231
2016 )9(
العدد
بهذا المعنى نتبّ من خلال براديغم استعارة الأذن كيفية استحالة
الكيان إلى صراخ ونداء يجعل من الفكر إصغاء واستجابة لهذا
النداء، الأمر الذي يؤكّد نموذجية «الموسيقيّ» بالنسبة إلى الفكر
الفلسفي ومرجعيته في التفكير.
الخاتمة
لا يرتقي الموسيقيّ إلى مقام الوضع المرجعي وإحداثية الرؤية
بالنسبة إلى الفلسفيّ إلا بجعل الإصغاء قوام نظره وسبيله
في الانتباه إلى مقوّمات الجسدية في الإنسان والشيئية في العالم
باعتبارهما موطن المعنى وموضع الحقيقة، وما يترتّب عن ذلك
من فتح لأفق جديد للتفلسف لا يستغرق حقيقة الإنسان في
مفهوم الـ«أنا»، وإنما ينفتح عليه ككائن عيني بكل مقوماته التي
تنزله منزلة الـ«ذات العينية» التي تستغرق حقيقتها في «الباثوس»
موطن الموسيقيّ الذي يعّ عن صوت الانفعال وقد اختنق
وتحوّل إلىصراخ ونداء يعلن عن حضور آخر.
بهذا التمييز بين الأنا المجرد والذات العينية يمكننا أن نتبين
اللحظة التي بمقتضاها أضحى الموسيقيّ نموذجاً يوجه التفكير
الفلسفي نحو العيني، فأن يكون الموسيقيّ نموذجاً بالنسبة إلى
الفيلسوف فإنّ ذلك يعني اضطلاع التفكير الفلسفي بجسدية
الإنسان، باعتبار أنّ هذه الجسدية موطن الحركة والإيقاع
والانفعال، وهي مقتضيات الموسيقيّ وشروط إمكانه. ومن هذا
المنطلق نتبين رهانات تحول الموسيقيّ إلى نموذج للفكر الفلسفي
ومرجعيته الأساسية.
إنّ اضطلاع الفلسفة بالانتباه إلى ما هو جسدي وانفعالي في
الإنسان، إنما يجري ضمن إطار التفكير فيما هو أساسي أولي
وأصيل، الذي يمكن أن يتجلى في تجربة الفن أو الدين أو غير
ذلك، هذا الضربمن التفكير الفلسفي فيما هو أصيلفي الإنسان
ينبني على مسلمة تقضيباعتبار هذا الأصيل قوام إنسانية الإنسان
الذي يتعّ كتجربة إنسانية خالصة قبل تشكيلها بتعقلها، كما هو
الشأن في مستوى السياق الفلسفي الميتافيزيقي حيث نموذجية
«العين». على هذا الأساس يتسنّى لنا أن نتبين كيف أنّ التفكير
الفلسفي الذي يتخذ من الموسيقيّ نموذجاً يعتبر هذا الأصل
هو الشيء الأصيل في الإنسان، وأنّ ما يلحقه من تجارب إنما هي
انحراف عن هذا الأصل وتشويه له، ذلك ما يمكن أن نتبينه مع
روسو الذي جعل من حالة الإنسان الأولى حالة البراءة ولحظة
التأصيل، وإنّ ما يلفت الانتباه في هذا الموقف يتعين في مقاربته
لهذا الأصل وربطه بالموسيقى معتبراً تلك التجربة الأصيلة بمثابة
قبل أن يصاغ صياغة نسقية فيخضع إلى التقنين
45
النغم الأولي
والتقييد، فتلك اللحظة الأولى هي الأقرب للإنسان كما هو،
في حين أنّ اللحظة الثانية هي تفكيك وصياغة وتشكيل لذلك
الأصل إلى الحد الذي يفقده أصالته، وبهذا المعنى نتبين كيف
أنّ تحوّل الموسيقيّ إلى نموذج وإطار مرجعي يجعل من الفلسفة
تفكيراً في الإنسان كائناً أصيلاً يتجسد في انفعالاته وجسديته، أي
في هذه الذات العينية الأصيلة.
أن تكون الموسيقى نموذجاً للفكر الفلسفي فإنّ ذلك من
شأنه أن يعين مهمة للفلسفة تتمثل في الانتباه إلى ما هو أصيل في
الإنسان، والتفكير فيه على جهة الإصغاء إليه باعتباره نداء يعلن
عن آخر غيّبته الفلسفة على امتداد تاريخها باتخاذ التمثل على جهة
التعقّل مقاس فلسفية التفكير وشروط إمكان النّظر. بهذا الوضع
المرجعي الذييحوزه الموسيقيّ بالنسبة إلى الفلسفة يستحيل الفكر
الفلسفي إلى آخر يصغي إلى آخر في صراخه ويستجيب له في
ندائه.
ولكن هل بالانتقال من براديغم العين إلى براديغم الأذن، وما
يترتب عن ذلك من تحول في طبيعة التفكير الفلسفي وفي طبيعة
مهمته، ضمان للقطيعة بين ضربي الفكر وتجسيد للانعطاف
التاريخي؟ أفلا يكون الإصغاء كيفية من كيفيات الرؤية والنظر
بالنسبة إلى الفكر الفلسفي ذاته؟ ثم أليس الإصغاء استئنافاً للفكر
بما هو رؤية ولكن على نحو آخر، بكيفية يكون معها الانعطاف
تكون القطيعة من مقتضيات الفكر الذي رسمت الفلسفة
Lege�
اليونانية قدريته منذ نشأته، حيث لا تمييز في فعل التفكير
(
؟
46
) بين الرؤية والإصغاء
in
ـ انظر:
45
- جان جاك روسو، محاولة في أصل اللغات، تعريب محمّد محجوب، الدار
، وفي السياق نفسه يمكن أن
73
. الفصل الثاني عشر ص
1985،
التونسية للنشر
نحيل القارئ على الفصل الثالث عشر من المؤلّف نفسه تحت عنوان «في النّغم»
.77
إلى الصفحة
75
من الصفحة
.11
, المرجع المذكور سالفاً ص
P.Plumerey
ـ انظر
46
ّمقالات
الفلسفيّ والموسيقي




