307
2016 )9(
العدد
مراحلها الأولى على الأقلّ ضمن إطار المسائل والأجوبة التي
ميّزت فترة المُشافهة في الثقافة العربية الإسلامية. والواقع أنّ ذلك
يفسّ بطبيعة هذه الثقافة التي تتّخذ من ثنائية السّؤال والجواب
إطاراً عامّاً لإنتاج المعرفة والكلام المنظّم، الواعي والدّال. وهذه
الألغاز التي تتّخذ من الطُرق الملتوية والغموض منهجاً تقوم
عليه، تعكسصورة نظام ثقافة الأمّة التي ابتدعتها. إنّه الغموض
الخلاّقوالمُنتج الذي يعتمد التلميح بدل التّصريح، وهو نظام وليد
الرّغبة في المعرفة، والحاجة إلى التعلّم والكشف عن طريق اختبار
قُدرات الفرد الفكرية وامتحانه، وذلك لما تُتيحه هذه الألغازُ
من إمكانات للتّشغيل الذهني، فهي «رياضة فكرية تهدف إلى
، وهي على حدّ عبارة «ابن فرحون
21
تقويم الأذهان وتشحيذها»
هـ)، ذات قيمة في التصوّر العربي الإسلامي،
799
المالكي(ت
لأنّا «تحدّ الأذهان وتفتحُ الجنانَ، وتُفاضلُ بين الأقرانِ، والعملُ
. ومن هنا
22
بها ثابتٌ في الصّحيح، وهي في البُخاري نصّ صريحٌ»
قد يتّخذ اللّغز، حسب الرؤية الإسلاميّة، بُعداً قُدسيّاً باعتباره
منصوحاً به، ويجعله مطلباً لكبار أئمّة المُسلمين.
هـ) في كتابه
733
هـ ـ
667
ُصّصُ شهاب الدّين النويري(
«ناية الأَرَبِ في فنون الأدبِ» قسماً في ذكر مرادفات عدّة للّغز،
وهي: «المُعاياةُ، والعويصُ، والرّمزُ، والمُحاجاةُ، وأبياتُ المعاني،
والمَرْموسُ، والتّأويلُ، والكنايةُ، والمُعمّى، والمُمثّلُ، والتّعريضُ،
، إلاّ أنّه بالرّغم من هذا الثّراء الذي يتميّز
23
والإشارةُ، والمَلاحنُ»
به اللّغز يظلّ معناه، وبحسب المؤلّف، واحداً. وفي مستوى آخر،
ُصّص
24
-هـ)
321
هـ
223
نجد كاتباً هو «الحسن بن دريد»(
. يذكر
25
للألغاز، ويُسميّها المَلاحن، كتاباً يُسميّه «المَلاحن»
171
، ص
1
- حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكُتب والفنون ، ج
21
- برهان الدين بن فرحون المالكي، درّة الغواص في مُحاضرة الخواص، تحقيق
22
محمد أبو الأجفان، عثمان بطيّخ، دار التراث، القاهرة، المكتبة العتيقة، تونس،
.63
(د.ت)، ص
155-154
- شهاب الدّين النويري، المصدر نفسه، الجزء الثالث، ص
23
- انظر ترجمة ابن دريد في: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، حقّقه وضبط
24
، بيروت،
1
نصّه وعلّق عليه بشّار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط
.594
، المجلّد الثاني، ص
2001
- ابن دريد، كتاب الملاحن، تحقيق عبد الإله نبهان، مكتبة لبنان، ناشرون،
25
1996 ،1
بيروت، ط
المؤلّف منذ المقدّمة السّبب الذي دفعه إلى تأليف هذه الملاحن،
فيقول: «هذا كتابٌ ألّفناه ليفزع إليه المُجبرُ المُطّهد [(كذا)،
ويشرحها المُحقّق في الهامش بالمُضطهد] على اليمين، المُكره
عليها فيُعارض بما رسمناه، ويُضمر خلاف ما يُظهر، ليسلم من
. معنى ذلك أنّ هذه
26
عادية الظالم، ويتخلّصمن حَيْفِ الغاشمِ»
الألغاز قد ا ّذت ذريعة للتمويه والإفصاح عّ لم تسْتطع اللّغة
المباشرة الإفصاح عنه، وبالتالي قد يكتسي ما لا يقوله اللّغز، أو ما
يومئ إليه الأهميّة ذاتها التي تربط عادة ما يقوله بالفعل.
وأمّا في مرحلة ثانية فقد ا ّذ الهدف من قول الألغاز مَنْحىً
مُغايراً، لتتحوّل هذه الألغاز إلى وسيلة من وسائل الترفيه،
تلجأ إليها الجماعاتُ داخل المجالس بهدف تمضية الوقت وقتله،
وتحوّلت بذلك إلى آلية من آليات اللّهو وال ّف وتحقيق المُتعة. بل
إنّ قول اللّغز أصبح يتطلّب شروطاً مُعيّنة مختلفة لا بدّ أن تتوفّر
في صاحبه حتى يتمكّن من ُارسة هذا النّشاط، لعلّ أهمّها اللّهوُ
وال ّفُ ويُسُْ العَيْش، ذلك أنّ الإنسان لا يُمكنه أن يلتفت إلى
الألغاز وفكّها إذا ما كان مُنشغلاً بأمور أخرى، كيف لا وقد
ربط «هوارد فيلب» في كتابه «الذاكرة» شرط الذاكرة السّليمة
- والذّاكرةُ تذكّرٌ، والتذكّرُ معرفة، والمعرفة شرط الإجابة عن
اللّغز- ربط كلّ ذلك بالرّاحة والصحّة الجيّدة، فنحن لا نستطيع
أنْ نتذكّر، وبالتّالي أن نعرف ونفكّر تفكيراً سليماً إذا كُنّا في حالة
تعب. يقول: «يجب علينا أنْ نبذل أهمّ قدر مِن الجهد في التذكّر،
. ويُضيف «نحن نتذكّر
27
عندما نكون مزوّدين بالرّاحة والنشاط»
.
28
أحسن تذكّر عندما نكون في صحّة جيّدة»
استخلاص:
يذهبُ «نادر كاظم» في كتابه «المقاماتوالتلقّي» إلى القول: «إنّ
إعادة الاعتبار التي يحظى بها نصّ من النصوص هي نتيجة من
نتائج إعادة تأويله، وذلك أكثر ممّا هي اكتشافجديد له بالدرجة
، وإذا كان مدار حديث المؤلّف ههنا يقع على مقامات
29
الأولى»
.2
- ابن دريد، المرجع نفسه، ص
26
- هوارد فيلب، الذّاكرة، ترجمة محمود عبد المنعم مراد، الناشر المصري،
27
.6
، ص
1947 ،
، القاهرة
1
القاهرة، ط
7
- هوارد فيلب، المرجع نفسه، ص
28
- نادر كاظم، المقامات والتلقّي، بحث في أنماط التلقّي لمقامات الهمذاني في
29
قراءةٌ في بنية الألغاز الأدبيّة ودلالاتها
أدب وفنون: نقد




