Next Page  306 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 306 / 362 Previous Page
Page Background

306

2016 )9(

العدد

اللّغز يكاد يكون أشبه «بالسّادي» الذي يتلذّذ بتعذيب الآخرين/

مُتقبّلي الألغاز، عكس المُتقبّل ذاته الذي يُمثّل فكّ اللّغز بالنسبة

إليه عمليّة مُقلقة وشاقّة لأنّا مصدر مُعاناة ومُكابدة فكرية. وهي

إلى ذلك تتطلّب جهداً من العمل الدّماغي غير يسير، واستثنائياً

أحياناً. لذلك لن يكون في متناول أيّ كان فكّ شِيفْرات هذا

اللّغز. ولذلك وُجدت شروط - لعلّ أهمّها أن يكون على دراية

بشتّى أنواع العلوم، مُتبحّراً فيها- وجب أن تتوفّر في هذا المتلقّي

حتى تتمّ عمليّة التّواصل والتّفاعل بينهما، إذْ أنّى لمُستمع لغز

«أ َُوزُ الوضوءُ ممّا يقذفه الثّعبْانُ»؟ إذا لم يكن خصيب الفكر،

ثَرّ العطاء، عَا ِاً بلِسان العرب ومعاريضه، ُيّزاً بين الثّعبان ذكر

الحيّة الضّخمة، وهو الاسم الظاهر المألوف وغير المقصود، وبين

الثّعبان مَسيل الوادي، وهو الاسم الخفّي غير المتوقّع، وهو، في

الآن نفسه، المعنى الجوهريّ المُرادُ، أنّى للمُتلقّي- إذن- أنْ يهتدي

إلى حلّ هذا اللّغز، وأن يكون ردّه بالإيجاب؟ قال ابن منظور:

.

16

«الثّعبانُ جمعٌ مُفردها الثّعْبُ، والمقصود به: مسيل الوادي»

ومن هذا التّلاعب الإيجابي بالألفاظ يُنتج الخطاب الألغازي،

ويشقّ طريقه نحو المُتلقّي.

وقد تتراوح صيغ الاستفهام وتختلف باختلاف الألغاز، ففي

لغز «ما هو الشيء الذي يتنفّس وليس له رُوحٌ ولا جسمٌ؟ كما في

لغز «ما هو الشيء الذيكلّما زاد نَقُصَ؟ يتحول أسلوبالاستفهام

منصيغة(أ) إلىصيغة (ما هو؟). وإذا كان السّائل قد رام في اللّغز

الأوّل، من خلال استعمال حرف الاستفهام(أ)، إلى طلب تفسير

شيء، والإجابة عنه بالنّفي أو بالإثبات، فإنّه في اللّغزيْن الآخريْن

إنّما يهدف باستعماله صيغة (ما هو)؟ إلى استفسار المُتقبّل عنشيء

مُفرد، ذلك أنّ «حرف «ما» الذي يُستعمل في السّؤال وما قام

مقامه في سائر الألسنة إنّما وُضع أوّلاً للدّلالة على السّؤال عن

، كما أنّ «سؤال «ما هو» الشيء يجعل المُجيب

17

شيء ما مُفرد»

يعرف أنّه «شيء» ويتصوّره بأعمّ ما يُمكن أن يُتصوّر به الشيء

.

18

ولم يكن تصوّره بصورته التي تخصّه، وهو نوع ذلك الشيء»

وقد تشترك هذه الصّيغ على اختلافها في كونا لا تنتظر إجابة،

فهي تهدف في الغالب إلى إحراج الخصْمِ وإفحامه وتبكِيتِهِ، ومن

- ابن منظور، (مادة ثعب).

16

165

- أبو نصر الفارابي، المرجع نفسه، ص

17

173

- أبو نصر الفارابي، المرجع نفسه، ص

18

ثمّة لا يستطيع الإجابة عنها، فيقضيبها مُرسل اللّغز علىخصمه،

ويكون هذا المُرسلُ (السّائل) بذلك مُفْحماً لخصمه (وهي الحالة

التي يعجز فيها المُجيب عن حلّ اللّغز)، ذلك أنّ «الصّبْحَ»، وهو

جواب اللّغز، أيّ أنّه «الشيء» الذي يتنفّس وليس له روح ولا

و«العُمرُ» وهو «الشيء» الذي كُلّما زاد نقص»، قد وُصفا

19

جسد»

بالشيء الذي هو أعمّ منهما، أي «الشيء»، بالرغم من أنّما أخصّ

من هذا «الشيء» الذي نُسبا إليه.

وفي الإطار نفسه يتّخذ لغز «ما هو الشيء الذي إذا أسقيناه ماءً

مات»؟ الصّيغة الاستفهاميّة نفسها. ففي هذا اللّغز يتّخذ المُرْسِلُ

من التّناقضوالتّضاد وسيلةً للتعمية، وإبعاد المتلقّي وتعطيله عن

الظفر بالإجابة. إذْ كيف يكون الماء نقيض الحياة وسبباً في الموت،

والحال أنّه رمزٌ لهذه الحياة؟ هذا ما يؤكّده النصّ القرآنيعلى الأقلّ،

الذي يُفترض من مُتقبّل اللّغز أن يتذكّره إذا كان على دراية كافية

به، وبشتّى العلوم الأخرى على نحو ما ذكرنا أعلاه، قال تعالى:

. لا شكّ في أنّ المُتكلّم بذلك

20

«وجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلّ شيءٍ حَيّ»

يتلاعب بمتلقّي اللّغز، وقد يفترض أنّه على علم بهذا التناقض،

ولكنّه لا يتردّد في إرسال لغزه حتى يُدخل فيه الاضطراب

والشكّ، ومن ثمّة يبتعد به عن هدفه الأساسي، وهو نيْل الإجابة

عن اللغز وهي «النّار»، أي إنّا هي «الشيءُ الذي إذا ما أسقيْناه

ماءً مات»، وهذه الإجابة هي المطلب الأساسي للمُتقبّل.

إنّ الإجابات التي حملتها هذه الألغازُ، وهي: جوازُ الوضوءِ ـ

الصّبْحُ ـ العُمُرُ ـ النّارُ، والتي غالباً ما تنطوي عليها الألغازُ، عادة

ما تأتي صادمةً و ُيّبةً لأفق انتظار مُتقبّل هذه الألغاز، وقارئها

مِنْ بعده، وعلى قدر ما يأتي نصّ اللّغز مُطوّلاً على قدر ما تكون

الإجابة ُتزلة، كلمة في الغالب.

. من دلالات الألغاز الأدبيّة:

3

يهدفُ هذا القسم من التحليل إلى الإجابة عن سؤال لماذا نتكلّم

بالألغاز؟ وللإجابة عن ذلك، يُمكن أن نُشير إلى أنّ الألغاز الأدبيّة

كانت قد مرّت في تشكّلها بمرحلتين ُتلفت ْ: ففي البدء كانت

الحاجة إلى هذه الألغاز أساسيّة، ويُمكن أن نُنزّل هذه الحاجة في

158 ،

- جلال الديّن السّيوطي، الكنز المدفون والفلك المشحون، ص

19

.30

- القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية

20

أدب وفنون: نقد

عبد الستار بن محمّد الجامعي