271
2016 )9(
العدد
قال موضّحاً طبيعة هذا العطاء: «وفي الانتظار أو في نداء ما
نسمّيه هنا الاعتقاد بعودة المخلّص من غير معرفة: إنّه مجيء
الآخر، وهو القراءة المطلقة لذلك الذي سيأتي بوصفه عدلاً، ولا
يمكن التقدّم عليه، وإنّنا لنعتقد أنّ مفهوم عودة المخلّص هذا
سيبقى سمة لا يمكن محوها، من سمات إرث ماركس، وهي أيضاً
من غير شكّ سمة من سمات الوارث، وسمة من سمات تجربة
.
5
الوراثة عموماً»
استعمل درّيدا عبارات التأكّد وعدم الشكّ، مع أنّ ميدان
البحث يتطلّب مقاربة متعدّدة الا ّاهات والأبعاد، تربط بين
اعتماد التّاريخ للفهم والاستيعاب، وعلم الأساطير واليوتوبيات
للتّحليق والخيال، واعتماد علم الاجتماع وعلم النّفس للتّحليل.
فالميدان فسيح ولا يعرف حدوداً في الظّاهر، وله تمثّلات
في مناخات جغرافيّة متنوّعة منذ الإغريق والعرب واليهود
والمسيحي ّ، وبالتّالي تشمل مذاهب وجماعات وعقائد عديدة
ذات الصّبغة الثنائية وال ّكية والتّوحيدية. ومهما كان نوع هذه
الماسيحانيّات فهي تستجيب لمواضعات وأهداف موجودة في
كلّ الثّقافات وكلّ العصور، ربّما تراءت في القطاع الدّيني أكثر،
ولكنّها ظلّت خفيّة تحت مظلات أنبياء جدد وأدعياء ومخلّصين،
منذ القرن التّاسع عشر بالخصوص، الذي شهد النّبوءات
والزّعامات واليوتوبيّات والحماسات الفيّاضة.
لم نر ظهوراً بارزاً لبحوث الماسيحانيّة والإسكاتولوجيا
والانتظار في الفكر العربي والإسلامي الحديث، ربّما بسبب
حساسيتها الدينيّة، وتداخلها مع حقول الثّقافة الإسلاميّة،
وبالخصوص مع التّفاسير والأحاديث، التي تمتزج فيها القداسة
.
6
والمهابة
- جاك دريدا، أطياف ماركس، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري
5
. يبدو أنّنا مع مثل تلك المقاطع المترجمة،
66
م، ص
2006،
بحلب، الطبعة الثانية
سنظلّ نعاني مشكلتين عند متابعة أفكار دريدا وشطحاته، الأولى: تتعلّق برداءة
ال ّجمة العربيّة نفسها، التي تصيب القارئ بصداع لا يمكن التعافي منه، والثانيّة
بالتحذلق اللّفظي الذي مارسه دريدا، وتدويخ عقل المتلقّي بصور من تشبيك
المعاني، والابتعاد بها عن المألوف، والاتّجاه بها نحو المدهش والمتفلّت.
)، وقد عرّفت
Eschatology(
- المعروف بالمصطلح الإنجليزي، الإسكاتولوجيا
6
موسوعة اليهود واليهوديّة والصّهيونيّة لعبد الوهّاب المسيري هذا الأدب بأنّه:
تتّسم الماسيحانيّة مثل أيّة ظاهرة إنسانيّة بالغموض والتّعقيد،
ولذلك فهي لا تخضع لقراءة عموديّة واضحة أو مقاربة محدّدة،
ولكنّها مفتوحة على التأويلات والتطلّعات وتعدّد المعنى، مثل
أيّة قراءة صوفيّة، فهي تحيل إلى معاني الوعد والوعيد والنّهايات
القريبة أو البعيدة أو الأشراط الكبرى والصّغرى، والانفتاح
على عوالم مغلقة ومنفتحة. المهمّ أنّا تحقّق البشارات والتطلّعات
والانتظارات.
وسواء تشكّلت هذه الانتظارات في قطب مكّ هو المسيح
المنتظر، أو المهدي الموعود، أو مصغّر هو الحلم بجنّة ما، أرضيّة
دنيويّة أو أخرويّة دينيّة، وسواء ارتكزت على مسيح أو غيّبته،
فإنّا تظلّ تنتمي إلى عوالم نفسيّة وباطنيّة متطابقة، تجليها وتكشف
عنها الظّروف والتّحليلات التاريخيّة والاجتماعيّة والعقائدية،
أو النّفسية الباطنية العميقة، وخاصة المتعلّقة باللاشعور ومرايا
النّفس الباطنة وانعكاساتها الخارجيّة.
وبعيداً عن القراءات الآحادية التي تختزل الظواهر في بعد
واحد، اقتصادي أو ديني أو نفسي، فإنّ الباحث في هذا الموضوع
لا بدّ أن يحدّد مجال النّظر وبؤرة ال ّكيز وتحديد الإشكاليات.
ويمكن التحرّي عن أيّة ظاهرة فكريّة في المجتمع باعتبارها إنتاجاً
ثقافياً، وتعبيراً عن إسقاطات أو هواجسدفاعيّة، تعّ عن الذّاتية
وعدم الخضوع. وإذا كانت أدوات الطّبيب هي العيادة والفحص
والأدوية، فإنّ أدوات الباحث هي استقراء الجهاز الفكري،
المكتوب والشّفهي، الفردي والجمعي، وتحليل معطياته ومراميه.
«الفكر الأخروي، ويُشار إليه في الإنجليزية بكلمة «إسكاتولوجي» من الكلمة
اليونانيّة «إسكاتوس» ومعناها «آخر» أو «بعد». ويشير المصطلح إلى المفاهيم
والموضوعات والتّعاليم الخاصّة بما سيحدث في آخر الزّمان، وإلى العقائد الخاصة
بعودة الماشيح، والمحن التي ستحلّ بالبشريّة بسبب شرورها، وال ّاع النّهائي
بين قوى الشرّ وقوى الخير (حرب يأجوج ومأجوج)، والخلاص النّهائي، وعودة
اليهود المنفيّ إلى أرض الميعاد، وإلى يوم الحساب وخلود الرّوح والبعث،
) والتي
Apocalypse(
وهي الموضوعات التي تظهر أساساً في كتب الرؤى
تعود جذورها إلى الحضارات البابليّة والمصريّة والكنعانيّة، وخصوصاً الفارسيّة
الزّرادشتية». انظر: عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهوديّة والصّهيونية،
.252/16 ،
م
1999،
دار ال ّوق، مصر
أدب الانتظار والخلاصفي الفكر الحديث ... مقاربة نفسيّة واجتماعيّة
أدب وفنون: نقد




