ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
55
2016 )9(
العدد
على خلاف ذلك، يُعتبر جون لوك ممثلاً للنموذج الثاني في
رؤية حالة الطبيعة، إذ لا تبدو هذه الأخيرة داخل فلسفته وضعاً
جهنمياً قاتماً، كما هو الحال بالنسبة إلى هوبس، بل إنّا حالة تتوفر
مبدئياً على أخلاقية ثاوية تحول دون ان تكون هذه الوضعية مضاداً
مطلقاً للحضارة، وذلك لأنّا بكل بساطة تتوفر على نواة من
القيم والواجبات الطبيعية التي وضعها الخالق في أعماق الطبيعة
الإنسانية، «لأنّ خالق البشر كافة صانع واحد قدير على كلشيء،
لا تحد حكمته، وهم عبيد لرب عظيم بثهم في الأرض بإرادته، لكي يقوموا على شؤونه، فهم مِلكه وخليقته، برأهم لكي يطول أجلهم
.
2
ما شاء، لا ما شاء أقرانم من البشر»
إنّ ما يحول دون بناء نظرية مدنية للحضارة مباشرة انطلاقاً من تأكيد غيرية الهمجي في فلسفة لوك، هو استحضار الفرضية الثيلوجية
للإله الخالق؛ ففكرة العبودية فيصورتها الثيلوجية تجعل الإنسان منذ المنطلق مطوّقاً بقائمة من الواجبات والحقوق، تمثل مرتكزاً مرجعياً
لرؤية العالم من منظور غير ذلك الذي قد ترسمه أنانيته الضيقة. وهذه العبودية الصالحة، إن شئنا القول، سوف تلعب كما سنرى دوراً
مهماً في تبرير حالات أخرى من الاستعباد والاحتلال؛ إذ ستبدو هي الأخرى نتيجة معقولة لفعل تنزيل وتحقيق الواجبات الاستخلافية
للإنسان في إطار حياته الدنيوية هذه.
ولعل أهمّ ما يميز بين حالة «البراءة» الأولى التي من واجب كلّ إنسان حمايتها، وبين وضعية الحالة الهمجيّة، هو الخلاف بين فكرة
تحرم الإرادة من كلّ
licence
الحرية من حيث هي إرادة مؤطرة بواجب الإحسان والعدالة، وبين فكرة الحرية من حيث هي إباحة
المرجعيات القيمية الكبرى، وتجعلها سجينة أفقها الضيق والقاتل. إنّ أعضاء حالة الطبيعة اللوكيّة يوجدون على الدوام تحت مقتضى
واجب الحفظ وتجنب التدمير؛ فالواجبات الطبيعية تقتضيمن الإنسان أن يحفظ نفسه، من حيث هو جزء من الخليقة، وليسعلى أساس
أنّه في مواجهتها. فمفتاح فعل الحفظ والعناية ليسهو الرغبة الأنانية التي توجد لدى البهائم أيضاً، وإنّما كون الإنسان هو صنيعة الإله،
ولذلك فبقاؤه ودوامه لا يشترطان بإرادة إنسان آخر، بل بما سطره الخالق له بدءاً ومنتهى. ولذلك فالإنسان «ملزم» بحفظ ذاته بفعل
الواجبلا حسب الميل الطبيعي، والحال أنّ هذا الواجب يستحضركلّ الخليقة، لا هذا الفرد أو ذاك.
هذا التصور العلائقي لفكرة حفظ الذات يخرج حالة الطبيعة من مستوى النظام الطبيعي، حيث تسود نزوعات هي أقرب ما تكون
إلى تلك التي تصادفنا في المستوى الطبيعي، حيث تسود قوى هي أقرب ما تكون إلى تلك التي تصادفنا في المستوى المادي الصرف ـ ما
يبرر في بعض الجوانب النزعة الميكانيكية لهوبس- إلى المستوى الاجتماعي الذي يتضمن مدنية أخلاقية قبل سياسية، وسابقة على ظهور
مؤسسات الدولة نفسها. لذلك فإنّ صورة «المجرم» الذي يمثل همجي هذه اللحظة ستصبح ممكنة داخل الاقتصاد العام لفلسفة لوك،
لأنّ وجود مرجعية قيمية مشتركة يخرج هذه الوضعية من حيادها الأخلاقي الكامل، مثلما تطالعنا به فلسفة هوبسعلىسبيل المثال، التي
تذهب إلى أنّ عبارات مثل السقة والغصب والظلم وغيرها من العبارات ذات الدلالات التجريمية، ممتنعة الوجود في حالة الطبيعة،
نظراً لأنّا كلها صيغ تنفي ما هو شرعي، والحال أنّه قبل بناء الشرعية المدنية وصلاحياتها التشريعية المتمثلة في وضع القوانين وحمايتها
لا مجال لمثل هذا النفي؛ فلا يمكن الحديث عن الظلم إلا بعد أن تتحدد مؤسسياً ماهيّة العدالة. لكن مع افتراض وجود هذه الأَنْوِيّة
الأخلاقية يصبح من الممكن تجريم أفعال بعينها، وتبرير سلطة عقابية قائمة حتى قبل المؤسسات التي ستجدها فقط بشكل أفضل، لكنها
لا تبتدعها من الأساس.
.146
، ص
1959 ،
ـ لوك (جون)، مقالتان في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدوليّة لترجمة الروائع، بيروت
2
جون لوك ... من الهمجيّة فقداناً للبراءة إلى الهمجيّة تخلفاً عن ركب الصناعة
أنّ تصور الهمجي والغيرية الحضارية على
العموم لا يُعدّ مجرد مفهوم عرضيلجوهر
الحضارة، ولا بعضاً من لواحقها التي يمكن
الاستغناء عنها، بل هو قطب مركزي ورئيس
في بناء الهويّة والتوازن الحضاريين




