقيقة الكون
ولجوهره الموسيقيّ، ولذلك فإنّ جمالية الموسيقى (التناغم الصناعي
التقني) محاكاة لجمالية الكون باعتبارها جمالية منطبيعة أنطولوجية،
وشأن المحاكاة أنا لا تجسّد الحقيقة، وإنما تجسد صورة الحقيقة،
على اعتبار أنّ الصورة نسخة قائمة على المحاكاة. بهذا المعنى نميز
لدى أفلاطون بين الموسيقى كرؤية لحقيقة الكون، أي هي إدراك
«للموسيقيّ»، وبينصناعة الموسيقى كمحاكاة لهذا الجوهر.
بيد أنّ وضع الموسيقى ضمن سياق الفلسفة الأفلاطونية لا
يمكن استغراقه في مستوى التعارضبين الرؤية والصناعة أي بين
الطبيعة النظرية والوظيفة النفعية، إذ بالإمكان الانتباه إلى بعدها
الفنّي انطلاقاً من مفهوم التربية الذي يحوز وضعاً مركزياً ضمن
سياق التفكير الفلسفي الأفلاطوني.
ولكن إذا كان شأن الموسيقى كرؤية أن تضطلع بإدراك حقيقة
الكون حيث التناغم والاتساق والانسجام الذي يجسد الجمال
الكلي والكوني، وإذا كان شأن الموسيقى كصناعة إحداث اللذة
أي الاستجابة لما يقتضيه الحس الجسدي، فإنّ شأن التربية أن
، وذلك
14
تجعل من الموسيقى فنّاً ينهض بمهمة تربية للنفس
حيث تتجاوز اضطرابها وانعدام
Katarsis
من خلال تطهيرها
توازنا الناتج عن ارتباطها بما هو جسدي، وتتمكن تبعاً لذلك
من استعادة تناغمها وانسجامها، فيحوز بذلك فن الموسيقى
، لأنه إذ يحدث في النفس توازنا وتناغمها فهو
15ً
وضعاً إتيقيا
يجعلها تتجاوز الشرور الناتجة عن اضطرابها وتبلغ الخير الذي
هو مقصدها وغايتها. وبهذا المعنى يؤسس أفلاطون وضعين
للموسيقى: وضعاً فلسفياً يرفع الموسيقى إلى مقام الفلسفة من
جهة كونا إدراكاً للجوهر ورؤية للحقيقة، ووضعاً إيتيقياً يجعل
ـ انظر:
14
« N’est-ce donc pas, Glaucon, repris-je, que l’éducation musicale
est souveraine parce que le rythme et l’harmonie ont au plus haut
point le pouvoir de pénétrer dans l’âme et à la toucher fortement
[…]? »
Platon, La République,
trad.etnotes par Robert Baccou, GF,
Paris,1966 . III, 401 c-402 a. (p153.)
.26
المرجع المذكور سالفاً ص
Fubini
ـ انظر
15
غايته الخير الذي لا يمكن فصله
16
من فن الموسيقى مهمة تطهيرية
أفلاطونياً عن الحقيقة والجمال انطلاقاً من معنى التربية. على هذا
الأساس نتبين طبيعة العلاقة ما بين الفلسفة والموسيقى ضمن
سياق النموذج اليوناني الذي بمقتضاه تحوز الموسيقى وضعاً
فلسفياً وإتيقياً.
لكنّ هذه المقاربة اليونانية للموسيقى ولعلاقتها بالفلسفة،
بقدر ما أنا تستغرق البعد الفلسفي النظري والبعد الإتيقي
العملي، تظلّ مقاربة تفتقد إلى عنصرين أساسيين: العنصرالنسقي
من جهة، والعنصر الإستيتيقي من جهة أخرى، وذلك لكون
هذه المقاربة تظلّ مشروطة بالغاية منها سواء أكانت هذه الغاية
نظرية أو غاية إتيقية، لذلك يظلّ السياق الفلسفي اليوناني وافياً
بمقصوده غير وافٍ بمقصود الفلسفة.
مقاربة فلسفية نسقية - إستيتيقية
إنّ ما يميز المقاربة الحديثة للموسيقى يتعين أساساً في هذا
من حيث تمثل الفنون نظاماً أو نسقاً نتبينضمنه
17
الطابع النسقي
ضرورة كل فنّ وضرورة موقعه في هذا النسق، إضافة إلى تميز
هذه المقاربة ببعدها الإستيتيقي الجمالي للفن، بصرف النظر عن
الغاية الإتيقية والفلسفية منه، وبصرف النظر عن البعد الصناعي
والتقني. وضمن هذا السياق يمكننا أن نعّ طبيعة المقاربة
الحديثة للفن ونقدّر خصوصيتها.
تتميز المقاربة الحديثة لفن الموسيقى برؤيتها الفلسفية ذات
الطبيعة الإستيتيقية المحضة، بحيث لا تتمثل الفن من جهة
وظيفته أو مهمته بل من جهة طبيعته وحقيقته كفن، فضلاً عن
تحديدها للاختلاف الإستيتيقي بين الفنون، وهو ما يمكن أن
) الفلسفية لفن
schelling
نتبيّنه بوضوح من خلال مقاربة شلّنج (
الموسيقى.
إنّ ما يميز الفن بصفة عامة يتعينفي تقدير شلّنجفي كونه المجال
، والكليّ
18
الذي نشهد ضمنه تجسداً ل ّتناهي في مستوى التناهي
20
ـ المعطيات السابقة نفسها ص
16
.133
المرجع المذكور سالفاً ص
Fubini :
ـ انظر
17
ـ انظر:
18
ّمقالات
الفلسفيّ والموسيقي




